; الفكر الأسود.. والفتنة الثقافية | مجلة المجتمع

العنوان الفكر الأسود.. والفتنة الثقافية

الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود

تاريخ النشر الثلاثاء 28-ديسمبر-1993

مشاهدات 14

نشر في العدد 1081

نشر في الصفحة 56

الثلاثاء 28-ديسمبر-1993

التيار الفكري الذي يسيطر على الساحة الثقافية الآن، مدعومًا من السلطة، هو تيار الفكر الأسود، الذي يضم خليطًا من اليساريّين والبعثيّين والطائفيّين المتعصّبين، والعلمانيين المؤمنين بالثقافة الغربية خيرها وشرها، ومنهجها السلوكي والتطبيقي بإيجابياته وسلبياته..

وتتفق فصائل «تيار الفكر الأسود» على نقطة واحدة تجمعها، هي مواجهة الإسلام، والمشاركة النشطة في حرب اقتلاعه من النفوس والصدور، وتشويه صورته بكل ما هو متاح من وسائل وأساليب، والتحالف مع كل سلطة ترى في الإسلام خطرًا على وجودها أو حركتها... ومن ثم لم يكن غريبًا أن تسقط دعاوى هذا التيار عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويثبت للناس في كل مكان- داخل العالم العربي وخارجه- أن دعاوى الفكر الأسود مجرد خدعة رخيصة ومكشوفة، للدخول إلى ساحة المواجهة مع الإسلام، والتكسب بهذه المواجهة...

الفكر الأسود في الفترة الأخيرة استطاع أن يجعل الإسلام رديفًا للإرهاب والظلام، عبر وسائل الإعلام التي تملكها الحكومات «الإسلامية»، وصار من يصلي الصلوات الخمس إرهابيًا وظلاميًا.. ومن ترتدي الحجاب الشرعي إرهابية وظلامية، ومن يقرأ القرآن الكريم إرهابيًا وظلاميًا، ومن يرفض الربا وشرب الخمر، والرقص الشرقي، والرقص الجماعي، واختلاط النساء بالرجال إرهابيًا وظلاميًا، ومن ينادي بتدريس التاريخ الإسلامي والدين الإسلامي إرهابيًا وظلاميًا، ومن يدعو للوحدة الإسلامية اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا إرهابيًا وظلاميًا، ومن يتنادى إلى مساندة المسلمين الذين يبيدهم الصليبيون المتطرفون الإرهابيون في البوسنة والهرسك، أو الهند، أو بورما، أو سيريلانكا، أو الفلبين إرهابيًا ومتطرفًا.. صار كل من ينتسب إلى الإسلام دمويًا متخلفًا يجب القضاء عليه بمفهوم تيار الفكر الأسود، وتصورات أصحابه، والذي يرضيهم هو أن يتخلى المسلمون عن الإسلام، ويتبعوا غيرهم دينًا وفكرًا، ومنهجًا وسلوكًا.. وعندئذ يصح أن يقال عنهم إنهم مستنيرون.. وهكذا صك «الفكر الأسود» مصطلح «التنوير»، أو «الاستنارة»، وبدأ الناس يتساءلون: هل أنت مستنير أم ظلامي؟ والقصد طبعًا «الاستنارة» هي التحلل من الدين، والخروج عليه، وعدم التقيد بمقتضياته كما فعل الأوروبيون ضد الكاثوليكية، عندما ثاروا على الكنيسة والإكليروس، ورجال الدين، وتدخلهم في شؤون الدولة والدنيا، والظلامية تعني التمسك بالدين والالتزام بتعاليمه، والسير على نهجه وتطبيقه دينًا ودولة، ودنيا وآخرة، وشريعة وطريقة، وبذا وضع الفكر الأسود الإسلام مساويًا للكاثوليكية، وأشار إليه أحدهم بأنه الثقافة السوداء؟ الراقدة في اللا وعي من عصور الانحطاط!

ولم يكتف أصحاب «التنوير» بتزوير الحقيقة المرتبطة بمفهوم الإسلام وتصوراته، بل خلطوا عمدًا- مع سبق الإصرار والترصد- بين رجال النهضة الحديثة الذين قاموا بإيقاظ الأمة على أسس من الوعي الإسلامي، وبين أولئك الذين ركبوا الموجة، أو دفعت بهم الجهات المعادية للإسلام إلى الصفوف الأمامية، أو الذين كانوا يعملون لحساب السلطات المستبدة، أو الذين نبتوا في بيوت الخيانة والعمالة للمستعمر الصليبي المتوحش!

إنهم يسمون النهضة الحديثة بالنهضة العربية، وقد كانت في حقيقة الأمر- كما يسجل التاريخ، لا كما يسجل المأجورون والمضللون-  نهضة إسلامية، صنعها رجال الإسلام في شتى المجالات منذ قام «عمر مكرم »- من علماء الإسلام- بعزل خورشيد باشا وتولية «محمد علي»، وإلباسه الكرك، وقام علماء الأزهر وطلابه بقيادة الشعب المسلم لمواجهة الطاغية الدموي الصليبي «نابليون بونابرت»، وهو يذبح المسلمين ويغتصبهم، ويربط خيوله في الأزهر الشريف، وكان «رفاعة الطهطاوي»- مع التحفظ على بعض أرائه- إمامًا يصلي بالبعثة المصرية في باريس، وكان جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعلي مبارك، وعبد الله نديم، ومحمود سامي البارودي، وعبد الله فكري والكواكبي والعقاد، يصدرون في معظم ما قالوه عن قصور إسلامي، حتى أولئك الذين كانوا ينتمون إلى النصرانية من أمثال أحمد فارس الشدياق «قبل إسلامه»، كانت ثقافتهم الإسلامية من وراء حركتهم في إيقاظ الأمة ونهضتها، ولا يمكن بالطبع أن نقبل «بمركستهم» أو «علمنتهم» كما يذهب أصحاب «الفكر الأسود».

كان هؤلاء الرواد يسعون إلى نهضة الأمة على أساس إسلامي، لا على أساس ماركسي أو تغريبي، وقد ضحوا في سبيل ذلك بأعمارهم وثرواتهم ومراكزهم، وقبل ذلك حرياتهم الشخصية، ومازال بيت البارودي يرن في أذني عندما فسر سبب محنته وهو في منفاه:

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني *** ذنب أدانُ به ظلمًا وأغتربُ؟

ودخل العقاد السجن، بسبب دفاعه عن حرية الأمة، وحقها في التعبير عن إرادتها، وظل تسعة أشهر يعاني من محنة حقيقية، خرج بعدها مرفوع الرأس، لم يتعلق بقلمه حكومة أو سلطانًا، ولم يفعل ما فعله «زعماء التنوير الخونة» حين نافقوا السلطة الغشوم، وبخاصة في عهد الطاغية الأرحل «جمال عبد الناصر»، ولم يعمل جاسوسًا على غيره من الكتاب والمثقفين، كما فعل زعماء التنوير المزيفون لحساب جهات الأمن، اقرأ مثلًا وشاية «سلامة موسى» بالعقاد لوكيل وزارة الداخلية التي نشرتها المصور في عددين «إبريل 1933»، وعرض خدماته على وزارة الداخلية في حكومة «محمد محمود» ليتولى إحداث انشقاق في الأقباط الملتفين حول الوفد ليقودهم إلى تأييد المعاهدة مع بريطانيا مساندة للحكومة المصرية «راجع محمد جلال كشك الغزو الفكري ،ط 4، القاهرة ١٣٩٥هـ / ١٩٧٥م، ص۱۳۲ وما بعدها».

إن إقحام أعداء النهضة الإسلامية وخونة الأمة في صفوف رواد النهضة، أول خطوات الفكر الأسود في تزوير التاريخ الحديث، ويرتبط بذلك في الوقت نفسه إسقاط الرواد المؤثرين على المستوى الشعبي الجماهيري من أمثال مصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وابن باديس والبشير الإبراهيمي، وعمر المختار، وعلال الفاسي، وحسن البنا، وسيد قطب، وعمر التلمساني، والشيخ خطاب، وغيرهم مما يضيق المقام عن ذكرهم.

إن الإصرار على تلميع الخونة وأعداء الإسلام يعني فيما يعني أن هناك نية قائمة ومستمرة لتحطيم هوية الأمة، وإغراق شعوبها في فيض من النية والحيرة والضياع لحساب الشيطان الصليبي والشيطان الصهيوني معًا، ولقد عانت الأمة من الضربات المتلاحقة، ضرية وراء أخرى بوساطة هؤلاء الخونة المأجورين الذين ما تركوا في الإسلام قيمة إلا وانتقصوها وأزروا بها، وحملوا عليها، وجعلوا الأجيال الجديدة تعيش محنة غير مسبوقة، ولم يقتصر الأمر على الدين والقرآن، بل تناولوا اللغة والتاريخ والحضارة الإسلامية، فلم يذكروا لها فضيلة، ولم يقصروا في تلفيق التهم والمعايب والنقائص، إنهم يريدون سلخ الأمة عن ذاتها وهويتها باختصار شديد!

لم يكن غريبًا مثلًا أن تقوم هيئة الكتاب المصرية بقيادة «الفكر الأسود»، والترويج له، وطرح قضية الأمة في سعيها من أجل النهضة طرحًا إجراميًّا معاديًا لمشاعر الناس وأشواقهم، فقد سلمت قياد مجلاتها ودورياتها لأشد اليساريين مغالاة في العداء للإسلام والهوية الإسلامية، وفهم التنوير فهمًا غريبًا يعادي الدين والمتدينين «أبرز رؤساء التحرير بعثي وناصري وطائفي»، واستغلت حوادث العنف التي جرت في مصر مؤخرًا لتقوم بتجميع تيار الفكر الأسود، لمواجهة الإسلام الذي تسميه «الإرهاب والتطرف»، من خلال الدعوة إلى ما يسمى «مؤتمر المثقفين» ونشر سلسلة تحمل عنوان «التنوير في مواجهة الإرهاب» أي التغريب في مواجهة الإسلام، أبرز كتبها «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، وهو الذي يقول فيه بضرورة أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، الذي يفصل فيه بين الدين والدنيا، ويرى أن الخلافة اختراع لا صلة لها بالدين، وأعلن قبيل وفاته توبته عن الآراء التي تضمنها كتابه، وكتب سلامة موسى التي تزري بالدين واللغة تلميحًا وتصريحًا، ثم كتب أخرى تهجو الصحوة الإسلامية، وتردها إلى تأثير «النفط»، وترى «العلمانية» الغربية من الدين أو لا تتعارض مع الدين!! بالإضافة إلى كتب تضم مقالات وموضوعات تتفق جميعها على استئصال الإسلام- تحت شعار محارية الإرهاب- وتجفيف منابعه في كافة المجالات والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية!

وقد بلغ الشطط بتيار «الفكر الأسود» أن يلبس عمامة الفتوى الإسلامية، ويطالب بالتعدد وفتح باب الاجتهاد، ثم يدلي بآرائه الاجتهادية على غير هدى، وعلى غير علم، ودون حد أدنى من الفقه!

ولنا أن نتصور مثلًا كيف يكون رد الفعل لدى الناس عندما يسمعون أو يقرؤون أن واحدًا من تيار «الفكر الأسود» لبس عمامة الفتوى بينما لا يفيق من الخمر إلا نادرًا، ويفاخر بمغامراته النسائية، ولا يصوم يومًا في رمضان، ولا يركع ركعة واحدة في مسجد أو بيت، ويبيع قلمه لكل من يدفع؟ هل يصدق الناس فعلًا أن هذا الشخص حريص على الإسلام، وفاقه له ومُلّم بعلومه، وهو الذي عاش يدعو لماركس أو ميشيل عفلق أو الكتاب الأخضر؟

إن كتابات القوم لا تحمل ذرة من تعاطف مع الإسلام، لأنها كتابات كره وعدوان وسخرية.. فكيف يتأتى لهم الاجتهاد؟ بل كيف يتأتى لهم أن يعلموا أساسًا إن كان باب الاجتهاد مقفولًا أو مفتوحًا؟

إن أحدًا لم يصدر فرمانًا بقفل باب الاجتهاد، فالاجتهاد قائم ما قام العلم الشرعي، ولا يستطيع أحد أن يوقفه مهما كان وضعه أو رسمه، وكل ما هنالك أن الأمة من خلال علماء الأصول أو «الأصوليين»، وهم مفخرتها وتاجها الذين يملكون من العلم ما لا يملكه غيرهم، تتصدى للمستجدات في الحياة والواقع من خلال القياس والمصالح المرسلة وغيرها، لتضع للناس الطريقة المثلى والأفضل والأصوب وفقًا للتشريع.. وما تخلف الاجتهاد يومًا عن التعامل مع الظواهر الجديدة والطارئة، وبخاصة في العصر الحديث بدًا من ظهور المطبعة التي كان يحرمها الأتراك حتى الصعود إلى القمر على أيامنا .. فلماذا يتهمون الإسلام؟ ويتهمون الاجتهاد؟ لقد كان من أطرف ما اخترعه الشيوعيون العرب في حديثهم عن الاجتهاد هو جراءتهم واقتراحهم بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد بالنسبة للمسلمين في أوربا وأمريكا؟ أرأيتم كيف يريدون أن تصبح الجمعة كاثوليكية في أواخر القرن العشرين تحت مسمى الاجتهاد؟ ألا يدل ذلك على أن تيار «الفكر الأسود» يصنع «فتنة ثقافية» خطيرة بجهله وادعائه وجراءاته؟... وهل يستطيع أن يناقش مثلًا نقل صلوات النصارى من يوم الأحد إلى يوم الجمعة في البلاد العربية؟ أم إن المقصود هو الإسلام اقتلاعا وتشويها وتخريبًا وتحريضًا؟

إن تيار «الفكر الأسود» عندما يرتدي العمامة الإسلامية ليقتلع الإسلام، إنما يرتكب جريمة خطيرة تدل على خيانته وعمالته وبخاصة بعد أن تخلى مؤقتًا عن مقولاته الماركسية والتغريبية التي عاش ويعيش لها، وفي الوقت نفسه فإنه يعطي مبررًا لمن تسميهم أجهزة الإعلام بالمتطرفين، لكي يصدروا أحكامهم وفتاواهم سواء كانت صحيحة أو خاطئة، على علم أو على ضلال، وتكون النتيجة في كل الأحوال وبالًا على الأمة وشعوبها.

ومن الغريب أن يصر تيار «الفكر الأسود» على وصم علماء الدين في الأزهر الشريف «بالمؤسسة الدينية»، تشبيهًا لها بمؤسسات الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية، ثم يركز على هجائها، واتهامها بالتقصير، بل بتشجيع الإرهاب، فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني تأكيدًا لجبن هذا التيار عن هجاء الكنيسة النصرانية أيًّا كان مذهبهًا، فضلًا عن المعبد اليهودي أيًّا كان مذهبه، ويعني أيضا أن اقتلاع الإسلام هدف رئيسي لهذا التيار.. وأن إضعاف الأزهر والنيل من علمائه تمهيد صريح لإلغاء دوره في التثقيف و«التنوير» الحقيقي، وإتاحة الفرصة بعدئذ للجهلاء والأدعياء كي يفتوا بغير علم، وهنا تقع الواقعة، وتشتعل النار بين السلطة والناس، ويبتهج الفكر الأسود وأنصاره بعد أن تخلو لهم الدنيا من «الإسلام» وعلمائه.. ألم أقل لكم إن «تيار الفكر الأسود» يقوم بفتنة ثقافية غير مسبوقة تحت مسمى «التنوير»؟

إن «الفكر الأسود»، وهو يستعرض قوته اليوم، بأحوال المسلمين، وفي صحف المسلمين ومجلاتهم وكتبهم، لا يخدم السلطة التي يعمل لحسابها بقدر ما يصب النار على الزيت، وإشعال الصراع بين السلطة والناس، مما ينذر بخطر لا يدري أحد متى ينتهي أو يتوقف.. فهل من عاقل في السلطة أو خارجها يوقف عبث هذا التيار وتخريبه؟

أستاذ النقد الأدبي بجامعة طنطا- مصر

الرابط المختصر :