العنوان الفكر الصوفي.. في ضوء الكتاب والسنة الحلقة الخامسة حقيقة العلم الصوفي الباطني
الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
تاريخ النشر الثلاثاء 30-أبريل-1974
مشاهدات 10
نشر في العدد 198
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 30-أبريل-1974
ولقد ظن كثير من الناس أن العلم الباطني الصوفي كان نتيجة للصلاح والتقوى، والمداومة على التسبيح والذكر. فداوم كثير منهم على هذا وساروا في طريقهم زمانًا علّهم يظفرون به ولكنهم لم يصلوا إلى شيء. من هؤلاء من يحدثنا عنه أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء «جـ 4 ص 358» يقول: حكى أن شاهدًا عظيم القدر من أعيان أهل «بسطام» كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يوما: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئًا وأنا أصدق به وأحبه.
فقال أبو یزید: ولو صمت ثلثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة، قال: ولِمَ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال قل لي حتى أعلمه. قال لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل قال اذهب الآن إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزا، واجمع الصبيان حولك، وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك.
فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا فقال أبو يزيد: قولك سبحان الله شرك قال: وكيف؟ قال: لأنك علمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك. فقال هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره. فقال ابتدئ، بهذا قبل كل شيء. فقال لا أطيقه. قال قد قلت لك أنك لا تقبل.
والعجيب أن أبا حامد الغزالي يعقب على هذه القصة بقوله: فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو جزاء من اعتل بنظره إلى نفسه!
فهذا الرجل الصالح الذي صام دهره وقام ليله يرجو الوصول إلى علوم القوم. وما جاءه خاطر ولا مر به هاتف، تعجب من هذا وشكى إلى أبي يزيد فقال له لن تصل إلى شيء لأنك محجوب بنفسك. ومعنى أنه محجوب بنفسه أنه يرى أنه القائم بالعبادة فيرى نفسه عابدًا الله، وعقيدة الصوفية أن تعتقد أن الله قد أقامك فيها وأنه اختارها لك وتلك إرادته ولا إرادة لك معه. وبالمقابل لا بد أن تعتقد أيضا أن الله قد أقام العصاة في معاصيهم، والكفرة في كفرهم، وإبليس في إغوائه كما مر بنا في كلام الحلاج، وكذلك أيضا قال أبو يزيد لذلك الرجل عندما قال سبحان الله، سبحان الله شرك. ثم لما قال له كيف: قال لأنك نزهت نفسك عن فعل السوء ولم تنزه الله الذي يفعل السوء ويريده ويقيم الناس فيه فقد عظم الرجل نفسه في عقيدة أبي يزيد وطائفته عندما امتنع عن عمل يقوم الله به ويريده ويحبه. «وسيأتي لهذه الحقيقة المرة أدلتها من كلام القوم وشرحها في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى».
ولهذا أمر أبو يزيد البسطامي ذلك الرجل ليصل إلى هذه الحقيقة الصوفية أن يفعل بنفسه ذلك الفعل المرعب، وبهذه الوسيلة التي تعتبر مجاهدة في عرف التصوف سيتحقق يقينا بهذا العلم الباطني، وهو أن الكون على هذا النحو مراد الله سبحانه، ولذلك قالوا «أقام العباد فيما أراد».
ولا شك أن الخطأ في فهم قضية القضاء والقدر قد جرت البلايا والفتن على كثير من الناس والعياذ بالله، والسبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين علم الله الأزلي سبحانه وتعالى، وما سطّره من مقادير الكون وفق هذا العلم وأنه سبحانه يعلم ما سيكون كيف يكون، وبين الاختيار والمشيئة للعبد التي جعلها الرب تبارك وتعالى أساسًا ومناطًا للتكليف والحساب. فللعبد مشيئة خاصة يوقع بها الفعل الذي يريده ولكنه لا يوقعه جبرًا على الله ورغمًا عنه .
فالطاعة بتوفيقه وهدايته، والمعصية بإذنه سبحانه ومشيئته؛ إذ لا يقع في ملكه إلا ما شاء، وهو سبحانه وتعالى القادر على منع الكافر من الكفر والفاجر من الفجور، ولكنه الابتلاء والاختبار والتكليف ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ (يونس: 99) وقد جعل سبحانه وتعالى الهداية حقا عليه لمن جاهد في سبيلها قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69) ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾ (الليل: 5-6-7) وجعل سبحانه وتعالى الضلال أيضا ثمرة للسعي في طريقه والحيدة عن هدى الله قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصف: 5) وقال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الأنعام: 110).
وقال عز وجل: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (الزخرف: 36)، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (الشوري: 30) إلى آخر الآيات التي تدل على أن الرب تبارك وتعالى لا يعجل الشر ابتداء، ولكنه يعاقب به جزاء. وسبحانه وتعالى أن يبدأ الإنسان بالشر تعالى ربنا عن ذلك علوًا كبيرًا.
فهؤلاء لم يفهموا هذه الحقيقة الشرعية التي بيّنها الله في كتابه أتم البيان وشرحها رسوله صلى الله عليه وسلم غاية الشرح ظنوا -وخابت ظنونهم- أن الشر والمعاصي والفجور مرادة لله تبارك وتعالى إرادة حب وقبول ورضى فقالوا ما قالوا ولم يعلموا أنها مرادة لله أن تقع في ملكه فقط فليست تفعل من فاعليها رغمًا عن الله سبحانه وتعالى وعجزًا عن دفعها ومنعها وحاشاه ربنا سبحانه وتعالى من ذلك، ولكنها إرادة وقوع، ومشيئة إذن وسماح ووراء ذلك كله العقوبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والمذمة واللعنة والطرد والإبعاد لأهلها وحاشا الله أن ينسب هذا إليه «والشر ليس إليك».
أقول إن هؤلاء المتصوفة لما لم يفهموا هذه الحقيقة الشرعية ورأوا أن فعل الكفرة والفجرة موافق للرب في إرادته ومحبته، وكذلك قال الحلاج عن إبليس وفرعون أنهما عرفا الحقيقة وأنهما قائمان بأمر الله في ذلك ولهذا ما سجد إبليس وما آمن فرعون إلا بأنه هو الله ولهذا أيضا ما رجع هو عن قوله.
والعجيب بعد هذا كله أن المتصوفة الذين جرهم سوء الفهم لقضية القضاء والقدر إلى هذه العقيدة الباطلة والمعتقد السيئ زعموا أنهم وصلوا إلى هذا الفهم عن طريق الكشف والعلم اللدني والفيض الرحماني وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى إليهم بهذا.
وبعد أن قدّس المتصوفة الأقدمون علمهم الباطن على ذلك النحو، وأظهره البعض منهم بذلك الوضوح، وجعلوا علم الشريعة المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم علمًا خاصًّا بالعوام، وجعلوا علمهم الباطني علمًا خاصًّا بالخواص يتلقى رأسًا عن الله بطريق انكشاف حجاب الغفلة -في زعمهم- لم يكتف المتأخرون منهم بهذا التقسيم. بل غالوا إلى أن جعلوا علوم الشريعة مرحلة فقط لعلمهم الباطني، وجزموا بأن من وقف عند علم الشريعة فقط وتقيد بظاهره فقط فلا ينجو في الآخرة بل هو غافل عن دين محمد شأنه کشأن الكافرين.
يقول الشيخ عبد الغني النابلسي وهو كما ترجم له صاحب «الأعلام» من كبار العلماء المتأخرين، له مصنفات كثيرة جدًّا في علوم الشريعة والتصوف والأدب، ولد ونشأ في دمشق وتوفي بها سنة 1143هـ. يقول في كتابه «الفتح الرباني والفيض الرحماني» ص 123:-
فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلومًا باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له؛ لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدین محمد صلى الله عليه وسلم داخل تحت قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).
وقد ساغ في كلام الشيخ كما ترى أن يستدل بالآية السابقة على أن علوم الشريعة من الفقه والحديث والتفسير العلم بها كالعلــم بظاهر الحياة الدنيا. والغفلة بها عن العلم الباطني كالغفلة بعلوم الدنيا وزخرفها عن حقائق الآخرة.
لقد كتب الشيخ عبد الغني النابلسي هذا الكلام في كتابه الفتح الرباني، وقد قال في مقدمته أنه يكتب كتابه هذا مترجمًا عن الإلقاء الرحماني له مباشرة وبغير واسطة، فهو وحي أو إلهام أو كشف حسب ما يدعيه. قال النابلسي في تعريف الذنب حسب العلم الباطني:
«اعلم أن الذنب له حقيقة متى علمت علم سره، ومتی علم سره علم جهره، وله حال ومقام، وله أقسام وأنا أتكلم لك الآن في ذلك بحسب الوارد ترجمته عن الإلقاء الرحماني».
فالنابلسي عندما قرر «في 133 من كتابه الفتح الرباني» أن علوم الشريعة لا تنجي وحدها من عذاب الآخرة بل لا بد وأن يدخل المتعلم إلى الحقائق والعلوم الباطنة التي ذكرت في الشريعة بالرمز فقط ولم ينص عليها نصا - وذلك لينجو من عذاب الله يوم القيامة أقول: عندما قرر النابلسي كل ذلك فإنما قرره ترجمة عن الإلقاء الرحماني في زعمه ولم يقرر ذلك اجتهادًا ورأيًّا.
ولعلك أخي القارئ تحب أن تقف على نماذج من هذا الإلقاء الرحماني على الشيخ عبد الغني النابلسي لتعلم الحقيقة الباطنة التي أرادها الله وأرادها رسوله صلى الله عليه وسلم - في زعم القوم - والتي تكلم الله ورسوله عنها بطريق الرمز والتي فهمها وعقلها بل نزل الفيض الرحماني والفتح الرباني بها على الشيخ عبد الغني النابلسي يقول الشيخ في بيان حقيقة الذنب:
«وأما الذنب بحسب باطن الأمر الإلهي المسمى الحقيقة فهو: الموافقة للرب سبحانه وتعالى في شيء مما أراد بنفسه من نفسه بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه ويرجع ذلك إلى تعين وجود العبد» اهـ.
«ونفسه» هذه التي تكررت في العبارة خمس مرات هي مضمون وحدة الوجود فالله نفسه هو المريد، وما أراد شيئا بغيره وإنما أراد بنفسه، والمبلغ عنه هو الرسول وهو نفس الله في زعمهم والمبلغ إليهم هم البشر وهم نفس الله أيضا -في زعمهم- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وحتى لا يظن القارئ أن تفسيري هذا تجن على الرجل أنقل نص عبارة الشيخ النابلسي في تفسيره للفقرة السابقة يقول:
«ما ثم إلا ذات وصفات، وصفات صفات وهي الأفعال ومنفعلات وهي العالم. فالأول هو المعبود، والثاني الموصل إليه وهو الواسطة، والثالث هو العابد، والرابع هو العائق والمانع، والأول مرتبة الله تعالى، والثاني مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم، والثالث مرتبة المؤمنين والرابع مرتبة الشيطان، وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد لكنه تنزل وتفصل فظهرت له هذه الأطوار، وتعددت وجوداته».
«الفتح ص 51»
فهذا شرح واضح لوحدة الوجود التي ينقلها الشيخ عبد الغني النابلسي عن شيخه الأكبر ابن عربي، فليس في الوجود عندهم إلا الله وهذه الموجودات المشاهدة جميعها صفاته تعددت وتنوعت لتعرب عن الصفات الكثيرة التي يتصف بها الرب في زعمهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فالمعبود والرسول والمؤمنون والشياطين كلهم بنص النابلسي شيء واحد. ولذلك فالذنب عند النابلسي هو «المرافقة للرب سبحانه» وهذا - راجع بنص كلامه إلى «تعين وجود العبد» . ويشرح النابلسي «تعين الوجود» هذا بقوله:
«فمن تعين عنده وجوده مع الله تعالى ظاهرا أو باطنا فقد أفحش، وبغى وقال ما لم نعلم «كذا..» وذلك لأن التعيينات في الوجود الحادث إنما هي لبيان امتياز المحضرات الصفاتية لتنفصل مجملاتها، وتتبين كمالاتها وليست المغايرة أمرا مقصورا وإنما لزمت من ظهور حقائق بعض الصفات كالغفور والحليم والمنتقم بواسطة تحقق الذنب. قال الجنيد ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها وأنا مار ببعض الطرقات منها:
وإن قلت ما ذنبي إليك أجبتني
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
« الفتح ص 49»
فالذنب عند النابلسي بمقتضى كلامه السابق هو أن يظن العبد أن له وجودا مستقلا عن وجود الله. ومن ظن ذلك فقد أفحش وبغى وقال ما لم يعلم. واستدل على ذلك ببيت الشعر المنسوب إلى الجنيد.
ويبالغ النابلسي أكثر من ذلك فيزعم أن حال الذنب هو القرب من الله وليس البعد عنه. ولذلك يقول بالنص:
«فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته»
«ص 58 الفتح»
وقد أوضح النابلسي هذه العقيدة الباطنية أكثر من ذلك عندما عقد فصلا مطولا قارن فيه بين الزنديق والصديق، وكانت خلاصة هذا الفصل أن الزنديق من يرى أن كفره وفسقه صادر منه فقط وأنه مستقل بهذا الكفر. وأما الصديق فهو من يرى أن كل أفعال العباد صادرة من الله تعالى ﴿تَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ (الإسراء: 43) وأن المؤمن والكافر والفاسق والبار ما هم جميعا إلا مظاهر مختلفة لحقيقة الرب الموجود وحده واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ (الملك: 3) فالمؤمن عنده والكافر من خلق الله ولا فرق بين هذا وذاك، ومن عرف هذه الحقيقة فهو الصديق ومن جهلها وظن أن الكافر يصنع كفره ويخلق فعله و يستقل بأمر نفسه فهو الزنديق.
ويحسن أن أنقل كلامه في هذه المسألة بنصه حتى تتضح صورة هذه العقيدة الباطنية وضوحًا لا شك فيه:
يقول الشيخ النابلسي:
المفرق بين الصديق والزنديق:
«واعلم أن الأديان كلها التي في العالـم بالنسبة إلى المتدينين بها من الخلق تنقسم إلى قسمين «دين واحد حق وهو الإسلام، وأديان جميعها باطلة وهي ما عدا دين الإسلام.
وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فجميع الأديان الباطلة والحقة مخلوقة له تعالى وهو خالقها، وقد قال تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ (آل عمران: 83) أي انقادوا إليه طائعين في حق المؤمنين ومكرهين، لأنه لا خالق غيره في حق الكافرين.
فمن نظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين وقال إن جميع ذلك صواب وحق فهو الزنديق ومن لم ينظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وإنما نظر إلى يد الله العليا، التي فوق أيديهم جميعا، واعتقد أن جميع ما يصدر منها صواب وحق فهو الصديق. والفرق بينهما دقيق لا يدرك إلا بعناية من الله تعالى وتوفيق.
فربما يظهر الصديق في حلية الزنديق، وربما يظهر الزنديق في حلية الصديق، وموقع النظر واحد وهو الخلق، فمن نظر إلى الخلق وقال إنهم كلهم على الصواب: فإما أن ينظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، ويقول ذلك فهو الصديق. وإما أن ينظر إليهم من حيث ذواتهم ويقول ذلك فهو الزنديق.
وسبب ذلك أن من نظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم فحكم بالتساوي بينهم لأن الله تعالى يقول: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ (الملك: 3)، «الله خالق كل شيء». فلا يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ وهو صادق في حكمه بذلك التساوي؛ لأنه مأمور بالإيمان بذلك.
وأما من نظر إليهم من حيث ذواتهم وما هم عليه من الأحوال فحكم بالتساوي بينهم خطأ محصن وجهل. قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم: 35-36) وقال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص: 28) وإنما يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ وهو كاذب في حكمه بالتساوي بينهم وقد يشتبه كلام الصديق بالزنديق والقصد هو الفارق، ويعرف ذلك من كلام آخر في موضع آخر كقول الشيخ الأكبر محيى الدين ابن العربي «رضي الله عنه» من أبيات الفتوحات المكية.
عقد البرية في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ومراده جميع ما اعتقدوه من حيث صدور ذلك عن الصانع القديم فإن جميع ذلك آثار دالة عليه تعالى، لا من حيث صدور ذلك عن المعتقدين لأنها من حيث هم دالة عليهم لا عليه وعقيدة أهل الاختصاص فيها الغفلة عن الآثار والنظر إلى المؤتمر يعلم ذلك في مواضع شتى في كلامه.
«الفتح 85، 86 لعبد الغني النابلسي»
وبهذا النقل المطول عن الشيخ النابلسي تتضح أمامنا الآن صورة العقيدة الباطنية التي سعى القوم إلى غرسها وبنائها. وأنها التحقق - في زعمهم - من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله. وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي - في زعمهم - وإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة.
وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل الحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضا استنباطا واجتهادا وتحميلا لألفاظ القوم ما لا تحتمل فقد مر بك بيت الشعر المنسوب إلى ابن عربي :
عقد البرية في الإله عقائدا
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وقد فسره ابن عربي بأن من اعتقد بأن هناك دينا واحدًا حقًّا وبقية الأديان باطلة فقد فاته خير كثير لأنه آمن بجزء من الحقيقة ولم ير الحقيقة كاملة وهي أن كل هذه الأديان التي ظنها باطلة هي مرادة لله تبارك وتعالى بل هو خالقها وبارئها.
وأصرح من هذا كله ما وصل إليه الشيخ النابلسي وهو أن مقام الزهد المشهور في التصوف ما هو إلا مرحلة في الطريق الصوفي، وأما المرحلة النهائية فهو ترك الزهد والاستمتاع بالمقسوم على أتم وجه وفي ذلك يقول بالنص:
«وأما النظر إلى غير الله تعالى فهو اشتغال الروحانية بما يرد عليها من أمثلة الأكوان السائرة للكون الحق، والستر هو الكفر، وأصحاب هذا الاشتغال المذكور هم الزهاد الذين يزهدون في الأشياء فإنهم لولا ملاحظتهم للأشياء وادعاؤهم بثبوتها ما زهدوا فيها، فقد استتر الحق عنهم بزهدهم في الأشياء فكفروا كفرا خفيا، ولو عقلوا لما زهدوا في شيء لأن الذي ليس لهم عدم، فكيف يزهدون في العدم وهو غير مقدور، والذي لهم لا بد أن يصيبهم فلو زهدوا فيه لما أمكنهم، وعاندوا الأقدار فهم مشغولون. بزهدهم عن الله تعالى فمتى يتفرغون له تعالى، ولله در القائل:
تجرد عن مقام الزهد قلبي
فأنت الحق وحدك في شهودي
أأزهد في سواك وليس شيء
أراه سواك يا سر الوجود
ص 134 الفتح الرباني
فانظر كيف نسب الكفر الخفي إلى الزهاد لأنهم اشتغلوا بزهدهم في الأشياء؛ لأن الذي ليس لهم عدم، أي أن ما قدر لهم لا بد أن يكون، ولذلك يقول «والذي لهم لا بد أن يصيبهم فلو زهدوا فيه لما أمكنهم».
ولذلك رآهم النابلسي معارضون للأقدار مشغولون بزهدهم عن الله تبارك وتعالى.
وأحب أن أكرر هنا أن النابلسي ليس رجلا مغمورا جاهلا بل هو مقدم عند القوم مستشهد بأقواله عند الجميع، ويكفيك أن تعلم أن الموسوعة الفقهية الكويتية قد استشهدت برأيه في إباحة الدخان والبعض منهم يعتذر عن مثل مقالاته هذه بأنها من الشطح والشطح مغفور لهؤلاء لأن ذلك من غلبة وجدهم وحبهم لمولاهم.
وأقول إذا كان ثمة شطح مغفور عند الله معذور صاحبه فهو أن تصدر كلمة أو جملة في غلبة حال كما يقولون. إما أن يؤلف رجل مائتي کتاب كلها على هذا النحو وذلك يستغرق آلاف الساعات والأيام فكيف يكون التأليف والتحقيق شطحًا وسكرًا، فافهم أخي المسلم هذه الحقيقة فإنها سهم قاتل لهذا الباطل.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل