; القسوة والغلظة والجريمة .. إلى أين؟ | مجلة المجتمع

العنوان القسوة والغلظة والجريمة .. إلى أين؟

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

مشاهدات 11

نشر في العدد 1177

نشر في الصفحة 53

الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

القسوة الكبيرة في الساحة العربية على جميع المستويات لماذا؟ والغلظة المتنامية في مجتمعاتنا وبين أهلنا إلى أين؟ والجرائم المشتعلة في ديارنا، والمحرقة لاستقرارنا وتقدمنا إلى متى؟ طرحت هذه الأسئلة على نفسي، وهمست بها بين جوانحي، ثم علا همسي وضج ضميري، وارتفع حديث نفسي حتى أسمع لما تواردت الأنباء من حولي بوقوع التفجيرات المفجعة، والتي تحصد كل يوم كثيرًا من الأبرياء وتسيل كل ساعة أنهارًا من الدماء، فإذا بمن حولي على نفس شعوري وألمي، يعيشون محنتي، فهالني الأمر، وقلت: إذن فهذا شعور عام فلماذا لا نفكر بجد، ونبحث بعمق، ونتقدم بنشاط لعلاج تلك الظاهرة، فهي مسؤولية الجميع؟ لماذا لا نخطو خطوة نحو الصواب ونتقدم ولو قليلًا نحو الحل؟ والتفت إلى من حولي أستنطقهم وأطلب منهم مشاركتي في الحديث، فشعروا أنني أعنيهم وفهموا مرادي ومطلبي، فقال أحدهم: «ماذا سنفعل يا صديقي من يستطيع أن يقول للأسد عينك حمراء؟»، ورغم ذلك هناك صراعات دولية وفتن على مستويات ونوايا يعلم بها ربنا، ورد الثاني قائلًا: «الموج عالي والبحر هائج والباب الذي يأتي لك منه الريح سده واستريح»وقال الآخر: «نشجب الجريمة ونرسل تعازينا، والسكوت من ذهب والمكتوب مكتوب». وقال آخر: «العرب دائمًا في مشاكل وعداوات، ودائمًا أسود وذئاب على بعضهم، ودائما يستغلهم الأعداء» ورد عليه أحد الجالسين وقال: «العرب ليس

عندهم القدرة الآن لحكم بعضهم، ومن يلعب بالنار تحرقه» فقلت: بعد أن هالني الأمر من هذا الحديث وصدمني هذا القول من هذه الأفواه يا جماعة لا نريد ونحن ثلة من المثقفين أن تكون أحاديثنا ردود أفعال أو تعبيرًا عن إحباط أو يأس، وليس في آرائكم هذه رأي مدروس أو حلول مدعمة بالأدلة، فانبرى أحدهم متعقلًا وقال: أنت دائمًا تحاول أن تكون عقلانيًا في أجواء غير عقلانية، وتكون واقعيًا في أوقات غير واقعية، وإذا شئت أن أدلل لك على أننا في واقعنا الحاضر نسيج وحدنا، وتفكير منقصم دون سوانا، فالأدلة كثيرة، فقلت: أين هي؟ ولماذا تريد فقط أن تصيبنا بالاحباط وتقنعنا بالخرافة؟ قال: لا، أي إحباط وأي أوهام تقصد، ومعي الدليل؟، فقلت: له أين هاته؟ قال: كل العالم يا صديقي فيه مشاكل مثل مشاكلنا وأكثر، فهل توقفت هذه الدول عن التنمية وهل جعلتها الشغل الشاغل والهدف الأوحد، وداعبت بها عواطف الناس وشلت حركة الأمة؟ وهل ظهرت فيها كل هذه القسوة التي ظهرت في ديارنا؟ إن قطرًا واحدًا في منطقتنا قتل فيه أكثر من مائة وثلاثين ألفًا في أقل من عامين وهلم جرا، فمثلًا أيرلندا مع بريطانيا تقاتلت عشرات السنين، وكان في أيرلندا جيش سري إرهابي، فهل توقفت بريطانيا عن التقدم؟ وهل غيرت نمط حياتها الديمقراطي، وحكمت بالأحكام العرفية أو حکمت.. إلخ؟ وهذه إيطاليا فيها أشد مافيا في العالم كله، وتكاد تخنقها، فهل أوقف هذا إيطاليا عن التقدم والتنمية أو جعلها تغير نمط حياتها في الحكم؟ إننا شعوب غريبة يا صديقي، نستثمر المصائب ونربيها ونحبها ونستعملها كثيرًا في فوائد لا حصر لها لزيادة القهر لضرب الخصوم لستر الإفلاس الإصلاحي... إلخ، فإذا لم توجد مصائب اخترعناها أي والله اخترعناها، فبعضنا متخصص في اختراع المصائب، ثم قال: أقرأت ما كتبه الأستاذ أحمد أبو الفتح في كتابه «عبد الناصر»، حيث يقول: لما رأيت ما يدير لدفع الناس إلى العنف واستثماره من قبل عبد الناصر، كتبت في الجريدة في يوم ٢٧ مارس ١٩٥٤م أقول «احذر أيها الشعب العظيم ما قد يدير لك في هذه الأيام من مؤامرات لدفعك إلى القيام بأعمال شغب، ثم كتبت بعدها انتقد الأحكام العرفية، وقلت إنها العار كل العار في جبين الوطن، وبعدها بيومين حدثت انفجارات في القاهرة هزت أرجاءها، ثم عرفنا فيما بعد أن عبد الناصر اعترف لزملائه أنه هو الذي دبر أمر تفجير هذه القنابل جميعها في وقت واحد كي يسيطر الرعب على الناس ويطالبون ببقاء حكم حركة الجيش والأحكام العرفية» (الكتاب: ص ٣٧٤)، ثم قال: هل فهمت يا صديقي؟  ثم استأنف قائلا: من أراد أن يحل مشكلة أو يوقف إرهابًا أو عنفًا وأخلص النية في ذلك وفقه الله وصدق الله: ﴿وإِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ (النساء:٣٥)

إن هناك شعوبً كثيرة كانت متحاربة وجمع بينها التصالح بعد أن سالت دماء وتبعثرت أشلاء، ودول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد قتل ما يزيد على ٦٠ مليونًا، جلسوا وتصالحوا، والبوسنة والهرسك والصرب والكروات تصالحوا بعد مآسي تشيب لها الولدان، وسيستأنفون العيش في دولة واحدة ومشاكل دولة إسرائيل بعد قتل رابين تلملم الآن، وسيندمل الجرح سريعًا، والأيام سترينا ذلك، فهل تندمل جراحنا، وتبرأ عللنا، أم ستظل تعتصرنا الحوادث؟

طوى العصران ما نشراه مني

                          وأبلي  جدتي نشر وطيئ.

 أراني كل يوم في انتقاص

                       ولا يبقى مع النقصان شيء.

 ثم انبرى لي آخر، وقال: هل إذا جلس العقلاء في الأمة وأرادوا إيجاد حلول هل سيسمح لهم؟ وإذا غامروا ووصفوا دواء للعلل هل سيؤخذ به وهل سيحمد لهم عقباه؟ ثم انبرى ثالث وقال: ولماذا يضرب المعتدلون في الأمة ويتهمون بغير جريرة ويحاكمون بقسوة؟ أليست هذه رسالة للتيئيس، وخطابًا للإحباط وسندًا للعنف؟

فقلت لخلاني: رغم ما تقولون ورغم ما هو كائن، فأنا في الحقيقة متفائل بأن الله لا يتركنا ولن يتخلى عنا، وسيكون إن شاء الله بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا.

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

                  ويبتلي الله بعض القوم بالنعم.

 وما زلت أردد أن الأمة اليوم في حاجة ماسة إلى عقلائها وحكمائها وأصحاب الرأي فيها، لبحث أوجاعها ومأسيها بالحوار لا بالمدفع، وبالحكمة لا بالمتفجرات وإلا فالهاوية هي الطريق بعدما صار حالنا إلى ضيق، وتبدل سعدنا إلى شقاء.

 تبدلنا همومًا من سرور

           ومن سعة تبدلنا بضيق

 أصابتنا من الحساد عين

            فأفنت أهلنا بالمنجنيق

فصائحة تنادي وا صباحا

             وباكية لفقدان الشقيق

فما ولد يقيم على أبيه

        وقد فر الصديق من الصديق.

 نسأل الله أن تزول القسوة من القلوب ويحل الحب والإخاء والوئام.. آمين آمين.

الرابط المختصر :