; القلوب الواثقة | مجلة المجتمع

العنوان القلوب الواثقة

الكاتب سمية رمضان

تاريخ النشر السبت 07-مايو-2011

مشاهدات 29

نشر في العدد 1951

نشر في الصفحة 56

السبت 07-مايو-2011

مرت سنوات القهر وكأنها لم تكن خسر فيها من جعل في حساباته الخضوع لغير الله وفاز فيها من سلم أمره إليه سبحانه

قصص تجفيف منابع الخير في المساجد كثيرة. فقد منع الأمن فيها دروس العلماء وسمح للمرضي عنهم وبحدود وضوابط شديدة الصرامة

مرت مصر بأحداث جسام، على مدى عقود متباينة الأهداف متعددة الاتجاهات، فقد كانت مغلفة بغلاف الظلم وملفوفة بشريط من الاستبداد، وقد كان لدروس العلم في المساجد في ذلك النصيب الأكبر وكانت قصص تجفيف منابع الخير في المساجد تأتينا تباعاً، قصص تكاد أن تكون متكررة، والنتيجة واحدة؛ منع الدروس في المساجد بأمر من الأمن إلا بعض الدروس المختار قائلها، وبحدود وضوابط شديدة الصرامة، فانفض الشباب عن المساجد، وأصبح جل وقتهم في الدخول إلى شبكة المعلومات الإنترنت، حيث جمعهم الرحمن على «الفيسبوك»، وكان في ذلك من الخير ما كان، وفي المساجد لم يحدث استثناء عن المنع بالنسبة للدروس الخاصة بالنساء، بل طال المنع حتى دروس الأطفال، وكان لكل مسجد وكل درس قصة مر بها، وفتن تعرض لها من ارتادوا هذه الأماكن سواء كانوا دعاة أم مستمعين.

أردنا أن نتتبع أحد هذه الدروس النسائية كمثال تكرر في كثير من المناطق لنعلم ما آل إليه أمرها وماذا فعل الممنوعون في سنوات الظلم والقهر، وقد وقع اختيارنا على مسجد أهلي في منطقة متوسطة الحالة الاجتماعية يؤمه مجموعة محدودة العدد من المصلين والمصليات، ثم زاد عددها كثيراً بفضل الله وبسبب الدروس والنشاطات اقتربنا أكثر وأكثر من العمارة الكبيرة التي تحتضن المسجد أسفلها، كان المسجد يعج بالحياة من مرتادي المنطقة سواء في مواقيت الصلاة أو الاجتماع على موائد العلم، ولم يكن المسجد يفرغ من دروس متعددة لمختلف الأعمار، وهنا نلقي الضوء على النشاط النسائي بالمسجد : كان متعدداً في تنوعه، فيوم لدرس عام للنساء، ويوم للفتيات، وآخر للأطفال مع يوم آخر لمحو الأمية، مع إسعافات أولية، مع تعليم تطريز وشغل «إبرة»، مع أيام متعاقبة لتعلم التجويد والتلاوة والحفظ للقرآن الكريم.

تزايد مستمر

كان الجميع في اجتهاد للحصول على أكبر استفادة ممكنة من التجمع المبارك ومرت الشهور فالسنوات والعدد في تزايد مستمر فاق في عدده كل التوقعات، وفجأة حرکت الحيّة ذيلها بصوت بغيض ينبئها بالخطر، فتزايد الأعداد بأي مسجد غير مسموح به، ويمثل خطاً أحمر لها، وفي شهر رمضان المبارك عام ٢٠٠٣م، والنساء في قمة روحانياتهن جاء قرار الهدم، نعم هدم كل الدروس وعدم السماح بمعاودة فتح المسجد.

لمثل هذه الدروس النسائية التي مثلت للحية خطراً ما لا ندري حتى هذه اللحظة كينونته، ووقفت الحيّة على باب المسجد ترفض دخول النساء في هذا الوقت حتى للصلاة، وكان أمراً عجيباً جعل رجال المسجد يستحون أمن أجل النساء شعرت الحية بهذا الخطر وقامت بمثل تلك الإجراءات، وأصبح الرجال يروحون ويجيؤون حسب التعليمات الصلاة وكفى ثم لابد من مغادرة المسجد على الفور ؟!

بركات كثيرة

والآن نتتبع هؤلاء النساء اللاتي كن يشاركن في النشاط والحية التي هدمته والرجال الذين وقع ظلم الحية عليهم، ثم الداعية التي كانت قائمة على نشاط النساء) لنرى مكر الله بمن مكر، وكيف أنه سبحانه يسمع ويرى ويقدر، وأن من أراد الله وابتغاه فإن الله لا يتخلى أبدا عنه، ويمنحه بركات لا أول لها ولا آخر، بركات لم تكن تدور في خلده، ولكنه سبحانه غالب على أمره، ولكن أكثرنا لا يعلم ولا يدرك حتى يشاء الله له أن يعلم وأن يدرك.

في فترة الخمود تلك بدأ الناس يتصرفون بسجيتهم الفطرية، فمن تعلمن بالمسجد توجهن كل واحدة لأقرب مسجد لها؛ لتقوم بتعليم مجموعة صغيرة لا تثير بها حفيظة الحية، ولا تجعل جرسها ينذر، فاتسعت رقعة الدعوة في أنحاء كثيرة وليس في حي واحد، وبدأت كل من تشربت حب العلم تتجه إلى مدارس ومعاهد لزيادة علمها بطريقة مدروسة أكاديمية، وبدأ بعض النسوة يطبقن وينفذن ما درسن بطريقة عملية في داخل بيوتهن ومع أزواجهن وأولادهن، بعد شعورهن بالحرب الضروس التي أعلنت على مبادئهن ودينهن.

اندلاع الثورة

وانقضت السنة تلو الأخرى حتى من الله على أهل مصر بالثورة؛ فإذا بمعظم هؤلاء النسوة يشاركن بقوة وفاعلية فيها، سواء كن شابات أو سيدات مع أولادهن وأزواجهن بل كن أحيانا ينافسن الرجال في الإقدام واقتحام مناطق الخطر، حتى من الله سبحانه على الجميع بالنصر المبين. أما الحية ورجالها، فإننا بعد الثورة نرى فيهم عجائب قدرة الخالق العظيم.. فمقار أمن الدولة، هذه الصروح الشامخة التي كانت شوارعها تغلق أمام السيارات، بل أمام المارة والتي كانوا يعيشون فيها برفاهية أي رفاهية مكاتب وغرف نوم وحمامات فاخرة.. وبعد أن شعر هؤلاء أنهم قد ملكوا كل شيء، وأن الدنيا قد تزينت لهم، وظنوا أنهم قادرون عليها : أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب فأصبحوا يخربون بيوتهم تلك بأيديهم؛ يحرقون مقارهم وأوراقهم التي تسببت في رقيهم وعلو مكانتهم في فترة الظلم والقهر.. والعجيب أن المظلومين أصبحوا هم من يمنعونهم من حرق تلك المقار بهذا السفه البغيض.

ورأت أعيننا عجبا آخر هؤلاء المصلون الذين طالما طاردوهم ومنعوهم واعتقلوهم يدخلون مستعينين بالله على هؤلاء الظلمة في مكاتبهم ويسحبونهم من أقفيتهم لتسليمهم إلى الجيش، وسبحان الله وجدنا بعض هؤلاء الضباط يستغيثون ببعض قيادات هؤلاء الثوار الذين طالما أذاقوهم صنوف الظلم والعذاب والإهانات يتصلون بهم بالهواتف المحمولة يستنجدون بهم ويرجونهم ويطلبون منهم الحضور إلى هذه المقار التي أصبحوا محصورين داخلها لكي ينقذوهم من الشعب الثائر الغاضب الذي يكاد يفتك بهم، وبالفعل يحضرون ويهدئون الناس ويخرجون الظلمة هؤلاء بسلام لا حبا فيهم ولا ميلا إليهم ولكن حفاظا على طهارة الثورة ونقائها، ورغبة في أن تُطبق العدالة وأن يأخذ القانون مجراه بالطرق الشرعية القانونية السليمة متعالين على فطرة الأخذ بالثأر بحق وحب الانتقام متناسين ومتغاضين عن الظلم الذي وقع على أشخاصهم هم.

عبير الحرية

في ساعات قليلة أصبحت مباحث أمن الدولة بكل هيئاتها وتفاصيلها في خبر كان وتنفست المساجد الصعداء؛ ففتحت أبوابها لتستنشق عبير الحرية واحتضنت مرة أخرى محبيها، ذاكرين الله كثيرا فيها .

أما الداعية التي كانت تشرف على النشاط قديماً، فقد جمعها مع محبيها والمشاركات في النشاط معها من قبل، جمعهن لقاء أخيراً في نفس المسجد، كان لقاء رائعاً أتى بعد انقطاع لسنوات حيث ذرفت العيون ولهجت الألسنة بحمد الله العلي القدير، ثم أطلت على الجميع، أولاً بكلمات الحمد والثناء لمن بيده كل شيء، ثم أخذت تروي للحاضرات ما حدث معها طوال تلك السنوات.

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف:8). تلت الآية ببطء وترو، فانبسطت أسارير الحاضرات وأنصتن بشغف وهي تقول: بعد منعنا من النزول إلى المسجد مباشرة رأيت رؤيا عجيبة، فيها بشرى من الله عظيمة.. فقد رأيت وكأني دخلت إلى مسجدنا هذا لإلقاء درسي كالمعتاد، فرأيت أحد العلماء يجلس مكاني، ونظر إلى حيث أجلس قائلا : لا تحزني، فقد نمت لك أجنحة ولكنني قمت من نومي وأنا لا أعير ما رأيت اهتماماً، ويشاء العلي القدير أن يهبني حجة في هذا العام، فكان ذلك تخفيفاً ورحمة منه سبحانه، وفي حجتي تلك قابلت نساء من بلاد أخرى، رأينني واستمعن إلي وأنا ألقي بعض الدروس يوم عرفة، فدعونني إلى بلادهن لإلقاء بعض الدروس استجبت لدعوتهن وكأن الأجنحة بدأت في النمو كما بشرتني الرؤيا، حيث سافرت إلى بلاد عدة، ورأيت الكثير من الناس وارتبط قلبي بحب الكثيرات، ولم أتوقف سبحان الله عن دروسي، بل من الله علي أكثر وأكثر بأن فتح لي أبواب الفضائيات لأصل إلى بيوت كثيرة بحول الله وقوته لا بحولي ولا قوتي، هذا عدا المقالات التي أصبحت تنقل فكري الدعوي عبر المجلات والشبكة العنكبوتية.

وحينها تيقنت أن الدعوة ملك خالص لله سبحانه لا يستطيع أحد أن ينازعه فيها، فقد كنت في مسجد صغير نسبيا لا أقابل فيه إلا المحيطين بي فمكروا لمنعنا ومكر الله لنشر دعوته، وشاء سبحانه أن أسافر للدعوة إلى عدة محافظات داخل بلدي، تعرفت خلالها على مشارب مختلفة من البشر، وأنماط وأساليب مختلفة للدعوة؛ مما أصقل شخصيتي الدعوية

وازدادت تجاربي واتسع أفقي، وعلمت مدى الخير الذي أراده سبحانه لي. من الأحداث التي مرت بي أيضاً، أنه بعد انقضاء سنوات على منعي من مسجدنا هذا، جاءتني دعوة كريمة من جامعة من جامعات بلدي لألقي درساً بها، فسعدت لذلك، فلعلها بداية جديدة مشجعة ولكن وفي ليلة الدرس اقتحم الأمن المكان، ورفض عقد الدرس في اليوم التالي، والجميع ما بين متعجب ومندهش! إنه درس للنساء، تعلمهن فيه مبادئ إسلامية اجتماعية.. فلماذا هذا التشنج؟ في ليلتي تلك شعرت بحزن عميق لما وصلت إليه حالنا، وسألت المولى الفرج ولنتابع سويا قدرات الله التي ليس لها حدود حيث تأتيني في الصباح دعوة لإحدى الدول وأسافر سريعا ليطلبني في تلك الدولة برنامج مباشر لألقي درسي من خلاله، ويدخل ذكر الله الكثير من البيوت، وفي نفس التوقيت يرى من أراد الحضور لهذا الدرس في بلدي ماذا كنت أود أن أقول.

أخذت تجفف دموعها وجميعهن مأخوذات بما تقول، وواصلت حديثها قائلة: كما ذكرت لم يستطع أي مخلوق على الأرض أن يوقف الدعوة لحظة واحدة، ولا يستطيعون.. فالدعوة ملك له سبحانه، علينا فقط أن نحسن الظن بخالقنا، ونثق في قدرته وأقداره، وها هي الأيام قد مرت سريعا وعاد الحق إلينا أين مانعونا ؟! سبحان من له الدوام، وها هي الدعوة وقد انتشرت في كل مكان بفضل الله وببركة  مجهوداتكن، وها هو العدد يتضاعف بحول الله وقدرته ولا عزاء لمن اتخد غير الله ولياً.

مرت سنوات القهر وكأنها لم تكن، خسر فيها من جعل في حساباته غير الخضوع لله وفاز فيها من سلم أمره إليه سبحانه .

(*) أكاديمية متخصصة في القضايا التربوية والدعوية

الرابط المختصر :