العنوان الكنيسة الكاثوليكية في مونتريال تبحث عن موقعها في حياة الناس
الكاتب جمال الطاهر
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996
مشاهدات 33
نشر في العدد 1197
نشر في الصفحة 43
الثلاثاء 23-أبريل-1996
• تياران بارزان يتنازعان المجتمع في كيباك.. أحدهما يعمل على إنهاء دور المؤسسات الدينية والآخر يدافع عن التعدد الديني
أعلن كاردينال مدينة مونتريال في الفترة الأخيرة عن انطلاق الكنيسة الكاثوليكية في مرحلة تفكير شعبية تستغرق السنوات الثلاث القادمة بكاملها، وذلك في إطار محاولة الكنيسة معرفة موقعها في حياة الناس وتحسس ميولات هؤلاء فيما يتعلق بنوعية وحجم العبادات والطقوس، وطريقة عيشهم الجديدة، وليست هذه هي المرة الأولى التي تنظم فيها الكنيسة الكاثوليكية مثل هذه الاستشارة الشعبية الواسعة، بل إن دفاتر الكنيسة تشير إلى المرات العديدة السابقة التي انتظمت فيها مثل هذه الاستشارات في كل مرة يشعر فيها القائمون على الكنيسة بأتساع الهوة بينهم وبين مواطنيهم الذين تفتر علاقتهم بالكنيسة ويتراجع شهودهم وممارستهم للطقوس لسبب أو لآخر يتعلق برغباتهم وظروف عيشهم.
ولم يخف كاردينال مدينة مونتريال مشاعر القلق التي تسيطر على القائمين على الكنيسة الكاثوليكية في مثل هذا الزمن الصعب الذي تستقبل فيه البشرية تحولات عميقة قد تمس حياتهم الفردية والجماعية، وكذلك معتقداتهم وعلاقتهم بالدين، ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية في مقاطعة كيباك «الفرنسية» قد عرفت طوال العقود الأخيرة تراجعًا كبيرًا في إشعاعها الديني والاجتماعي، وخاصة بعد الثورة الهادئة التي عرفها المجتمع في مطلع الستينيات والتي كان من نتائجها تحجيم دور الكنيسة وتقليص تأثيرها في الحياة الاجتماعية والمجتمعية من خلال تجريدها من أهم مصادر قوتها التي كانت تتمثل في إشرافها وإدارتها للعديد من المصالح الحيوية في المجتمع كقطاعات التعليم والتربية والصحة والتوجيه الاجتماعي وحتى الاقتصادي.. فقد كان لقيام هذه الثورة الهادئة على مبدأ أساسي هو تكريس لائكية الدولة وعلمانية المجتمع أثره البالغ في محاصرة الاعتبار الديني في حدوده الفردية والشخصية وتهميش الكنيسة وابتعاد الناس عن الدين.
أما اليوم، فإن القائمين على الكنيسة يرون في الحصيلة السلبية للعقود الثلاثة الأخيرة التي هيمنت فيها أفكار ومبادئ الثورة الهادئة مبررًا هامًا لتجديد الكنيسة سعيها نحو إعادة التموقع الإيجابي في قلب المجتمع وضمن مختلف أبنيته وأنسجته لإصلاح ما أفسدته الثورة الهادئة على المستويات الأخلاقية والقيمية والاجتماعية والثقافية واستعادة ما أمكن من أتباعها الذين انفضوا عنها في المراحل السابقة مستفيدين في ذلك من الدور الإيجابي الذي ما فتنت تقوم به المؤسسة البابوية في الفاتيكان في السنوات الأخيرة في الدفاع بصلابة ومبدئية عن بعض القيم الإيجابية التي تتهددها المخاطر الكبرى من الثقافات المادية والانحلالية المعاصرة (الإجهاض، المخدرات، الفقر..).
ونظرًا لتمكن العلمانية واللائكية من المجتمع ونخبه، فإن مثل هذه المراجعات والمبادرات الإيجابية للكنيسة ورغبتها في إعادة مكانتها في المجتمع كطرف فاعل وليس هامشيًا، قد أثارت جدلًا وسجالات وخلافات كبيرة داخل أوساط النخبة في كيباك التي يشقها تياران بارزان، الأول لائكي يعمل من أجل تكريس اللائكية المطلقة للدولة والمجتمع وإنهاء ما تبقى من اهتمامات الدولة ومؤسسات المجتمع بالمسألة الدينية ومن ارتباط ولو شكليًّا بين الدولة والكنيسة أو المجتمع الديني، أما التيار الثاني فإنه وإن كان علمانيًا هو الآخر إلا أنه يقدم نفسه مدافعًا مبدئيًا عن التعدد الديني في المجتمع معتبرًا أن الهوية الدينية لهذا المجتمع إنما تكمن في تعدده وتسامحه الديني.. فلا يزال هذا التيار ينظر إلى الدين على أنه مسألة شخصية، ومن منطلق أنه حق للأفراد والمجموعات على الدولة احترامه وحفظه ورعايته، وهو لهذا عنصر هام في توازن الشخصية الفردية والجماعية، كما أن هذا التيار لا يزال ينظر إلى الكنيسة على أنها مؤهلة للقيام بدور هام في الإحاطة الروحية والاجتماعية للفرد والمجموعة.
قوة الكنيسة الكاثوليكية
إن الملفت للانتباه في حالة المجتمع الكيبيكي خاصة والكندي عامة هو أنه رغم الظاهر العلماني للثقافة والمجتمع والدولة ورغم قوة وتمكن التيار اللائكي وهيمنته فإن الكنيسة الكاثوليكية لا تزال تحافظ على نسبة محترمة جدًا من المنتسبين إليها من مجمل عدد السكان، حيث تفيد إحصائيات كندا لسنة ١٩٩١م أنه يوجد من بين ٢٧,٢٩٦,٨٥٩ كاثوليكيا مقابل ٩,٧٨٠,٧١٥ بروتستانت، أما في مقاطعة كيباك، وفي إطار نفس إحصائيات سنة ١٩٩١م فقد مثل عدد الكاثوليك من جملة سكان المقاطعة ٦,٨٩٥,٩٥٣ ما جملته ٥,٨٦١,٢٠٥ مقابل ٣٩٨,٧٣٠ بروتستانتيًا، ويبدو اتساع دائرة المنتسبين إلى الكنيسة الكاثوليكية واضحًا وجليًا أيضًا في حدود مدينة مونتريال حيث إنه من بين ١,٧٧٥,٨٧١ ساكنًا بها ١,٢٢٨,٧٦٠ كاثوليكيا مقابل ١٧٦,٧٥٥ بروتستانتيًا فقط، رغم هذا الكم الهائل من المواطنين الذين يصرحون بانتسابهم إلى الكاثوليكية، فإن عدد الممارسين فعليًا لأبسط الالتزامات التعبدية مثل صلوات الأحد والميلاد قد شهد خلال العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا دفع القائمين على الكنيسة إلى تعجل الدخول مرة أخرى في مثل هذه الاستشارة الشعبية الواسعة حول الميولات الدينية لمنتسبيها.
ورغم أن الكنيسة ومنتسبيها لم يتجرؤوا على الدعوة لإعادة الاعتبار الديني في تسيير شؤون الدولة وإحاطة وتوجيه المجتمع، فإننا نجد أن النخبة التي هي في غالبيتها الغالبة لائكية تتعامل بحساسية مرهفة جدًا مع مبادرات الكنيسة ومطالبها وتوجهاتها الإصلاحية، وأبلغ مثال على هذا الصد اللائكي «العنيف» الديني هو المراجعات التي تعمل المركزية النقابية لقطاع التعليم على إدخالها على النظام التربوي والتعليمي بالمقاطعة، وتدور هذه المراجعات في عمومها حول تغيير فلسفة التعليم وهيكليته الإدارية الحالية القائمة على أساس الانتماء الديني حيث توجد لجنة للمدارس الكاثوليكية يرتاد مؤسساتها الكنديون الناطقون بالفرنسية والمهاجرون المقيمون في المقاطعة، ولجنة أخرى للمدارس البروتستانتية يرتاد مؤسساتها الكنديون الناطقون بالإنجليزية المقيمون في المقاطعة أيضًا، ويطالب هؤلاء اللائكيون من خلال المركزية النقابية بحل هاتين اللجنتين، ومن ثم عدم اعتبار الانتماء الديني واستبدال كل ذلك بمؤسسات تعليمية تقوم على أساس التنوع اللغوي «فرنسي – إنجليزي» لائكية مائة بالمائة لا مجال فيها للتعدد الديني تتمحور وظيفتها الرئيسية في التعليم أكثر من التربية التي هي مسؤولية الأسرة رغم هذا الصد «العنيف» لتيار اللائكية ضد أية محاولة لإعادة طرح مسألة الاعتبار الديني كقضية مجتمعية تهم المجموعة، كما تهم الفرد فإن المتتبع للساحة الثقافية في كيباك خاصة وفي كندا عامة يجد صدى لأصوات أخرى معتبرة من أوساط النخبة العلمية، وخاصة العاملة ضمن أقسام الدراسات الدينية والعلوم الاجتماعية تنسجم إلى حد ما مع توجيهات ورغبات الكنيسة في إعادة النظر في مسألة موقع الاعتبار الديني من الحياة الفردية والجماعية، ولا يعنى هذا الانسجام تطابقًا في الخلفية والمقصد النهائي بين الجهتين، ذلك أن هؤلاء الباحثين وهم يتحركون في اتجاه طرح كضرورة حيوية يمكن أن توازن شيئًا ما الشخصية الفردية والجماعية داخل المجتمع الغربي المعاصر الذي أهلكته مغالاته في القيم المادية والانحلال الأخلاقي والتفكك القيمي، فإنهم لا يبدون رغبة كبيرة في العودة إلى التراث المسيحي في الغرب وإحياء ما يمكن إحياؤه من قيمه الروحية وأخلاقه الإيجابية، بل إن الغالب على أطروحات هؤلاء الباحثين في هذه المسألة هو الإعراض عن هذا التراث إعراضًا يكاد يكون كليًا، وذلك لما ارتبط بالتجربة التاريخية للكنيسة في كيباك خاصة من مآسٍ وويلات ومتاعب عانى منها الناس طويلًا، وعلى هذا، فقد نشطت المحاولات والدراسات في اتجاه دراسة حضارات وثقافات الشرق الأقصى والثقافات الأخلاقية والروحية ومن ضمنها الإسلام «الصوفي» أو «الروحاني». ولتعزيز حظوظ نجاحها في مهمتها الإصلاحية تحاول الكنيسة الكاثوليكية بمونتريال الاستفادة من توجهات الفاتيكان نحو تفعيل الكاثوليكية ومؤسساتها من خلال التعبئة والزيارات الجماهيرية التي لم ينفك البابا يقوم بها في هذه القارة وتلك ومن خلال الحضور الفاعل في المؤتمرات والمحافل الدولية «مؤتمرات الأمم المتحدة حول السكان والمرأة والتنمية» ومن خلال التحرك في قضايا اجتماعية حساسة كالفقر والإجهاض والمخدرات والأسرة والطفولة..
تصفية الملفات الصعبة
ومن خلال السعي لاستيعاب التطورات التقنية والمنهجية الحديثة مثل الإنترنت والإعلام والدعاية والتوسل بها ومن خلال تحسين العلاقة مع أغلب حكومات العالم في إطار حرص الكنيسة على تصفية موروثها من الملفات الصعبة أو المستعصية، بما في ذلك العلاقة مع اليهودية عامة ودولة إسرائيل خاصة، فبعد إعلان قيام العلاقة الدبلوماسية بين الفاتيكان ودولة إسرائيل في سنة ١٩٩٤م بعدما برأ البابا اليهود من دم المسيح، أعلنت مصادر الفاتيكان عن نية البابا زيارة المدينة المقدسة «القدس» لأول مرة خلال الفترة القريبة القادمة بعد استقباله بمكتبه لأرملة رابين رئيس وزراء إسرائيل المقتول.
الواضح إذن أن هذه الحركية «المتميزة» التي تشهدها الكنيسة الكاثوليكية في مونتريال خاصة وفي العالم المسيحي عامة إنما تأتي ضمن إستراتيجية واضحة ومتكاملة للفاتيكان الهدف منها تأهيل الكنيسة لاستيعاب التطورات الحالية والمرتقبة التي يمكن أن يشهدها عالم الإنسان، وخاصة في الغرب على جميع المستويات «المعلومات، الأخلاق، الذوق، نمط العيش..» وأمام ما يبديه التيار اللائكي في الغرب بجميع روافده «الحركة النسوية وحركات الشذوذ الجنسي».. من صد قوي لمبادرات الكنيسة ومشاريعها، فإن المرحلة القادمة من هذا السجال والتفاعل داخل بيئة الثقافة والمجتمع الغربيين جديرة بالرصد والمتابعة والتحليل من طرف المسلمين وخاصة منهم المقيمين في الغرب وذلك لاستشراف ورصد التحولات المرتقبة والحسن المتوقع، وتبيين المداخل والسبل الأنجع للحفاظ على مكاسب الإسلام وأرصدة المسلمين في الغرب بل والعمل على تنمينها، فهل ستنجح الكنيسة في مهمتها الإصلاحية؟ وهل ستدفعها مهمتها هذه في اتجاه تحسين علاقتها مع الإسلام والمسلمين؟ وهل سيكون لنجاحها أو فشلها تأثير مباشر وكبير على مستقبل الأقليات المسلمة في الغرب؟