العنوان الكوارث تحل بالسودان- إعلان السودان منطقة كوارث طبيعية
الكاتب محمد اليقظان
تاريخ النشر الثلاثاء 16-أغسطس-1988
مشاهدات 12
نشر في العدد 878
نشر في الصفحة 18
الثلاثاء 16-أغسطس-1988
- دمار كبير أحدثته السيول الجارفة.
- يبحثون بين الأنقاض عن حاجياتهم التي جرفتها السيول.
تعرض السودان خلال الأسبوع الماضي لكارثة حقيقية، وصفتها وكالات الأنباء العالمية والمحلية بأنها أسوأ كارثة تحل بالسودان منذ مئات السنين، فما هي هذه الكارثة التي تناقلتها الألسنة والوكالات؟
كان السودان منذ سنوات قليلة يشكو من الجفاف والتصحر حيث تحولت مناطق واسعة إلى صحاري بعد أن قيل: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ ...﴾ (هود: 44) فانعدمت المياه الجوفية وتعطلت الآبار وهجرت المساكن، وتم نزوح كبير من القرى والمدن إلى العاصمة القومية «الخرطوم - أم درمان - الخرطوم بحري» وإلى بعض المدن الكبيرة فأصبحت تلك المناطق المهجورة هي بعينها كما وصف القرآن: ﴿... وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ (الحج: 45)، ولأول مرة نسمع عن وزارات جديدة أنشئت لمقابلة الحالة الجديدة، فهناك الآن وزارة النازحين ووزارة اللاجئين والإغاثة.
ومما زاد الأمر تعقيدًا استمرار الحرب في الجنوب مما أدى إلى نزوح أبناء الجنوب إلى الخرطوم بأعداد هائلة، فرارًا من البطش والإبادة التي يمارسها جنود المتمرد قرنق، وكذلك حروب الجيران أدت إلى تدفق اللاجئين أفواجًا وزرافات من تشاد وإثيوبيا وأوغندا.
الجفاف أدى إلى انحسار النيل انحسارًا خطيرًا هدد إثيوبيا والسودان ومصر بالمجاعة، وكانت مصر هي المتضررة الأولى من انحسار النيل لاعتمادها الكلي على النيل حيث لا تهطل الأمطار في مصر كما في السودان وإثيوبيا.
وصلى الناس في السودان ومصر صلاة الاستسقاء ليغيض النيل واستجابت السماء وأنزل الله الغيث من بعد ما قنطوا، وأرسل السماء مدرارًا على سهول الحبشة وفاض النيل وفاق فيضانه كل توقع، وارتفع منسوبه متجاوزًا منسوب فيضان عام ١٩٤٦، مما هدد كل المدن والقرى والجزر على امتداد ضفاف النيل المزمجر دون سابق إنذار.
وفجأة ودون مقدمات انهمرت السماء في أجزاء عديدة من السودان، واستمر هطول الأمطار دون توقف ساعات عديدة ولمدة أيام، وداهمت الكارثة بصفة خصوصية العاصمة المثلثة المكونة من مدن الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، حيث تعرضت كل محافظة الخرطوم بالإضافة إلى الأمطار الغزيرة- تعرضت أيضًا إلى السيول المنحدرة المزمجرة التي تدمر كل شيء أتت عليه.
ومما زاد من مأساة الكارثة غير المتوقعة أن السيول الجارفة لم تجد المنافذ والمصارف إلى النهر الفائض أصلًا، كما أن الأمطار الغزيرة تكدست في الشوارع وفناء المنازل والساحات لعدم وجود المصارف.
وانحبس الناس في بيوتهم الآيلة للسقوط وتعطلت المواصلات وانقطعت عن السكان الكهرباء والمياه، وحتى الإذاعة توقفت عن البث وانعدمت السلع التموينية بما فيها الخبز.
بالإضافة إلى كارثة الخرطوم فقد حلت الكوارث على مدن كسلا والشوك بالإقليم الشرقي، ومدن الدامر وعطبرة ودنقلا بالإقليم الشمالي، وكل مدن وقرى شمال كردفان حيث تعرضت هذه المناطق كلها إلى الفيضانات والأمطار والسيول.
إزاء هذا الموقف الخطير والمتدهور أعلن مجلس رأس الدولة التعبئة العامة لمواجهة الموقف المتردي، ووجه المجلس نداء لرؤساء الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية والإقليمية، لمؤازرة السودان للخروج من المحنة التي نجمت عن الأمطار والسيول التي اجتاحت البلاد. ودعا بيان مجلس رأس الدولة المواطنين إلى ضرورة التكاتف والتآخي، وتوحيد الصف لتجاوز المحنة الحالية والخروج بخطة موحدة لدرء آثار المخاطر التي نجمت عن الأمطار والسيول.
كما وجه المشير عبد الرحمن سوار الذهب «رئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية» نداء عاجلًا لكل قادة المنظمات والهيئات الخيرية والتطوعية في العالم الإسلامي، يطالبهم فيه بتقديم المساعدات العاجلة لضحايا السيول والأمطار.
وقال في ندائه إن وضع الأمطار والسيول في السودان سيئ للغاية وخاصة في الخرطوم، وإن حوالي مليون أسرة قد أصبحت بلا مأوى وإن عشرات الألوف من النساء والأطفال يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
وناشد المشير سوار الذهب تضافر جميع الجهود الخيرية في العالم لمد المتضررين بالخيام والبطاطين والغذاء والكساء والدواء.
أسباب الكارثة:
لا شكَّ أن الغيث الذي أنزله الله رحمة وبشرى، وأن تلك السحاب الثقال سيقت بلطف ورأفة إلى بلد میت استيأس أهله وظنوا أنه قد أحيط بهم قحطًا وجدبًا وجفافًا وتصحرًا، ولكن لماذا تحولت النعمة إلى نقمة والرحمة إلى عذاب؟!
الحكومة مقصرة:
كانت الحكومة نائمة لا تتوقع مثل هذه الرحمة مستسلمة لحالة الجفاف والتصحر، غير مدركة أن الله ينزل الغيث بعد القنوط وينشر الرحمة بعد اليأس. هذا الاستسلام أدى إلى قصور الدولة على جميع مستويات أجهزتها ومؤسساتها، وليس أدل على ذلك من أن العاصمة كانت دون معتمد «محافظ» إلى وقت حلول الكارثة، وتم تعيين اللواء طيار «م» محمد الفاتح عبدون «رئيس الجبهة الإسلامية بالعاصمة» معتمدًا لإقليم الخرطوم فقيل يومئذ: «كانت العاصمة تبحث عن معتمد فصار المعتمد يبحث عن العاصمة» كناية إلى أن الدمار الشامل قد حل بالعاصمة المنكوبة فلم تعد هنالك عاصمة!!
كان هناك قصور شامل وكامل من حيث الاستعداد الواجب لمواجهة الآثار الناجمة في مثل هذه الأحوال. لقد كان لانسداد شبكة تصريف المياه وتوزيعها وانهيار الجسور والقنوات اللازمة لمواجهة الفيضانات والسيول وقلة الآليات لنزح المياه، قد ترتب عليه سقوط آلاف المنازل في العاصمة والأقاليم وتشريد مئات المواطنين، وكانت هنالك خسائر في الأرواح وأخرى عالية وفادحة في الأموال والممتلكات.
العلاج:
الذين كانوا يتابعون صحف السودان، تلك الصحف المعادية للإسلام في الخارج والتي تخصص صفحات للسودان، كانوا يقرأون كلامًا كثيرًا وممجوجًا ممن يدعون بالمثقفين، كل ذلك الكلام كان موجهًا ضد الشريعة الإسلامية ودعوة مارقة إلى إحلال القوانين اللادينية ودعوة إلى إباحة بيع وشرب الخمور وإشاعة مستلزمات الرذائل والانحلال، وما كان أحدهم يهتم كثيرًا أو قليلًا ببناء الإنسان السوداني ولا التنبيه لأوجه القصور في الدولة، حيث إنهم يتأففون ويستنكفون من مثل هذه الاهتمامات الحياتية الصغيرة.
وما كنت لأعجب من أن تنزل الكوارث على أناس يرفضون شرع الله ويفضلون شرع الإنجليز والهنود والكفار، وها هي كارثة السيول والفيضانات وفي الطريق كارثة الجراد، فهل يستطيع نقيب المحامين الشيوعي العريق ومن ينطق باسمهم محاربة الله في عليائه أم هل حتى يستطيع أن يجلب إغاثة من الدول الشيوعية؟ وكيف وتلك الدول وحتى أكبرها تعاني من الشح في المواد التموينية والغذاء الضروري، وإن كانت تملك فائضًا كبيرًا من أسلحة القتل والدمار وفائضًا في الغث الأفكار.
إن بناء السودان لن يتم إلا من خلال بناء الإنسان السوداني من جديد وفق المنهج الرباني، ليكون إنسانًا ربانيًا يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. نريد بناء إنسان عامل في الأرض يوجه جهده البشرى في حذر وتحرج يتحرك في حدود النشاط الصالح النافع، وفي نفس الوقت نريده إنسانًا متطلعًا إلى السماء متحررًا من الهوى والطغيان البشري، نريد إنسانًا منتجًا يعمر الأرض بإذن ربه ويكون في نفس الوقت عابدًا لله بهذا الإنتاج والتعمير، خاشعًا خاضعًا له ولشرعه في تحركاته وسكناته.
إن الإيمان يفجر الطاقات الكامنة في الإنسان ويدفعه دفعًا لبناء الحياة وعمارتها في تجرد واحتساب ونكران ذات، ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف بنوا الحياة وأنشأوا الدول وسادوا الأمم، وذلك لأنهم فهموا دينهم حق الفهم ودرسوا من خلال كتاب ربهم سنن الكون والحياة والإنسان، فاقرأ معي إن شئت التعرف على تلك السنن قول الله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (*) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (*) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (*) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (*) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف: ٩٤ - ٩٩).
هذه سنة الله التي خلت في عباده، فمن وعي هذه السنن وأقام حياته في تناسق معها عاش عيشة راضية، ومن تصادم معها أصابه ما أصاب القوم السابقين. فهل نتعظ ونتبع الهدى، أم نتبع الضلال فنتخطف؟
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل