العنوان المجتمع التربوي (العدد 1040)
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر الثلاثاء 02-مارس-1993
مشاهدات 13
نشر في العدد 1040
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 02-مارس-1993
وقفة تربوية
مؤثرون أو متأثرون
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (أخرجه الترمذي، وأحمد) وهذا معناه بأن الإنسان يتأثر بمن يحب ويرافق، فهو إما أن يكون محبوبًا وبالتالي مؤثرًا أو محبًا فيكون متأثرًا، والداعية الفَطِن هو الذي يحرص على أن يمثل دور الاثنين معًا فهو يؤثر بالخير ويتأثر بالخير، ولكن كيف يصل إلى هذه المرتبة العظيمة؟؟
ومن الحديث السابق نستطيع أن نستلهم الإجابة فإن الحديث يَنُص على أن التأثر إنما يكون بعد الخلة وهي درجة عالية من المحبة وهذا يعني أن الذي يريد التأثير بالآخرين، لابد له أن يعرف كيف يكسب حبهم ليتأثروا فيه، بل إنها النقطة الأولى التي يجب على الداعية أن يراعيها في دعوته للآخرين، ومن أبرز الوسائل لكسب محبة الآخرين:
1-البشاشة والبشر عند اللقاء.
2-السؤال عن أبنائه ووالديه وأحواله الخاصة.
3-قضاء حوائجه بكل ما تستطيع.
4-تقديم المساعدة قبل السؤال عنها.
5-الاستماع إلى مشاكله واهتماماته وإبداء التأثر والاهتمام.
6-تقديم الهدايا.
7-إظهار المودة والمحبة قولًا وعملًا.
8-ترك الجدال والابتعاد عنه والتنازل عن رأيه إذا حدث خلاف فيما ليس فيه نَص.
9-أداء حقوقه كمسلم من عيادته إذا مرض هو أو أحد من أهله، وإفساح المجلس له، وتشميته إذا عطس، والسير في جنازته، ورَد السلام، وغيرها من الحقوق.
أما مرتبة التأثر الإيجابي فتتم بالآتي:
1-الاحتكاك بالصالحين من العلماء وطلبة العلم.
2-الدعاء لهم وطلب الدعاء منهم.
3-اتخاذ الخليل من هذا الوسط.
4-تقليل الاحتكاك بأصحاب الأهواء والمعاصي إلا إذا كانت هناك نية لدعوتهم أو اضطرار لنصرة دين الله.
والضمان بأن يكون مؤثرًا ومتأثرًا إيجابيًا ويكون بمنأى عن التأثر السلبِي هو أن يقوي الجانب الإيماني في نفسه ويراعي مراعاة شديدة قضية القدوة والثبات بعد ذلك بيد الله وحده.
أبو بلال
نظرات في سيرة الإمام حسن البنا (الحلقة الثانية)
بقلم: شوقي محمود الأسطل - موجه التربية الإسلامية بإدارة تعليم نجران – السعودية
الإمام الشهيد حسن البنا.
3-تواضعه:
صدق المعلم الأول صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث الذي رواه مسلم ..«وما تواضع أحد لله إلا رفعه» وقد كان الإمام مثالًا في التواضع ولين الجانب، وخفض الجناح، والزهد في الألقاب.. نُشرت له صورة مع الشيخ مصطفى السباعي «المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا» في جريدة الإخوان وقد كتب تحتها «قائد وجندي» فما كان منه إلا أن غضب وكتب إليهم بالرد التالي الذي نُشر في نفس الجريدة.. «كما قرأت كذلك تحت الصورة التي نشرتموها بالأمس تقديمًا لي ولفضيلة الأخ الأستاذ مصطفى السباعي في نهايته هاتان الكلمتان «قائد وجندي» فإن أردتم بالقائد فضيلة الأستاذ السباعي وبالجندي هذا الضعيف الذي ما اعتبر نفسه يومًا إلا أصغر جنود دعوة الحق فقد أحسنتم وصفًا وشكر الله لكم.
وإن كنتم تقصدون ما تَبَادَر إلى الأذهان من أول وهلة حين يرون مرشدًا ومراقبًا فإلى الله أبرأ مما صنعتم، وإلى الإخوان أعتذر عما وضعتم.. وأرجو ألَّا تحملنكم المداعبات الصحفية على مثل هذه المتعبات النفسية (7).
حدث الدكتور محمد خميس حميدة أخاه سعد الدين الوليلي «سكرتير الإمام» فقال: أتدري يا سعد أسعد يوم مرَّ بالمرشد؟
قلت: أي الأيام وكل يوم أسعد عنده من سابقه؟
قال: يوم دخلنا داره وعددنا يربو على الخمسة بعد سهرة طويلة بالمركز العام نسأله العشاء فتركنا وعاد جذلًا يحمل ما بقي من قوت عياله من الأرغفة وخيارات معدودة وقليل من حبات الزيتون وقطِع من الجبن القديم، وقال: كلوا فهذا عشائي وخير الطعام ما كثرت عليه الأيدي باسم الله فأكلنا وشبعنا وحمدنا الله..
قلت: صدقت فوالله ما تميز طعامه وما اشتهت نفسه شيئًا قَطْ غير ما قدم إليه أو عرض عليه.
ويحكي سعد الدين الوليلي فيقول واصفًا رحلة جمعته بالإمام «هبطت بنا الطائرة في سوريا للاجتماع بقادة العروبة للتشاور في أمر فلسطين، وفكر الإخوان هناك في إكرام الإمام وإحلاله محله من الاحترام فحجزوا لي وله في فندق الأوريان بالاس.. وعند انتصاف الليل دعانا الأخ الشاعر عمر بهاء الدين الأميري للنوم والراحة ولشد ما كانت دهشة فضيلته حينما وقف بباب الفندق ثم صاح: يا عمر أنبيت هنا في المكان الأنيق وإخواننا المجاهدون في معسكري البريج بفلسطين وقطنا بسوريا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. والله لليلة في دار من دور الإخوان أفترش الحصير وألتحف عباءتي وأتوسَّد زراعي أحب إلي من الدنيا وما فيها (8).
4-عفة لسانه وقلمه:
كان رحمه الله نموذجًا في الالتزام يمثل وآداب الإسلام في مخاطبة حتى الخصوم مستنيرًا في ذلك بكتاب الله عز وجل ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: ٣٤)، وبسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا» (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
هاجمت صحف الوفد الإخوان ومرشدهم هجومًا فاجرا مستخدمة في ذلك كل فنون الكذب والافتراء فإذا ببعض الإخوان يقوم بالرد عليهم وبأسلوب يقترب من أسلوبهم فغضب رحمه الله وكتب إليهم هذه الرسالة التي نُشرت على صفحات جريدة «الإخوان» «حضرة المفضال رئيس تحرير «الإخوان المسلمون» فقد قرأت ما كتب من تعليقات عن زهد النحاس وعن النحاس الورع في عدد الأمس فلم أرَهُ يساير الأسلوب الذي ترتضيه دعوة الإخوان ويتفق مع طابع الجريدة التي تنطق بلسانها، بل هو بالأساليب الحزبية والصحف التجارية أشبه وإليها أقرب، وأظن أنني نبهتكم مرة من قبل إلى هذا المعنى ويظهر أنكم نسيتموه.. وكان الأخ الكاتب يستطيع أن يصل إلى كل ما يريد بعبارة قوية رصينة تحمل طابع النصيحة والحرص على قبولها والاستماع لها تبتعد عن التشهير واللمز وقد نهينا عنه أشد النهي وإن من إرشاد الحق تبارك وتعالى لموسى وهارون عليهما السلام ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ (طه: 44) ولا حجة فيما تتناوله الصحف الوفدية من أعراضنا بغير الحق أو تلغ فيه صباح مساء من الباطل وأين إذًا فضل الدعوة وسمو الفكرة وجلال درجة العفو ومنزلة الكاظمين الغيظ والاقتداء بسيد البشر صلى الله عليه وسلم «اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» ولهذا أرجو أن تحرص الجريدة كل الحرص على تخير الألفاظ وانتقاء العبارات وتجنب النواحي الشخصية التافهة وتحري المعاني الكلية الجامعة مع تصحيح النية وكبح جماح الغضب وكظم الغيظ وقتل شهوة الانتقام (9).
ويوم أن انشق بعض الإخوان وسموا أنفسهم شباب محمد لم يثُر عليهم ولم يقاطعهم.. ولكن تصرف معهم التصرف الذي يليق به في مثل هذا الموقف فقد اتخذ شباب محمد مقرًّا له وأعد دفاتر للاشتراك في صفوفه فكان الإيصال الأول باسم حسن البنا؛ ليؤكد لهم أن موقفهم هذا لم يزعجه وإنه يتمني لكل عامل في حقل الدعوة أن يوفقه الله لكل ما يحب ويرضى (10).
وتأمل معي قصته مع الدكتور طه حسين عندما أصدر كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي كان دعوة صريحة للاتجاه إلى الغرب وأخذ ما عنده من خير أو شر.. وقد تناول الكتاب وصاحبه بالنقد كثير من الكتاب فلم يكترث بكل ما كتب وعزم على وضع ما جاء في كتابه موضع التنفيذ وقد كان مستشارًا لوزارة المعارف، وهنا اتصل بعض الغيورين بالإمام وطلبوا منه نقدًا للكتاب عبر محاضرة وحددوا موعدًا لذلك بعد خمسة أيام بدار الشبان المسلمين، وطبعوا الدعوات وقد كان مرتبطًا بمواعيد طول هذه الأيام ولا يستطيع التحلل منها ولم يجد وقتًا للاطلاع على الكتاب إلا فترة ركوبه من وإلى عمله.. يقول «فقرات الكتاب وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص على فقرات معينة.. ولم تمض الأيام الخمسة حتى كنت قد استوعبت الكتاب كله.. وفي الموعد المحدد ذهبت إلى دار الشبان فوجدتها على غير عادتها خاصة والحاضرون هم رجالات العلم والأدب والتربية في مصر.. ووقفت وبجانبي الدكتور يحيي الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين، ورأيت الكتاب كله منطبعًا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص.
وبدأت فقلت: لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعض وأخذت أذكر العبارة من الكتاب وأعارضها بأخرى من نفس الكتاب ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول: يقول الدكتور طه في صفحة كذا وأقرأ العبارات بنصها أيضًا من خاطري فاستوقفني ليُحضر نسخة من الكتاب ليراجع النصوص والصفحات وظل يتباعني فيجد العبارات لا تنقص حرفًا ولا تزيد ويجد الصفحات كما أحددها فكاد يُجن وساد الحاضرين جوٌّ من الدهشة.. وظللت على هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب فلما هممت بالانصراف اقترب مني الدكتور يحيي وأسر في أذني سرًّا تعجبت له قال: لقد كان معنا الدكتور طه وسمع محاضرتك دون أن يراه ويشعر به أحد وقد خرج كذلك دون أن يحس به أحد.. وطلب الدكتور طه مقابلة الإمام وفي لقائه به قال لعلك يا أستاذ حسن لا تعلم بأنني حضرت محاضرتك وبأنني كنت حريصًا على حضورها وعلى الاستماع إلى كل كلمة تقولها لأنني أعرف من هو حسن البنا وأقسم لك لو أن أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتمامًا وليس لدي رد على شيء مما قلت وهذا نوع من النَّقد لا يستطيعه غيرك وهذا ما عناني مشقة الاستماع إليك ولقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب.. وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت لهم رأسي.. ليت أعدائي مثل حسن البنا إذن لمددت لهم يدي من أول يوم.
وكان من آثار هذا اللقاء أن عدل الدكتور طه عن آرائه التي سجلها في كتابه وفي كتبه ومقالات التي سبقته (11)
هذه القصة أسوقها لمن لا يعرفون إلا اللجاج في الخصومة واتهام الناس في نياتهم متجاهلين هدى الإسلام في مخاطبة الناس ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83).
واقرأ معي وتدبر هذه الكلمات المضيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية رضى الله عنه والتي قالها في حق من خالف في قضية زيادة الإيمان ونقصانه حيث يقول: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد وقد لا يكون بلغه في ذلك من العِلم ما تقوم به عليه الحجة وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته(12) ويقول كذلك في رسالة وجهها إلى إحدى الجماعات الصوفية القائمة في عهده مع ما عرف عنه من شدة في الحق والجرأة في الإنكار على كل مبتدع سواء انتسب إلى الصوفية أو غيرهم. يقول: من أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب
من المسلمين المنتسبين إلى أهل السُنة والجماعة والمنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة «أبي البركات عدي بن منار الأموي» رحمه الله ومن نحى نحوهم.. وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وجعلهم معتصمين بحبله المتين(13)
هذه آداب عرفها السلف والتزموها ولكنها غابت للأسف عن كثير ممن يتصدرون الدعوة إلى الإسلام اليوم.
الهوامش
(7) حسن البنا مواقف السيسي ص ١٦٧
(8) حسن البنا بأقلام تلامذته - جابر رزق ص ١٣٦
(9) حسن البنا مواقف ص ١٦٨
(10) الملهم الموهوب ص ٤١
(11) أحداث صنعت التاريخ - محمود عبد الحليم 1/246
(12) الفتاوى - ابن تيمية 3/179
(13) الفتاوي - ابن تيمية 3/263
أزمة الذكي
يلتحق أحيانًا بسفينة الدعوة الأذكياء وأصحاب المواهب وأهل الابتكار والفلتات.. ويبدؤون بالعمل في الدعوة حركة وتخطيطًا وإنتاجًا إلا أن الضربة القاضية لهم تكمن في وجود مرب يرشدهم ويوجههم كما وجه هو وكما أرشد هو وكأنه قالب محدود يخرج من تحته دعاة وفق ذلك القالب فيكسر أطراف ذلك الذكي، ويلملم جوانب ذلك المبتكر حتى يجعله نسخة منه وكأن الدعوة أرادته آلة نسخ أو تصوير ولم تُرده يخرج قادة للدعوة متميزين موهوبين.
مثل هذه النظرة والتربية رأيناها من بعض الدعاة حتى تجد ذلك الذكي بعد طول عمر دعوي يصيبه الإحباط والانكسار ويبدأ يفكر في مؤسسة أخرى تحترم ذكاءه وموهبته وتستثمره لصالحها أو أن يبقى في الحركة لبركتها وهو مقيد لا يُقدم ولا يؤخر..
أو أن يبدأ المربي بتسكين ذلك الذكي والذي لم يستطع المربِّي أن يستوعبه، ويتهمه بحب البروز، وهذه طامة أخرى حيث إن المربي لم يستطع إشباع حاجة المتربي فيصدر عليه الاتهامات وبأنه لا يصلح للدعوة أو العمل.
علمًا بأن النبي صلي الله عليه وسلم كان يستوعب الجميع ويرشد الجميع فيرسل خالدا للجهاد وينمِّي فيه صفات الشجاعة ويجعلها لله، وأبو عبيدة يعطيه وسام الأمانة وحذيفة يأخذ مركز «كاتم السر» وعثمان الحياء وعمر الفاروق وأبو بكر الصديق وكلهم في سفينة الدعوة، وكل ينتج فيها بحسب موقعه.
جاسم المطوع
إرغام الشيطان في رمضان
ناجي الخرس
اعلم أخي الصائم أن تأثير الشيطان في رمضان ضعيف وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي الشريف قال صلى الله عليه وسلم «إذا دخل شهر رمضان فُتِّحَت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين»(1)
يقول القرطبي رحمه الله عن معنى سلسلت الشياطين بعد أن رجع حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذا لا يلزم من تصفيد جميعهم ألَّا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية»(2).
حتى قيل إن في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية.
يقول ابن القيم عن عبودية المراغمة بعد أن ذکر ستًّا من العقبات التي يضعها الشيطان لإغواء الإنسان ذكر في العقبة السابعة والأخيرة فقال رحمه الله: فإذا نجا مما سبق لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورَجِلِهِ، وظاهَر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به. فهو في هذه العقبة قد لبس لَأْمَةَ الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله، فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولوا البصائر التامَّة ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه، وإغاظته له.
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها: قوله تعالى ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ (النساء: 100)(3) سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغمًا براغم به عدو الله وعدوه. والله يحب من وليه مراغمة عدوه، وإغاظته كما قال تعالى ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120)(4) وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه،
﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (5) (الفتح: 29) فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلى إذا سها في صلاته بسجدتين وقال «إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان»(6) وفي رواية «ترغيمًا للشيطان»(7) وسماها «المرغمتين» فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفَّيْن والخيلاء، والتبختر عند صدقة السر حيث لا يراه إلا الله، لما في ذلك من إرغام العدو، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس.
ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأُوَل وصاحَبَ هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح، فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى»(8)
ترجمة الإمام محمد بن سيرين
هو محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك، كان أبوه سيرين من سَبْي عين التمر فاشتراه أنس بن مالك ثم ولد له جماعة من الأخيار منهم محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة وكلهم تابعون ثقات أجلَّاء رحمهم الله.
علمه ومكانته
قال محمد بن سعد كان ثقة مأمونًا عالمًا فقيهًا إمامًا كثير العلم والورع وكان به صمم وكان الشعبي يقول: عليكم بذاك الأصم يعني ابن سیرین.
وأوصى مالك بن أنس أن يغسله إذا مات ابن سيرين فلما مات ذهب الناس لابن سيرين فوجدوه محبوسًا في ديْن فقالوا له في ذلك فقال أنا محبوس، فقالوا قد استأذنا الأمير في إخراجك قال: إن الأمير لم يحبسني وإنما حبسني من له الحق فأذن له صاحب الحق فغسله.
ورعه وتقواه
قال مؤرق العجلي ما رأيت رجلًا أفقه في ورعه، وأورع في فقهه منه وكان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم.. وكان يقول عن نفسه: إني لأعلم الذنب الذي حبست بسببه إني قلت يومًا لرجل: يا مفلس، فذكر ما قاله ابن سيرين لأبي سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا وكثرت ذنوبنا فلم ندرِ من أين نؤتَى ولا بأي ذنب نؤخذ.
وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس.
تأويله للرؤيا
برز رحمه الله في تأويل الرؤى وله في ذلك أخبار كثيرة ومشهورة ويقول عن نفسه رحمه الله: رأيت في المنام كأنِّي دخلت الجامع فإذا أنا بمشايخ ثلاثة وشاب حسن الوجه إلى جانبهم فقلت للشاب: من أنت رحمك الله قال: أنا يوسف قلت فهؤلاء المشيخة؟ قال: آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقلت علمني مما علمك الله: قال ففتح فاه فقال: انظر ماذا ترى؟ قلت: أرى لسانك ثم فتح فاه فقال: انظر ماذا ترى؟ فقلت: لهاتك، ثم فتح فاه فقال: انظر ماذا ترى؟ فقلت قلبك قال: عبر ولا تخف، فأصبحت وما قصت على رؤيا إلا وكأني أنظر إليها في كفي
وجاء رجل إلى ابن سيرين فقال رأيت كأنِّي مجذوم، فقال: أنت رجل يشار إليك بأمر قبيح وأنت منه بريء.
وسئل عن رجل رأي يمينه أطول من يساره فقال: هذا رجل يبذل المعروف ويصل الرحم.
وأتاه رجل فقال: رأيت رجلًا عريانًا واقفًا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري فقال الرجل: الحسن هو والله الذي رأيت قال: نعم، لأن الدنيا مزبلة وقد جعلها تحت رجليه وعُريه تجرده منها والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين فقال: مات علماء البصرة فمات الحسن البصري ثم تبعه ابن سيرين بعد ثلاثة أشهر.
من أقواله رحمه الله
إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه.
ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: إيتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم.
وقال عن رجل ذكر له -وكان أسود- ذلك الأسود ثم قال أستغفر الله: ما أراني إلا قد اغتبت الرجل.
وفاته رحمه الله
مات في شَوَّال عام عشر ومائة من الهجرة وكان بينه وبين وفاة الحسن مائة يوم رحمهم الله أجمعين.
يوسف مصطفى عبد الله
المدينة المنورة
انتبه أيها الداعية
ما قبل السقوط
النفس البشرية إذا لم تشغلها بالخير؛ شغلتك هي بالسوء، والإنسان في كل وقت محتاج إلى يد العون التي تمد له وتدله إلى الخير، ولذلك وصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتزام الجماعة المسلمة والاختلاط بالناس والصبر على أذاهم.
ولقد فهم الشباب المسلم أن الدعوة إلى الله هي أن تُصلح نفسك وتدعو غيرك وبعملية حسابية
بسيطة نجد أن المتوالية العددية تزيد باستمرار ومع الوقت يصبح العدد أكثر.
ويتتبع الأخ الداعية الوسائل التي تعلمها ويزيد عليها من شخصيته بما يتلاءم مع من يدعوه.
فهذا يحب الفن فيتحدث معه الأخ الداعية عن الفن، ويقول له إن الفن رسالة سامية، وإن الإسلام لا يحرِّم الفن، وبمرور الوقت يصل مع صاحبه إلى هدفه ألَا وهو أن الفن إذا تمَّ توظيفه التوظيف الأمثل الذي يرضِي الله تعالى لعاد بالخير على الإسلام والمسلمين، وأنه إذا لم يوظف في مرضاة الله فإنه يدمر الأمة، وهذا يحب الرياضة فيشارك الأخ الداعية صاحبه هوايته ويقول له إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» وإن الرياضة تزيد المسلم قوة وهكذا تكون الرياضة عبادة بعد أن كانت عادة.
وهذا يحب الاقتصاد.. وهذا يحب العلم.. وهذا يحب الآداب.. وهذا يحب الفلك.. وهذا يحب السياسة.. وهذا..
وبعد مدة من الوقت يبدأ هذا الجديد في جذب جديد آخر ويجد نفسه فجأة لا يشاركه الأخ الداعية فيما كان يحب ويتركه لأي سبب ما، وكان هذا الداعية قد أنهى مهمته معه فبعد أن كان يقابله بترحاب وابتسامة الآن يجد شخصًا روتينيًّا ينفذ أوامر دون أن يفكر أو ليس عليه أن يفكر ومن هنا يبدأ السقوط فليست العِبرة بالكم ولكن العِبرة بالكيف.
أشرف حجازي – مصر
الهوامش
(1) رواه البخاري.
(2) فتح الباري جـ ٤ ص ١٣٧
(3) النساء ١٠٠
(4) التوبة 120
(5) الفتح 27
(6) صحيح رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري.
(7) صحيح مسلم
(8) تهذيب مدارج السالكين ص 144
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
قياس الرأي العام باستخدامها.. وسائل التواصل الاجتماعي في خدمة الدعوة الإسلامية
نشر في العدد 2114
30
الجمعة 01-ديسمبر-2017