العنوان المجتمع التربوي عدد 1335
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الاثنين 01-فبراير-1999
مشاهدات 14
نشر في العدد 1335
نشر في الصفحة 54
الاثنين 01-فبراير-1999
وقفة تربوية
قلوب معلقة بالله
عندما تزداد صلة العبد بالله تعالى، ويطهر قلبه من كل متعلق سواه، ويزداد قربه إليه بالطاعات، ويستشعر أهمية الوقت فلا يستنفد منه شيئًا إلا بما يقربه إليه، فإن كل المخلوقات تصبح لا تساوي عنده شيئًا، وذلك حين ترسخ عقيدته بأنه لا ضار ولا نافع إلا الله، وأن كل مخلوق مهما ملك من القوة والصولة، والعدة والعتاد، فإنه يبقى مخلوقًا لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا حياة ولا نشورًا، ومن هذه الزمرة كان الإمام المحدث الزاهد بنان بن محمد بن حمدان.
فمما جاء في ترجمته أنه «كان يأمر شخصًا من أصحابه بالمعروف وينهاه عن المذكر، فرماه يومًا بين يدي سبع، فجعل يشمه ولا يضره، فقام من بين يدي السبع فقيل له أين كان قلبك حين شمك السبع؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولعابها» (تاريخ بغداد ٧/١٠١).
أي أنه كان يفكر أكان سؤر السباع طاهرًا أم نجسًا؟ أما الخوف منها فما خطر على قلبه... عندما ضعفت صلتنا بالله، وأصبحنا نخاف من البشر أكثر من خوفنا من الله تعالى غابت عن دنيانا هذه النماذج المضيئة .
أبو خلاد
رسالة إلى داعية
أين دعوتك في محيطك القريب ؟
هأنا أبعث إليك برسالتي يا داعية الإسلام، يا من تجاهد بالحكمة والموعظة الحسنة، يا من ترابط على ثغر من ثغور هذا الدين، يا من ضحيت بوقتك لخدمة الأمة، وبين ثنايا هذه الرسالة تحية التقدير والإكبار لموقفك الخالد، وزهور يفوح عطرها ببعض الوقفات، ومنها:
أراك تبذل جهدك ووقتك في سبيل الدعوة إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها، وترحل وتتحمل عناء السفر والمشاق، كل ذلك في سبيل الدعوة، فبورك في جهودك، ولكن اين دعوتك في القرى والمدن القريبة منك؟ بل أين الدعوة في محيطك الأسري؟ لماذا أرى وأسمع المنكرات والمحاذير في هذه الأماكن ولم تحرك لها ساكنًا ولو بالكلمة فقط؟
لماذا هذه الاتكالية في مسؤولياتك العائلية، فجميع متطلبات الأسرة موكلة للسائق، ومتابعة الأولاد في أمور دينهم ودنياهم ليس لديك وقت لها؟
يا داعية الإسلام أما قرأت حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».. (من أفراد مسلم على البخاري) فلماذا تتقاعس عن مساعدة الآخرين، وتتعذر بدعوتك، ومشاغلك سدد الله الخطى، وبارك في الجهود.
الخزامي بنت عبد الله
تأملات في نصوص تربوية
تأهل قبل أن تتصدر.. «تحصرم» قبل أن «تتزبب»
بقلم: عبد الله بن حمود البوسعيدي
لما جلس أبو يوسف – يرحمه الله تعالى – للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة – يرحمه الله – أرسل إليه أبو حنيفة رجلاً فساله عن خمس مسائل:
الأولى: قصار جحد الثوب وجاء به مقصورًا هل يستحق الأجر أم لا؟ فأجاب أبو يوسف رحمه الله: يستحق الأجر، فقال له الرجل أخطأت فقال :لا يستحق، فقال: أخطأت، ثم قال له إن كانت القصارة قبل الجحود استحق وإلا لا.
الثانية: هل الدخول في الصلاة بالفرض أم بالسنة فقال: بالفرض قال: أخطأت قال: بالسنة قال: أخطأت فتحير أبو يوسف – يرحمه الله – فقال الرجل بهما لأن التكبير فرض، ورفع اليدين سنة.
الثالثة: طير سقط في قدر على النار فيه لحم ومرق هل يؤكلان أم لا؟ فقال: يؤكل، فخطأه، فقال: لا يؤكل، فخطأه، ثم قال: إن كان اللحم مطبوخًا قبل سقوط الطير يغسل ثلاثاً، ويؤكل، وترمى المرقة وإلا يرمى الكل.
الرابعة: مسلم له زوجة ذمية ماتت وهي حامل منه تدفن في أي المقابر فقال أبو يوسف – يرحمه الله – في مقابر المسلمين، فخطأه، فقال في مقابر أهل الذمة، فخطأه فتحير أبو يوسف، فقال الرجل تدفن في مقابر اليهود، ولكن يحول وجهها عن القبلة حتى يكون وجه الولد إلى القبلة، لأن الولد في البطن يكون وجهه إلى ظهر أمه.
الخامسة: أم ولد لرجل تزوجت بغير إذن مولاها فمات المولى، فهل تجب العدة منه؟ فقال: تجب، فخطأه، فقال: لا تجب فخطأه، ثم قال الرجل: إن كان الزوج دخل بها لا تجب وإلا وجبت.
فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة - يرحمه الله - فقال أبو حنيفة «تزببت قبل أن تحصرم»، وزببت العنب جعلته زبيبًا، والحصر أول العنب ما دام حامضًا، وحصرم كل شيء حشفه والمراد هنا تعجلت في الأمر.
هكذا ربي الإمام تلميذه على أن يستغرق في كل مرحلة وقتها المناسب، وألا يستعجل الشيء قبل أوانه، فمن كان هذا شأنه عوقب بحرمانه، ولفت الإمام نظره إلى أن المتشبث بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وأنه لا أستاذية قبل الطلب، ولا قيادة قبل الجندية، لأنه لا زبيب قبل الحصرم، ولا مضغ قبل المص، ولا ركض قبل الحبو ونبه الإمام إلى ضرورة التنسيق بين أهل العلم وإن كانت في مبادرات شخصية، نرى ذلك في قول الراوي حين قال: «لما جلس أبو يوسف - يرحمه الله تعالى – للتدريس من غير علم أبي حنيفة - يرحمه الله -» وهذه اللفتات ما كانت لناشئ ولا لجاهل، وإنما للعلامة الإمام أبي يوسف – يرحمه الله.
وبعد، فإن الناظر إلى واقع بعض العاملين للإسلام في الزمن المعاصر ليرى تزبباً – ما أكثره – قبل الحصرمة وليس هناك أبو حنيفة له.
ويرى تشبعًا وأستاذية لم تسبقها جندية، وجيوبًا لا تأتي بخير، ومبادرات في الغالب قاتلة، ويا ليتهم كانوا أئمة في ميادينهم، إنما هم ناشئة جهلة يسمون الأمور بغير اسمها، ويخطبون في غير يوم جمعة، ويفتون بما لا يعلمون، ويقولون ما لا يعملون، ويتطاولون على العلماء، وقد حذرهم من ذلك الناصحون بقولهم: «لحوم العلماء مسمومة» فتراهم يطلقون لأنفسهم العنان في التحريم، والتحليل، والتفسيق والتكفير ويضيقون واسعات، وينظرون إلى الأمور بمناظر ضيق، وفي الأمر سعة من غير تمييع للثوابت، ولا تحجير لواسع وعليه أرى لزامًا على المربين التصدي لمثل هذه الانحرافات كما فعل الإمام أبو حنيفة – يرحمه الله – ذلك أن التمادي يؤدي إلى التطرف والغلو واعتماد الذات مرجعًا، مما يؤدي إلى تهميش الآخر كائنًا من كان بالإضافة إلى إفساح المجال للمغرضين في النيل من الصحوة، ثم لا ننسى ردة الفعل من طرائق الصحوة الأخرى، فيما عدا المجتمع الرافض بداهة لكل مستخف به طاعن في دينه، وفهمه.
ولعل من أنجع الوسائل المعالجة لهذا الشرود الحوار الهادئ الملتزم بحسن الاستماع والمتلمس للأعذار المتجنب للوقوع فيما يحذر منه.
وما أجمل اصطناع المواقف التربوية كالتي اصطنعها الإمام الأكبر أبو حنيفة – يرحمه الله.
والله أسأل أن يهيئ من يدرس مثل هذه الظواهر في الصف الإسلامي سعيًا لتصحيح المسار، وتحقيق الغايات.
فقه الأولويات في تربية الرسول للصحابة
ترك الترتيب بين الخيرات من الشرور
توقفت متأملاً أحاديث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- التي تبين فضائل الأعمال الصالحة، ففي بعض الأحيان يأتيه بعض الصحابة سائلين الرسول -صلى الله عليه وسلم-عن أفضل الأعمال الصالحة، فتكون إجابته -صلى الله عليه وسلم- لكل صحابي مختلفة عن الآخر ولنقف مع بعض هؤلاء الصحابة لكي نعلم عمق فهم رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- لفقه الأولويات، وأنه -صلى الله عليه وسلم- يعطي كل صحابي ما يحتاجه، وما يكون أنفع له، فعن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قلت: ثم أي؟ قال بر الوالدين قلت: ثم أي قال الجهاد في سبيل الله» (أخرجه مسلم (85) باختلاف يسير.) (متفق عليه).
وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله» (أخرجه البخاري (1519)، ومسلم (83) ) (متفق عليه).
يتضح مما سبق أهمية فقه الأولويات وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يمارس هذا الفقه مع صحابته ، فعلى دعاة الإسلام اليوم أن يولوا هذا الأمر حقه من البحث والدراسة والإلمام.
تعريفه: يقول الدكتور يوسف القرضاوي مبينًا هذا الفقه: «هو وضع كل شيء في مرتبته فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير» (أولويات الحركة الإسلامية).
السيرة النبوية وفقه الأولويات: في العهد المكي كانت مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- محصورة في الدعوة إلى الله، وتربية الجيل المؤمن الذي يحمل عبء هذه الدعوة بعد ذلك إلى العرب، ثم ينطلق بها على العالم كله، وكان تركيزه على أصول العقيدة، وترسيخ التوحيد، وعبادة الله وحده، ونبذ الشرك، واجتناب الطاغوت، والتحلي بالفضائل ومكارم الاخلاق، وكان القرآن الكريم في تلك المرحلة يزكي هذا الاتجاه، فلم ينشغل المسلمون في هذه الآونة المسائل الجزئية، ولا بالأحكام الفرعية، بل انشغلوا ببناء الإنسان الذي تحدثت عنه سورة العصر: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
فلم يشرع للمسلمين أن يحملوا فؤوسهم ليحطموا الأصنام، هم يرونها كل يوم حول الكعبة، ولم يأذن لهم أن يشهروا سيوفهم دفاعًا عن أنفسهم، ومقاومة لعدو الله وعدوهم، الذي يسومهم العذاب، بل كان يقول لهم ما ذكره القرآن من أن: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (النساء: ٧٧)، وإن كانوا يأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بين مشجوج ومجروح، فكل شيء له أوانه المناسب، وإذا استعجل بالشيء قبل أوانه، فالغالب أنه يضر ولا ينفع ( البخاري).
الإمام الغزالي وفقه الأولويات: أنكر الإمام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» على بعض فرق المغرورين بالعبادة، دون مراعاة لمراتب الأعمال، فقال: «وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، نرى أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها أول الوقت، ونسي قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» (صحيح البخاري) (إحياء علوم الدين) وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورًا» (إحياء علوم الدين) .
خالد يوسف الشطي
مرض قاتل اسمه «التواكل»
التواكل مرض قاتل، يصيب النفوس الضعيفة، فيعيبها عن احتمال المكاره وممارسة الصعاب، ومداومة العمل في سبيل الحياة الحقة، ومن أسبابه:
- قصر النظر عن استطلاع أسرار الحياة وتفهم معانيها، والاستفادة بتلك القصص المفيدة التي تمثل على مسرحها في كل وقت.
- عدم الثقة بالنفس، والشك في قوتها وجبروتها، وأنه لا يغلبها إلا الموت، واستكثار النجاح عليها، وعدم تمرينها على غشيان الخطوب في سبيل الحصول على المجد.
- عدم الطموح إلى العلا، والرضا من الحياة بما دون الذروة واليأس من النجاح المجرد عارض قد يزول.
ورأس هذه الأمور كلها عدم الثقافة العلمية والخلفية والاجتماعية عند قوم، وعدم تأثر النفس بالعلوم والآداب، وقراءة سير العظماء وما خلدوا به ذكراهم عند آخرين، وما وجدت تلك الأمور عند قوم إلا تأخرت أمورهم، وتحقق في الحياة فشلهم، وانحلت رابطتهم، وهان على الناس خطبهم.
وخير علاج لذلك الداء المستحكم طلب العلم، والجد في تحصيله، فيه تسمو النفوس، وتتسع المدارك، وتنير الأذهان، ويتسع أمامها طريق النجاح، وينال المرء مجدًا وكرامة، ثم بعد النظر والتدقيق في أمور الحياة وما يدور فيها من سكون وحركة واستعذاب ورود الردى في سبيل الرفعة والكمال، وعدم الرضا والانثناء عن المراد لمجرد عارض من الأعراض، «فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى» وكذلك الإيمان بالنصر والنجاح والشجاعة والعزم، وعدم قبول الضيم، كل هذه الأمور تهز الضعيف وتثير فيه الهمة على أن يدافع القوي عن حقوقه ما وسعه الدفاع، وبغير هذه الأمور لا يمكن لفرد، بل الجماعة التخلص من التواكل، وما يجره وراءه من نتائج مرذولة: «وإذا عز الدواء استحكم الداء، وتعذر الشفاء».
وهذا الدواء ميسور لكل إنسان يريد أن يعيش حياته عزيز الجانب، موفور الكرامة، نافعًا لأمته ووطنه، فالمهم أن يريد، ثم يصمم على ترجمة الإرادة إلى عمل يؤكد قوة هذه الإرادة التي تطالعنا من كلام «المقداد بن عمر» حين استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في غزوة بدر، وقد بلغه خروج قريش ليمنعوا غيرهم، إذ قال: «يا رسول الله امض لما أمرك الله فوالله الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام يعني إلى مدينة الحبشة – لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه»، وهي أيضًا الإرادة الحازمة التي لا ينثني صاحبها حتى يصل إلى ما يريد أو يبلغ عذراً، والتي تتبينها من قول سعد بن معاذ في هذه الحادثة أيضاً:
«فامض يا رسول الله لما أردت، والذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به، فسر على بركة الله» (أخرجه الطبري في ((تاريخه)) (11/220)).
نجوی عوض أحمد - القاهرة
رائد الإخوان المسلمين في فلسطين وأحد أعلام الحركة غير المعروفين
الشيخ مشهور الضامن
بقلم: د. محسن محمد صالح([1])
التقى الإمام البنا في الثلاثينيات وزامل السباعي في مقاعد الدراسة بالأزهر.
أنشأ شعبة الإخوان في نابلس وجعل منها مركزًا للتعبئة والدعايا والقضايا الإسلامية.
ربما لا يعرف كثيرون من أبناء الدعوة الإسلامية في هذه الأيام - وحتى من الفلسطينيين أنفسهم - الشيخ مشهور ضامن بركات - يرحمه الله - وربما كان عذرهم أنه ليس من الأسماء اللامعة في زماننا هذا، ولكنه – على أي حال – كان أحد أعلام الحركة الإسلامية الكبار في فلسطين والأردن منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف الستينيات.
قبل ثلاثة أشهر ونيف التقيته ثلاث مرات وأنا أحاول تسجيل جانب من التاريخ الشفوي للتيار الإسلامي الفلسطيني، وكان ابن الثمانين عامًا يتمتع بروح حيوية شابة، وبنفسية إيمانية عميقة واثقة بربها، لم يهزها النوم على فراش المرض طوال سنتين بسبب آلام مبرحة في الظهر أصابته في اليوم التالي للقائه قيادات الحكم الذاتي الفلسطيني بعد أن عاد محبطاً منهم – حسبما ذكر لي – لعدم الاستجابة لنصحه لهم، وقد دعاني الشيخ الوقور بروح دعابته الخفيفة إلى الانضمام إليه في عضوية «فرقة الشباب» التي قال لي إن شعارها:
لا تقل شاب قلبي، ولكن قل شاب ذقني
لا يشيب الفؤاد وذكر الله فيه
وتصاب بالخجل وهو يحرص على إكرامك وضيافتك بنفسه، ويقوم ليصافحك – بالرغم من آلامه - ويضغط على يديك بقوة لتحس بنفسك «شبابه» يرحمه الله.
ولقد كان لشيخنا زهير الشاويش فضل السبق بالكتابة في صفحات المجتمع عن الشيخ الضامن وجزاء الله خيرًا عن دعوته للكتابة عنه، وهأنذا أحاول الإسهام بشيء في هذا المجال.
طليعة الإخوان
يذكر الشيخ مشهور الضامن – في مخطوطه الذي لم ينشر بعد «قصة حياتي» – أنه ولد سنة ۱۹۱۸م، وأنه من عشيرة المساعيد المنتسبة إلى عبد الله بن مسعود من قبيلة هذيل.
والشيخ مشهور الضامن من مواليد مدينة نابلس بفلسطين، وقد كانت أمه امرأة صالحة أحسنت رعايته فنشأ نشأة متدينة، وكان يلتزم بصلاة الفجر في المسجد منذ صغره، وقد رأى أكثر من رؤيا تحثه على طلب العلم.. فكان قراره الذهاب للأزهر لمتابعة الدراسة الشرعية هناك، وهناك عرف الإمام حسن البنا يرحمه الله ودخل في عضوية جماعة الإخوان المسلمين كما عرف في مقاعد الدراسة بالأزهر الشيخ مصطفى السباعي، الذي أصبح المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، وتعمقت الصلة بينهما، ولم يحدد الشيخ مشهور بدقة تاريخًا لدخوله جماعة الإخوان، لكن يبدو لنا من خلال حديثه أن ذلك كان في منتصف الثلاثينيات، ولعله يكون بذلك أول الإخوان المسلمين من فلسطين، ويشير الضامن إلى تتلمذه على يد البنا لسنوات قبل أن يعود لفلسطين مع نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، وقد نقل عن البنا أنه كان يؤمل دورًا كبيرًا للشيخ الضامن في فلسطين، وقبيل عودته دعاه الشيخ البنا وطلب منه في حال عودته أن يقوم سرًا بجمع عناوين رجالات وشخصيات فلسطين ويرسلها إليه، وقد قام الشيخ الضامن بذلك خير قيام، وتواصلت من خلال هذه العناوين المراسلات بين البنا ورجالات فلسطين، كما أن عنوان الضامن نفسه كان يستخدم لإيصال المراسلات إلى هذه الشخصيات([2]).
وخلال دراسته في الأزهر قام الشيخ الضامن مع صديقه الشيخ مصطفى السباعي بجهود مميزة في التعريف بقضية فلسطين، ويذكر الضامن أنه عندما قامت الثورة الكبرى في فلسطين (١٩٣٦م - ١٩٣٩م) حدثه أحد طلاب الأزهر بإعجاب عن المقاومة الفلسطينية وجهادها، غير أن هذا الطالب أنهى كلامه بالسؤال:؟! هل فلسطين في القدس أو القدس في فلسطين وقد شعر الضامن بمدى جهل هذا الطالب وإخوانه بالقضية، فوقف في مكان يطل على ساحة كلية الشريعة بالأزهر مغتنمًا اجتماع طلاب الكلية فيها وحدثهم عن تاريخ فلسطين وجهاد شعبها، وواجب المسلمين نحوها، وكان هذا على مسمع ومشهد الشيخ محمود شلتوت قبل أن يتولى مشيخة الأزهر الذي جاء إليه بعد انتهاء الكلمة ودعا له بالتوفيق.
وتشاور الضامن مع السباعي في هذا الشأن وقررا العمل على توعية الناس بالقضية، وقاما بدعوة الشيخ إبراهيم قطان والشيخ هاشم خازندار، والشيخ راتب الدويك، والشيخ يوسف الشاوي للانضمام إليهم، وبعد أن اجتمعوا قرروا طباعة بيان يتضمن شرح قضية فلسطين ومكانتها المقدسة في القرآن والسنة، وواجب العالم الإسلامي تجاهها، والدعوة لمقاومة الاحتلال البريطاني والعملاء، كما قرروا توزيع هذا البيان يوم الجمعة في مساجد مصر وخارجها، وقد تم توزيع البيان، وخطب بعضهم - ومنهم السباعي - في عدد من المساجد داعين للجهاد في الأرض المقدسة، وفي منتصف الليل داهمت سكنهم في الأزهر قوة شرطة أخذتهم إلى التخشيبة، وهناك طلب المحقق من الشيخ الضامن أن يدله على مكان الشخصية الوطنية الفلسطينية المعروفة محمد علي الطاهر، فرفض برغم علمه بالمكان، وشجعه الشيخ السباعي على موقفه قائلاً: «اثبت على وفائك» ولما حان موعد الامتحانات النهائية أدى المعتقلون الستة الامتحانات في السجن، ويذكر الشيخ الضامن أنه بعد الامتحانات تم إخراجهم من مصر، ونقلوا عبر غزة إلى معتقل صرفند في فلسطين، وقد تدخل الأمير عبد الله الضامن – عميد عشيرة المساعيد – الإطلاق سراح أخيه مشهور، وبالرغم من أن المندوب السامي البريطاني وافق على ذلك، إلا أن الشيخ مشهور رفض أن يخرج إلا مع إخوانه الخمسة، وتم له ذلك بالفعل وأطلق سراحهم جميعًا([3]).
وبعد أن استقر الشيخ الضامن في فلسطين، عين مدرسًا في المدرسة الأحمدية بعكا سنة ١٩٤٣م، ونائبًا لمديرها الشيخ جمال السعدي([4]).
تأسيس شعبة الإخوان في نابلس
بالرغم من وجود أفراد من الفلسطينيين المنضمين إلى دعوة الإخوان منذ فترة مبكرة، إلا أنهم انتظروا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية للقيام بتشكيل فروع علنية لجماعة الإخوان، وكان من أوائل هذه الفروع فرع الإخوان المسلمين في مدينة نابلس الذي قام بإنشائه الشيخ مشهور الضامن سنة ١٩٤٦م، وقد كان هذا الفرع من أنشط فروع الإخوان العلنية حتى منتصف الستينيات، وقد استمر الشيخ الضامن رئيسًا لهذا الفرع حوالي عشرين عامًا.
كان للشيخ مشهور وإخوانه جهودهم الطيبة في حرب ١٩٤٨م بالرغم من إمكاناتهم المحدودة، ولم ينل وقع الكارثة وهزيمة الجيوش العربية وخسارة أربعة أخماس فلسطين من عزيمته، فتجده ممتلئاً بالحيوية والأمل فيقوم بإنشاء جمعية التضامن الخيرية في نابلس منذ ١٩٤٨م ويسهم في بناء المدارس والمعاهد الشرعية، ويقوم بمساعدة أهل الخير ببناء دار كبيرة للإخوان تصبح مركز إشعاع إسلامي ووطني في المنطقة.
ويصبح مشهور الضامن «مفتي نابلس»، ولم يكن منصبه ليؤثر في جرأته ونشاطه، ويقف في وجه وزير الأوقاف الشنقيطي في منتصف الخمسينيات ويقول له كلمة الحق دون أن يأبه بإيقاف راتبه([5]).
وتشير التقارير إلى أن شعبة الإخوان المسلمين في نابلس كانت من أنشط الشعب في الضفة الغربية خلال الخمسينيات، جنبًا إلى جنب مع شعب الخليل والقدس، وعقبة جبر وغيرها في تقريره الذي رفعه سنة ١٩٥٠م ذكر الشيخ مشهور الضامن أن أعضاء فرعه زادوا من مائتين إلى ثلاثمائة عضو خلال سنة واحدة، ولم ينسحب إلا ثلاثة أفراد قد تزايد الأعضاء بعد ذلك ليشعلوا المئات من طبقات المجتمع كافة، وكانت للجنة الإدارية في نابلس تضم أفرادًا من العائلات المشهورة مثل طوقان والنابلسي والمصري، وكان لفرع نابلس هيئة إدارية من تسعة عضاء، وله مجلس استشاري، وأفراد مسؤولون من توزيع المنشورات والبيانات، كما كان له واعظه الخاص([6])، وكان من الشخصيات التي نشطت إلى جانب الشيخ الضامن في نابلس شعبان صبح الذي كان نائبًا للضامن، وشريف صبوح، وعادل شير، وفائق عنبتاوي، ومحمد العمد، ويتحدث الشيخ الضامن بالكثير من الإعجاب والإجلال عن شریف صبوح – الذي كان مديراً لأوقاف نابلس – ويعده أستاذه ويشيد بهمته العالية وتضحيته وأثره التعليمي الطيب في نابلس وقراها.
كانت شعبة نابلس أحد أهم مراكز الإخوان التي تقام فيها الأنشطة العامة والحفلات والمهرجانات الخطابية في المناسبات المختلفة والإسراء والمعراج، والمولد النبوي، والهجرة النبوية، وغزوة بدر وغيرها، وكان يشارك في هذه المهرجانات والأنشطة رجال المدينة وخطباؤها، فضلاً عن العديد من الزوار والضيوف أمثال عمر الداعوق من لبنان، والشيخ محمد محمود الصواف من العراق، ومحمد عبد الرحمن خليفة، ويوسف عظم، كما حظي الفرع بزيارة حسن الهضيبي لرشد العام للإخوان المسلمين في أواخر يونيو 1950([7]).
وقد استوعب الشيخ الضامن وإخوانه ضرورة توسيع الاهتمام بقضية فلسطين وقضايا المسلمين، وتنويع وسائل الوصول إلى شرائح المجتمع المختلفة وتعبئتها، فكان إخوان نابلس أول من شكل فرقة من شبابهم في أغسطس ١٩٥٠ لتدريبهم ضمن قوات حرس الوطني([8])، ليقدموا بذلك نموذجًا جهاديًا رائدًا أمام أبناء شعبهم وشكل فرع نابلس فرقة للجوالة والكشافة شارك في عضويتها أعداد كبيرة من الطلاب إذ كانوا يعبئون تعبئة جهادية ويشاركون في مخيمات كشفية ذات طبيعة تدريبية شبه عسكرية، وعندما كانت تسنح فرصة التدريب العسكري كان السيد ممدوح النابلسي مشرفًا على التدريب([9]).
وعندما ارتكب الصهاينة مجزرة قبية في أكتوبر 1950م كانت دار الإخوان في نابلس محط أنظار الإسلاميين والوطنيين، فعقد فيها اجتماع حضره ممثلو الهيئات الشعبية في نابلس واتخذوا عدة قرارات منها الدعوة إلى مؤتمر شعبي عام لمعالجة المشكلات الخطيرة الناتجة عن كارثة فلسطين واتهم المجتمعون قيادة الجيش العربي – برئاسة البريطاني جلوب باشا – بالتقصير في جانب الدفاع عن البلاد وطالبوا بتحرير الجيش الأردني من السيطرة الأجنبية، وطالبوا بتقوية الحرس الوطني، ومحاسبة المقصرين، وتقديم مساعدة عاجلة لقرية قبية، وتم اختيار الشيخ مشهور الضامن وعدد من رجالات المدينة كلجنة شعبية للمؤتمر الشعبي العام، وقام الإخوان وأهل نابلس بمظاهرة كبيرة استنكاراً للعدوان الصهيوني([10]).
وفي نوفمبر ١٩٦٢م فاز الشيخ مشهور الضامن بأغلبية كبيرة في انتخابات البرلمان الأردني ([11])، وفاز إلى جانبه من الإخوان يوسف العظم عن منطقة معان، وعبد الماجد الشريدة عن منطقة إربد، وقام الضامن مع أخويه بتقديم اقتراح بحجب الثقة عن حكومة وصفي التل في فبراير ١٩٦٣م لأنها على حد تعبيرهم لم تعمل على تطبيق الإسلام، ولأنها فشلت في إبعاد الأردن عن التأثيرات الغربية، ولعدم قيامها بأي شيء للجهاد ضد إسرائيل ([12]).
معايشة هموم المسلمين
بالرغم من أن مدينة نابلس كانت قريبة من خط المواجهة مع الكيان الصهيوني قبل حرب ١٩٦٧م إلا أنها كانت أيضًا مركزًا للتعبئة والدعاية للقضايا الإسلامية، وكانت هموم المسلمين تشغل الشيخ الضامن وإخوانه، ومن أمثلة ذلك إضراب نابلس والمظاهرة التي قام بها الإخوان فيها في ١٤ من نوفمبر ١٩٥١م دعمًا لوثبة مصر لتحطيم الأغلال وتأييدًا لمطالبها ([13]) تجاه معاهدتها مع بريطانيا، لتحقيق الاستقلال التام وإنهاء النفوذ البريطاني، ثم إن الإخوان تألموا كثيرًا لاستمرار الممارسات التعسفية ضد الإخوان حتى بعد العدوان الثلاثي على مصر، وأرسل مشهور الضامن الذي أصبح المراقب العام بالنيابة – للإخوان المسلمين في الأردن – برقية إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية يدعوهم للتدخل لوقف عمليات الفتك بنزلاء معتقلات الواحات في الصحراء المصرية في يونيو ١٩٥٧م ([14]).
وشكل الإخوان في نابلس لجنة للدفاع عن المغرب العربي الذي كان لا يزال يرزح تحت الاستعمار الفرنسي وقامت الهيئة الإدارية للإخوان بنابلس بتوجيه كتاب إلى الجامعة العربية تناشدها إعلان المقاطعة الاقتصادية ضد فرنسا، كما قامت بجمع التبرعات لتونس ومراكش([15])، وفي ٢ من سبتمبر ١٩٥٣م دعت لجنة الدفاع عن المغرب العربي في نابلس الاجتماع وطني كبير في جامع النصر خطب فيه الشيخ مشهور الضامن ومحمد العمد([16])، وفي نوفمبر ١٩٦١م أقام الإخوان بنابلس مهرجانًا بمناسبة العام الثامن على ثورة الجزائر بحضور مندوب حكومة الجزائر عبد الرحمن العقون، وكان عريف الحفل الشيخ مشهور الضامن الذي تحدث عن أبطال الجزائر وجهادهم([17]).
مع حل مجلس النواب الأردني الذي فاز بعضويته الضامن، ومع تبدل الأحوال في منتصف الستينيات قرر الشيخ الضامن الذهاب للسعودية للعمل خبيرًا للخطوط العربية هناك، وهي الخبرة والمهارة التي أجادها عندما كان يدرس في الأزهر في الثلاثينيات، إذ درس الخطوط العربية إلى جانب دراسته الشرعية، وظل في السعودية حتى التسعينيات عندما استطاع أن يزور نابلس مرة أخرى بعد إقامة سلطة الحكم الذاتي في أجزاء من الضفة والقطاع غير أن آلام ظهره أقعدته طوال السنتين الماضيتين إلى أن توفي - يرحمه الله – في ٣١ من أكتوبر ١٩٩٨م في عمان بالأردن .
([1]) أستاذ مساعد في التاريخ الحديث – الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا.
([2]) مشهور الضامن مقابلة عمان ٢٥ أغسطس ۱۹۹۸م.
([3]) كتب الشيخ الضامن هذه القصة بنفسه في مقال مخطوط بعنوان «الذكريات الخالدة مع الأخ الكريم العالم الجليل العامل المجاهد الشيخ مصطفى حسني السباعي يرحمه الله» وأوردنا هنا مختصرها.
([4]) مشهور الضامن قصة حياتي ص ٤٦.
([5]) مشهور الضامن مقابلة عمان ٢٥ أغسطس ۱۹۹۸م.
([6]) تمكن الباحث اليهودي أمنون كوهين من الاستفادة من المادة الأرشيفية التابعة للسلطات الأردنية التي وضع الصهاينة يدهم عليها إثر احتلال القدس ١٩٦٧م، وأصدر كتاباً بعنوان الأحزاب السياسية في الضفة الغربية انظر من ٢١٦، ٢١٧- ٢٢٤ – ٢٢٥ - ٢٢٧
([7]) جريدة الدفاع القدس ٢٣ يونيو ١٩٥٤م.
([8]) جريدة فلسطين القدس، ٢٣ أغسطس ١٩٥٠م.
([9]) مشهور الضامن مقابلة عمان ٢٥ أغسطس ۱۹۹۸م
([10]) جريدة الدفاع ١٨ أكتوبر ١٩٥٣م
([11]) جريدة الدفاع، ۲۰ نوفمبر ١٩٦٢م
([12]) انظر الأحزاب السياسية في الضفة الغربية ص ۲۱۲
([13]) جريدة الدفاع ٥١ نوفمبر ١٩٥١م.
([14]) جريدة فلسطين ٢١ يوليو ١٩٥٧م
([15]) جريدة فلسطين ۲۰ يناير ١٩٥٣م
([16]) جريدة الدفاع 1 سبتمبر ١٩٥٣م.
([17]) جريدة الدفاع ٥ نوفمبر ١٩٦١م
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلعوامل النصر والتمكين في سيرة سيد المرسلين ﷺ (1) فقه التعامل مع السنن الإلهية والأخذ بالأسباب ودورهما في تحقيق النصر الإلهي
نشر في العدد 2183
32
الجمعة 01-سبتمبر-2023
الصحابة الكرام لا يُحبهم إلا مؤمن ولا يُبغضهم إلا منافق أو جاهل
نشر في العدد 2173
29
الثلاثاء 01-نوفمبر-2022