العنوان المجتمع الثقافي (العدد 1084)
الكاتب : مبارك عبدالله
تاريخ النشر الثلاثاء 18-يناير-1994
مشاهدات 7
نشر في العدد 1084
نشر في الصفحة 52
الثلاثاء 18-يناير-1994
ومضة!!
هل هناك تشدد وتساهل، أم أن في الأمر مغالطة، تحتاج إلى شيء من الإيضاح، لوضع النقاط على الحروف.
عندما تأتي إلى من يسمى متشددًا تجده يستشهد بالآيات البينات والأحاديث الصحاح، والوقائع التاريخية عن الصحابة والتابعين.
وإذا ما ذهبت إلى من يتهم بالتساهل تراه يستند إلى الآيات والأحاديث وقصص من الرعيل الأول المشهود لهم بالفضل والتقوى والاستقامة.
فهل يصح أن نصف فريقًا بالتشدد وهو ينهل من النبع نفسه الذي ينهل منه الفريق الآخر الموصوف بالتساهل.
وما دام الجميع يغترف من بحر الشريعة الواسع، فإن حقيقة الأمر هي أن للدين حدًا أدنى، إذا تخلف عنه إنسان أوشك أن يضل عن الصراط المستقيم كما أن له حدًا أعلى، تتقاصر اعناق كثير من الناس وهممهم عن الوصول إليه. وما دمت ضمن الحدين فأنت في أمان من الضلال.
ألم تقرأ قول الله في كتابه الكريم ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (آل عمران: ١٠٢). والتي خاف الصحابة من عدم قدرتهم على تطبيقها. فأنزل الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: ١٦).
والحديث الشريف: «إن الله يحب أن تؤتي رخصة كما تؤتى عزائمه..». يستدل به من يأخذ بالرخصة بنفس قوة استدلال من يأخذ بالعزيمة.
قد يكون هناك اختلاف في الفهم وفي الأدلة المؤيدة لهذا الرأي أو لغيره وقد يكون الورع هو العامل الحاسم في تبني الأحكام وتفضيل بعضها على بعض.
وقد تكون طباع الناس هي التي تميل إلى اختيار هذا المذهب أو ذاك وقد تكون الظروف الآنية هي التي يناسبها تفسير معين فإذا ما تغيرت، عدلنا عنه إلى تفسير آخر يناسب الحالة الجديدة.
المهم أن الشريعة تستوعب مختلف الاجتهادات والحالات والطباع، وهذا يدل على سعة أفاقها، ولا ينبغي أن نجعله مسوغًا لتصنيف الناس، وتوزيع الاتهامات عليهم.
قصة قصيرة
الشارع الواسع
لم يكن يخطر بباله عندما كان ينظر إلى ما حوله فيرى الرمال الصفراء تمتد على مدى البصر من كل جانب.. أن شيئًا ما يراه الآن سيحدث وسيكون بهذه الصورة وهذا الإعجاز، فهو قبل عشرين سنة فقط كان ينغمس في الشقاء إلى أذنيه ويتلظى بلهب الحياة البدوية القاهرة لقد كان يضع لقطرة الماء الواحدة ألف حساب وحساب، حيث إن فقدها كان مروعًا ومؤثرًا على معيشته في هذه الصحراء القاحلة... إنه عندما يرى هذه الرمال الذهبية اليوم وهي تحاول من حين إلى آخر أن تعتدى على الخط الأسفلتي الأسود الذي يضرب بطوله في عمق الصحراء، فإنه يتذكر بوضوح صفعاتها الحارة التي كانت تتوالى دون هوادة على وجهه القمحي الناشف وهو يدير لها خده الآخر في استسلام وضعف «حقًا لقد كنت حياة مليئة بالشقاء والمعاناة».... هذه العبارة لم تكن تعليقًا على أحد أفلام الحياة الفطرية وإنما كانت كلماته التي أطلقها بصوت شبه مسموع في أذن غرفته الصامتة ودون أن يتذكر كل التفاصيل المرة لذلك الماضي الصعب تنهد تنهيدة طويلة ثم نهض وهو يستغفر الله العظيم لينظر من النافذة إلى ذلك الزحام الشديد الذي يضج به الشارع الكبير الذي تطل عليه قلته البيضاء ذات الدورين ولكم تعكر مزاجه حين رأى بأم عينه تلك السيارة السوداء اللون وهي تقف في موقف خاطئ لتسبب تلك الزحمة المستغربة في مثل هذا الشارع الواسع، لكنه تذكر عندها أن القشة الصغيرة قد تعيق حركة الماء في المجرى الواسع.... وقبل أن يستدير ليتجه إلى باب الغرفة لمح شابًا يرتدي قميصًا وبنطلونًا يخرج من البقالة الكبيرة التي تقف أمامها السيارة السوداء وهو يحمل في يده جريدة تميل في لونها إلى اللون البنفسجي الممزوج بالبياض ويضع بين شفتيه سيجارة يتصاعد دخانها الكثيف من أمام عينيه التي يكاد أن يغمسها بين عناوين تلك الجريدة عند ذلك وضع يديه على حافة النافذة وهو ينظر متعجبًا إلى ذلك الشاب وهو يمتطى سيارته السوداء دون مبالاة بتلك الأبواق العالية الصاخبة التي ارتفعت شجبًا واستنكارًا لهذا التصرف الهمجي وهذا الفعل اللا مسئول أراد أن يجلس على الكنب الفخم المجاور للنافذة لكنه أحس بضيق شديد فاتجه إلى الحديقة الصغيرة الموجودة في فناء الفيلا وهناك اكتشف أن الخادمة قد نسيت صنبور الماء الذي يسقى الحديقة مفتوحًا منذ وقت طويل وها هو الماء يندفع في غزارة متجهًا إلى ذلك المكان الذي كانت تقف فيه السيارة السوداء قبل قليل عند ذلك رفع يده ليقضى على حكة أحس بها في مؤخرة رأسه ثم اتجه إلى الكرسي الخشبي المثبت في الزاوية الغربية للحديقة وهو ينادي بصوته الأجش يا حمقاء... تعالي أغلقي الماء ثم أكمل بصوت خافت لقد أصبح الشارع مستنقعًا.
وتركت المسكينة غرفة سيدتها التي كانت تمسح وترتب أثاثها الفخم الجميل لتنطلق مهرولة إلى ذلك الصنبور الذي كان يصب الماء بغزارة بينما كان سيدها ينظر إليه وهو يفرقع أصابعه واحدة تلو الأخرى دون مبالاة في حين أن الماء كان يندفع مسرعًا نحو ذلك المكان الذي كانت تقف فيه السيارة السوداء ليشكل دائرة كبيرة من الماء مما جعل الكثير من السائقين الذين يمرون بسياراتهم بسرعة الأمن المطمئن ينحرفون لتفادي هذا الماء الذي أخذ حيزًا من الطريق، وفي سرعة خاطفة، انحرفت تلك السيارة البيضاء الفخمة التي فوجئ سائقها بهذا الماء الذي لم يعهده في هذا المكان من قبل لتنطلق في اضطراب شديد إلى حافة طريق اليسار مما جعل أصوات المكابح والأبواق ترتفع فجأة في ذلك الشارع الواسع الذي لم يتسبب في ضيقه إلا تلك السيارة السوداء التي كانت تقف أمام البقالة الكبيرة وذلك الصنبور الذي كان يسكب الماء في الفيلا المجاورة بالرغم من كل الذكريات التي كانت تدور في مخيلة سيد الفيلا الموقر عند الصحراء وقحولتها حيث إن الصنبور الذي يسكب الماء لا تغلقه الذكريات فقط.
علي محمد القرني
الرياض -السعودية
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل