; المجتمع الثقافي(1171) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع الثقافي(1171)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

مشاهدات 11

نشر في العدد 1171

نشر في الصفحة 54

الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

المجتمع الثقافي

ومضــــــة

ظهرا على الشاشة الصغيرة في حوار حول أزمة الثقافة، وإشكالية إحجام الناس عن الكتاب، وهجرهم للقراءة، وكانا مثلين واضحين لنمطين من المشتغلين بالشأن الثقافي والأدبي، أحدهما لا يعدو كونه موظفًا في جمعية ثقافية، أو رابطة أدبية أو اتحاد للكتاب، يقوم بواجبه الإداري، ويحفظ بعض الرموز والتعاريف والأسماء والمصطلحات الثقافية، تمامًا كما يحفظ زميله الموظف في جمعية تعاونية أو سوق مركزي أسماء وأسعار السلع والحاجيات والبضائع بنفس المنطق الاستهلاكي الذي يعتمد أسلوب الترويج ووسائل التسويق المتبعة، فلا أثر فيه لتفكير إنتاجي، أو روح إبداعي، أو عطاء متميز.

أما الآخر -الذي لم يتسنم مثل مركزه الإداري في الجمعية، أو الرابطة أو النادي الثقافي- فقد كانت موهبته الأدبية لافتة للنظر، وأبعاده الثقافية متجاوزة حدود المناصب والمراتب التي تكتسب في كثير من الأحيان بالتقادم، وليس بالإبداع والتفوق النوعي وكانت إجاباته قوية وعميقة وسريعة، ذلك أن الأفكار مختمرة في ذهنه، والأمثلة التوضيحية حاضرة على لسانه، يقتبسها من المعاناة الثقافية التي يعيشها، ومن التذوق الأدبي الذي يتمتع به، ومن الأحاسيس المرهفة والذاكرة المسعفة التي قلما تخونه أو تغدر به لقد كان كما شاهدته حركة بارعة، وموهبة فياضة، ينتقل بك إلى الموقع الذي يريد ويصور لك الحدث، أو يروي لك الشاهد كأنك تراه رأي العين، وبسرعة مذهلة لا يجاريها إلا سرعة وصول أفكاره إلى تجاعيد عقلك ورسوخها في أعماق قلبك.

انتهى اللقاء التليفزيوني قبل أن ينتهي عجبي من المفارقة بين الشخصيتين، ومقارنتي بينهما بغية تحديد الجوانب التي تثير الإعجاب، وتفرض الاحترام، وتغري بالمتابعة والاقتداء، وتلك التي تجسد الروتين، وتبعث على الملل، وتقدم أحد أبرز العوامل التي تسهم في إحجام الناس عن الكتاب، وعن كثير من دور الثقافة التي احتفظت بالعنوان، لكنها فقدت المضمون، وتحولت من مراكز للإشعاع إلى أماكن للتسلية، وإزجاء الفراغ.

 

متى يصـبغ بطرس غـالي جـدران قـصر جده؟!

بقلم: رضا فوزي

عندما كنت فتى غريرًا منهومًا بالقراءة، ومفتونًا ببعض الأسماء اللامعة أتابع كل شاردة وواردة من أفكارهم وكتاباتهم، وقد لاحظ جدي افتتاني ببعض الأسماء وبعض القضايا التي رأها أكبر من سني في تلك المرحلة، ولا أنكر أني كنت أقرأ لبطرس غالي بمجلته السياسية الدولية، وأتابع ما ينشر بها عن قضية الصراع العربي الصهيوني وصراع الفكر والحضارة بين الاستعمار والشعوب المستعمرة والهموم السياسية في إفريقيا وكثيرًا ما سألت جدي عن هذا الكاتب إن كان يعرفه، حتى بادرني جدي - رحمه الله - بحقيقة لم أستوعبها إلا بعد مرور عدة سنوات، قال: يجب أن تعلم أن لسان الإنسان هو فعله، فلا تأخذ بالأقوال قبل أن تدرك صدق الأفعال، فما أجمل كتابات بطرس، وأخشى أن يكون مخبره خلاف ما يظهره، فبطرس غالي هذا هو حفيد بطرس غالي - الذي كان رئيسًا لوزراء مصر قديمًا، واغتيل في ۱۹۱۰م - وأشيع يومها أن أسرته أقسمت على الانتقام لدم قتيلها، وأنهم سيصبغون واجهة قصرهم الكائن بالفجالة بالقاهرة بلون الدم القاني، ولن يغيروه حتى يتم لهم الثأر لدمه.

ومرت السنوات، ورأيت قصر غالي في الفجالة، وقد صبغت جدرانه باللون البني القريب من الأحمر القاني، ولم أُعر الأمر اهتمامًا حينها، وظننت أنها من نوادر وحكايات كبار السن والجدود.

وقد استغلت أسرة غالي غموض اسم القاتل المسيحي إبراهيم ناصف الورداني وانساقت وراء أكذوبة اتهام المسلمين بدمه على أمل الاستفادة منها مستقبلا، وسعت لنفي التهمة عن الكنيسة، رغم ما بين قتيلهم والبطريرك كيرلس الخامس - الذي تقدسه الكنيسة القبطية المصرية ويرفعه أتباعها إلى مصاف القديسين - من شحناء وخلافات مستحكمة.

ويبدو أن بطرس غالي الذي ولد بعد اغتيال جده بنحو عشر سنوات ولد سنة ۱۹۲۲م، نشأ وأمام عينيه لون الدم القاني وفي سمعه أكذوبة تتردد بلا ملل تثير الحقد والغل والرغبة في الانتقام، والثأر متى ما سنحت الفرصة، وأحسب أنه يعلم علم اليقين - مثلما تعلم أسرته - من وراء اغتيال جده، ولكن إذا امتزج الحقد الدفين بالكذب الأسود فلن تجد الحقيقة مكانًا في صدورهم.

ولعل في توجهات ومواقف د بطرس غالي من صراعات المسلمين في أي مكان في العالم ما يثير التساؤلات مثلما يثير الاشمئزاز والنفور؛ ففي صراعنا العربي - الصهيوني والذي أدلى فيه بدلوه ونشر العديد من الدراسات عنه، تغيرت مواقفه من النقيض إلى النقيض، وبالأمس القريب أرسل برقيات التعازي لأسر قتلى يهود يواسيهم ويشاطرهم أحزانهم، ولم يرسل بالمقابل برقية واحدة لأم فلسطينية ثكلى، أو طفل تيتم أو امرأة ترملت برغم الكم الهائل من الشهداء الفلسطينيين الذين فقدناهم في المواجهات اليومية للاحتلال الصهيوني، وهو أعلم الناس بجذور الصراع وبأصحاب الحق، وبالمعتدي الصهيوني.

ولعل ما يفضح عدم حياديته، موقفه المعلن غير الخفي من الصراع في البوسنة والهرسك الدولة الكاملة العضوية في منظمته التي يقبع على تلها، طبقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في ٢٢ مايو ۱۹۹۲م. والقاضي باعتراف المنظمة بجمهورية البوسنة والهرسك كعضو كامل العضوية فيها.

وموقفه المستمر لحماية الصرب الصليبيين ومساعدتهم بقراراته في تصفية المسلمين أرضًا وجسدًا، حيث رفض الاعتراف بالقرار رقم ٧٥٧ الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بإدانة الصرب في عدوانهم على البوسنة والهرسك، وإجبارهم على سحب قواتهم من الأراضي التي احتلوها من هذه الجمهورية المسلمة، واتفق مع كل من فرنسا وبريطانيا. وإيطاليا على حظر بيع السلاح إلى جمهورية البوسنة والهرسك، كما وقف ضد التدخل العسكري من قبل الأمم المتحدة، لوقف جرائم التصفية ضد المسلمين.

لقد تعامل بطرس غالي مع قرارات الأمم المتحدة من خلال نوازعه المنحازة، ونسائله: ألم يحن الوقت لتغيير لون جدران قصر جدك.

واحة الشعر 

أســليـــك بالمـــــوت .. !!

ظلام يلف الكون لف دثار               وليل وما بالليل جذوة نار

وشعب يلذ الموت في كل صورة             ويأباه إما كان موت صغار

رجال يرون القيد قيدًا وإن بدا           لغيرهمو في معصم كسوار

يروون من دمع الجراح جراحهم          فتجري.. ودمع العين ليس بجاري

فلله كم قاموا على الحق                إذا نام عن حق رخيص شعار

وحدهم أموتًا؟... يخاف الفارس الفذ.. إنه         كريم.. وكم في العيش وصمة عار

لك الله يا بشناق جرحك لم يزل              يسيل.. وفي الأضلاع زندك واري

ولو أن في الأرجاء حر لأشعلت           جراحك في جنبيه جذوة ثار

 أترجين هذا الغرب أن يُرخص الدما         لدفع الردى عنك وفك حصــــــار؟

 وأن يرفع «الحظر» الذي طال، بعدما          أقر لحظر الحق ألف قرار؟

 أفي قلب أوربا تقيمين دولة            تَحفُ بها الصلبان حف سوار؟

وكم مسجد من نفسك اليوم شاهد            على عمق إسلام وطيب نجار

 وما غيّر الغرب اللئيم طباعه       ولكن أزاح اليوم بعض ستار

أم «الهيئة» العظمى تفرين نحوها      فيا بؤس ملهوف يلوذ بنار

 ومن عجب أن يصبح الظلم هيئة        يقننها وغد خؤون ذمــار

 ومن ينصر الحق الذي تطلبينه          إذا نام عن نصر شقيق ديار؟

 شجاع إذا كان المخاصم أهله           جبان لدى الأعداء شر مداري

يسوق إلى الأغلال كل مناضل         كما اقتيد لص أو خدين عقار

 وكيف له أن ينصر الحق، والهوى         طليق وشرع الله رهن إسار؟

 أأبصرت يا أخت الرماد ديارنا          وما نال منها تاجر ومكاري؟

وشاهدت عن بعد نسيس(1) كرامة      يُعالجها فدم(۲) بطلقة نار 

 وكيف انحنى الإنسان فوق ترابها       كعوسجة(3) تشكو هجير قفار

 وكيف ارتمينا «يسرة» ثم «يمنة»          كسائمة تمشي بغير عذار

 كأعشى يسير الليل يقطعه ضنى      ويغفو إذا ما لاح ضوء نهار

فصبرًا ايا أختاه كم من مصيبة           تهون إذا قيست بموت شعار

 أما كنت في أمس القريب بعيدة      عن الدين حتى أبت أوب فخار

 أسليك بالموت الذي تحصدينه     إذا كان في موت حياة ديار

 وأبكيك للعرض الذي تبذلينه         فكم حرة تبكي وذات خمــــــــــــار

أيقتل في البشناق مليون مسلم      وننعم في ليل لنا ونهار

نسيس: بقية.  فدمه: غبي.                عوسجة: نبات شائك له ثمركأنه خرز العقيق. 

شعر: عدنان محمد فقيه

 

قصة قصيرة
أولاد الحـــــــرام

بقلم: زكريا التوابتي

ألقى بالصحيفة جانبًا رغم العناوين البارزة عن جرائم الاغتيال، والمطاردات الأمنية لتلك العناصر.. كان يرى ذلك الرأي الذي يقول بأنه إرهاب متبادل ذاك تحركه دوافع، والآخرون يقولون القانون والأمن والنظام، سئم ذلك الموضوع الذي طال دون أن يصل إلى نهاية، ومشاكله الخاصة لا تدع له مجالاً لأن يبحث بحثًا دقيقًا عن حجج وأسانيد ذلك الرأي الذي يراه، مشكلته هي أحق بكل جهده وتفكيره.. الزواج، تلك الرغبة.. الزواج، زواج دون إراقة دماء... ابتسم لذلك الخاطر وهو يلمح بطرفه عناوين الصحيفة الملقاة إلى جواره... لماذا لا يستطيع الزواج.

نسي «حسان» جرائم القتل والإرهاب واستغرق في التفكير، وقد فرضت همومه سلطانها عليه.. لما خلق خلقت معه حاجات هي من كمال الوجود للإنسان، نظام حياة تنضبط معه حركة الفطرة وحركة الغريزة معا... كان يرى أن هذا حقه على خالقه، لأنه رحيم ولأنه عادل، ولأنه مدبر حكيم وما دام هو يصلي ويصوم ويؤدي كل الفرائض، فمن حقه أن تتهيأ له أسباب الزواج من رزق وقدرة، ثم.... ثم الإحسان من ربه، وهو تبارك وتعالى غني کریم بر رحیم.

أما ويقينه كذلك، كان يتساءل دائما.. لماذا لا يستطيع الزواج وقد بلغ من العمر خمسة وثلاثين عاما؟ متى يتزوج إذن بعد هذا السن المتأخر.

أخذ يتأمل موقفه وجرأته على خالقه فيما يراه حقًّا له.. فوجوده ليس من فعله ولا من صنعته، وهو سبحانه المتكفل بكل ما يقيم هذا الوجود .. فلماذا لا يستطيع الزواج.

كانت الرغبة ملحة.. فكل خلايا جسمه تتشوق للزواج، وقلبه الحزين ومشاعره كلها تهفو لهذا الذي صار حلما ممتنعًا بعيد المنال... كان يحس إحساسًا قويًّا بأنه نصف مخلوق فهناك نصف غائب، نصف في كل ما ينشئ لـ حركة الحياة في كيان ووجود هذا المخلوق ! معنويا وروحيا وماديا، فكل شيء فيه لا يعمل بكمال لغياب هذا النصف الآخر.. متى يستطيع الزواج ويتحقق له هذا الكمال... السكن والمودة والرحمة غمغم لنفسه.. حقًّا ... الحياة زوجة.

الفقر هو الذي يحول دون تحقيق تلك الرغبة، ويأبى على نفسه أن يقرب الزنا، وحتى لو حقق راحة جسده في الزنا، فسيتضاعف عذابه الروحي وتضطرب مشاعره، ويفقد سكينة نفسه وأين هو من عواقب تلك الفعلة وآثارها المادية في المجتمع.. بعارها ووجودها كزرع خبيث تضطرب له قيم الحياة السوية النقية وهو يفكر في كل هذا، كان أيضاً يستشعر فرط الرضا عن النفس.. فكم عدد من هم مثله في النقاء، وطهارة الضمير والسلوك يحيون في مثل مجتمعه الذي شاعت فيه الرذائل، بل تضاعف رضاه عن نفسه وفطرته ترفض تلك الفاحشة بحس تلقائي .. لذا كثيرًا ما يتملكه إحساس بالغربة في هذا الزمان ليت أمنيته تتحقق. فجأة شعر بأنفاسه تتواثب، ورأسه كأن مطارق ثقيلة تدكها في عنف، وصدره ضيق حرج كأنما يصعد في السماء.. أيخلق فيه هذا العقل ليكون كاشفًا للداء واعيًا بالدواء.. أم يجعله مصدر عذابه عندما بدا لنفسه كمن يحاسب ربه خالقه.

حاول «حسان» أن يوقف حركة العقل دون جدوى.. كان يريد أن يخفف من هذا الضجيج وتلك الثورة المضطرمة بداخله، ود لو يتأمل في هدوء حصاد الرؤية التي أدارها العقل في رأسه وقلبه حتى لا يضعه على حافة قد تزل فيها قدمه ويسقط في الهاوية، لكنه وجد أن هذا التأمل هو حركة أخرى وعمل يقوم به هذا الجزء الصغير في رأسه، تساءل.. هل العقل وحده.

أخذ يتمعن ذلك التساؤل ويفكر فيه ما زال هذا العقل يكشف له أبعادًا وآفاقًا أخرى نعم.. فهناك حركة للروح وحركة للجسد، وأن ما يشعر به ويتمناه هو استجابة بقدر ما لتلك الحركة، وكان عقله يقول له: لست وحدي مصدرًا لسعادتك أو عذابك وشقائك...

وقالت غريزته له.. كل قيمة في الحياة بدون الزواج ناقصة، نعم.. بدون الزواج لا شيء.. هو كل شيء شعر بالقلق وهو يصل إلى هذه النتيجة، وعاد يعيد النظر فيما عنّ له من أفكار وتصورات.. انتبه إلى أن هناك حقيقة غائبة، وأنه قصر أحكامه وأقامها على جانب واحد.. كيف؟ نعم.. الله سبحانه جعل كل شيء سهلاً ميسرًا، لكن الناس هم الذين شقوا على أنفسهم وضعوا نمطًا للحياة صعبًا .. يبحثون عن حقهم في الحياة ولا يبحثون عما يجب عليهم فيها، يسلكون سبلاً عديدة، ويتركون السبيل الوحيد الآمن.

أيعرض الإنسان عن ربه خالقه، ولا تكون معيشته ضنكا؟ عقله وقلبه معا يردانه الآن إلى حقيقة لا يستطيع أن يتجاوزها .. الناس تصنع شقاءها بأيديها، فلا الشاب قادر على الزواج ولا الشابة مستطيعة له.. فالشقة صعبة المنال والصداق يفني العمر ولا يستطيع جمعه... فالأم والأب يتعسفان ويضيقان واسعًا، وكل الأدوات الحضارية تحرض على الفسق والفجور، وتحرك كل الغرائز الشريرة، والدنيا يكاد يخرب عمرانها، وأيضا طلقات الرصاص تدوي هنا وهناك، ورجال يسقطون صرعى... شغلتهم قضايا لا يريدون لها حلا إلا بالدماء وقضيته.. قضيته هو لا تحتاج لسفك الدماء.. أم هي أيضا قد تحتاج إلى حل دموي...كيف؟ هل يقتل رجلاً يرفض أن يزوجه ابنته أم يخطف فتاة ويتزوجها على سنة الله ورسوله.

ابتسم لتلك الأفكار العابثة، ولكنه رغمًا عنه أغرق في الضحك، ثم قام وتمدد على سريره الصغير.. ليضحك ويتخفف من الهموم والأحزان التي تنطوي عليها جوانحه، بل يحسهما تحيطان بكل ما حوله.

كان العنوان مغريًا جذابًا، رغم أن موضوعه جارحًا تنفر منه النفس.. جائزة عشرة آلاف جنيه لمن يرشد أو يمسك بذلك الإرهابي حيًّا أو ميتَا...

هتف «حسان».. عشرة آلاف جنيه..

ألقي بالصحيفة جانبًا .. ولكن الخبر المكتوب بحروف كبيرة حمراء تشاغل خياله حتى ليكاد يحجب مجال الرؤية أمامه.. التفت يتأمل الصحيفة دون أن يمد إليها يدًا، وبدت له بعض صور للهارب من زوايا متعددة صور أمامية، وأخرى جانبية، وصور بلحية، وأخرى حليقة، مد يده وتناول الصحيفة مرة أخرى وبدأ في قراءة تفاصيل إعلان وزارة الداخلية وهي تصف خطورته، وتعدد جرائمه، وتكشف عن بعض علامات مميزة بعنق الهارب، وإحدى يديه، وفكر أنها لا شك من آثار التعذيب في اعتقالات سابقة له.. قرأ كثيرًا عن التعذيب الذي بدأ يكتسب ألفة في وجدان الناس، وفقد كثيرًا من استنكاره في مشاعرهم، ورغم إنكار وزارة الداخلية له فإنه يميل إلى تكذيبهم والمنظمات الدولية المحايدة تدينهم، وأحكام قضائية ثابتة تؤكده عليهم، بل تصاعد التعذيب إلى تصفيات جسدية، وغمغم يحدث نفسه... أيمكن أن يقع ذلك؟ لو.. لو كان هذا الشباب متزوجًا لما حدث كل هذا...

تذكر أنه رأى في الصحيفة صورة لامرأة منقبة رهن الاعتقال قالوا إنها زوجة ذلك الهارب، وأن لها دورًا مع زوجها، وتعرف أماكن يمكن أن ترشد إليه، تساءل في إنكار... متزوج.. ورصاص يدمدم وهروب واختفاء... أهو متزوج حقًّا؟!

طبيعته ترفض حياة المطاردة، ويهفو إلى السكن والمودة والرحمة، ويتمنى أبناء يسهر هو وزوجته على تنشئتهم وتربيتهم، وغمغم وهو يتأمل صورة تلك المرأة المنقبة.. أما أنه أخطأ خطأ فاحشًا.. ألقى بالصحيفة مرة أخرى إلى جانبه.. كان «حسان» واعيًا لما يجري حوله، لكنه كان مشغولاً بمشكلته التي يرى أنها ضرورة حياة، وأن ما دون ذلك لا يعنيه، ورغم إدراكه أن الدنيا حوله تتقزز وتغلي، لكنه يرفض أن يضيع حياته في صراع مع قوى قوية تتمادى في قسوتها ولا تقف عند حد ماله، وكل ذلك فهو ينشد الاستقرار، غمغم في استخذاء أحسه في نفسه.. كل ميسر لما خلق له..

أخذ يشغل نفسه بأمنيته التي يتحرق إليها شوقًا.. عساه يهرب من ذلك القلق الذي يلح عليه ولا يريد أن يفارقه.. نعم.. كيف يفكر في ذلك؟! هكذا أنكر على نفسه ذلك الخاطر الذي يخايله، لكن.. لكنه لو حصل على تلك الجائزة لتحقق المستحيل، ولاستقرت حياته، ولما احتاج لدمدمة الرصاص.

حاول «حسان» أن يبتسم لكن الابتسامة فرت منه، وأخذ يتأمل موقفه.. هل لو رآه يسارع في القبض عليه ويسلمه للشرطة؟

عبثًا يحاول إقناع نفسه بأن هذا الهارب خارج على القانون.. يهدد أرواح الناس ويعكر أمنهم، لكنه كان يحس بالنفور من تلك الفكرة وتملكه الشعور بالحزن، وبين آن وآخر كان يتلفت ليعيد قراءة الإعلان في تلك الصحيفة. كان الإغراء قويًّا، وحاول مرارًا أن يقاوم جاذبيته، لكن عينيه لا تتوقفان عن مطالعته في كل لفتة أو حركة يتحركها.. شعر بالحسد والغيرة من ذلك الهارب الذي تزوج رغم حياة المطاردة، ومد يده يعيد قراءة قصة زواجه كما تحكي الصحيفة.. وكيف عقد على زوجته بصداق رمزي.. بالحد الأدنى المشروع في تراض وأين رآها رآها في زيارة لأخيها في اعتقال سابق، وعجب كيف رضيت به، وقد تأكد لها أنها لن تحيا آمنة في سربها؟ وغمغم في حنق.. لقد هزم الحكومة في أول معركة له مع الحياة..

وتحكي الصحيفة كيف تقف المرأة قوية صامدة إلى جانب زوجها، وكيف تتنمر إذا حاولوا خلع نقابها إلا قسرا وقهرا، ولا تبدي الندم لزواجها من ذلك الإرهابي، وغمغم «حسان».. عجبا ...

غادر «حسان» غرفته الصغيرة، واتجه إلى شاطئ النيل عسى أن تستكين نفسه وتهدأ، وهناك أخذ يتنسم هواء العصر، واستشعر متعة تأمل النيل بامتداده وكأنه قادم من الأفق البعيد، وكانت الحركة على الشاطئ هادئة، بينما عدد من الشباب والشابات قد انفردوا بأنفسهم أزواجاً هنا وهناك.. لاشك أن كل منهما قد أسلم نفسه لحديث الأماني والأحلام، لكن مسكن الزوجية كان تلك الصرخة بحوافها المسنونة الجارحة.. تحطم بثقلها وتذبح بحوافها تلك الأماني العذاب ومياه النيل بدورها تطوي في أمواجها كل الأحلام...

كان «حسان» قد اتخذ مكانًا قريبًا من الكوبري الضخم الذي يصل بين الشاطئين المتباعدين، وعاد يرقب استغراق الشباب والشابات في أحاديثهم، كانوا يبدون وكأنهم لا يشعرون بما حولهم، وأسف لهم وهو يدرك مرارة الواقع، وحمد لنفسه عدم تورطه في علاقة ميئوس منها، كما كان ينفر من علاقة لا يرتضيها لشقيقة من شقيقاته هناك في قريته البعيدة، قال له أحد زملائه في العمل عندما أنكر عليه مثل تلك العلاقة قبل الزواج.. هل يمكن أن يوجد الآن أمثالك من المتخلفين؟ أنت تحفة تبعث على الدهشة.

رغم تلك السخرية القاسية.. كان «حسان» ما زال راضيا عن نفسه، وتشاغل في تأمل السماء والماء وضوء النهار الصافي.. شغل بالجمال الكوني من حوله، وبدأ نبضه وتنفسه ينتظمان، وأخذ الموج المتلاطم في أعماقه منذ حين ينساب مترقرقًا .. انفصل بشعوره عما حوله، وخفت الضجيج، وارتخت الأعصاب المشدودة، شعر بنفسه بين اليقظة والنوم، وكأن غفوة تملكته، وإن لم تغمض عيناه تمامًا .. غمر كيانه كله إحساس بالراحة شعر بلذته، بينما الرغبة الشديدة في الزواج ما زالت تستحوذ عليه.. رأى فيما رأى أن شبحًا بعيدًا منزويًا أسفل الكوبري.. هناك عند الطرف المستقر على الشاطئ بعد لحظات بدا له كمن يتحرك بحذر ودون عجلة، لكنه عاد بعد لحظات إلى مكانه الأول، ثم إذا به يبالغ في الانزواء حتى لا يراه أحد.. تيقظت أحاسيسه وانتبهت فأخذ يمعن النظر إلى البقعة التي اختفى فيها ذلك الشبح، واستولى عليه ذلك الخاطر المرعب وقاوم في نفسه مشاعر الرهبة.. هل يمكن أن يكون ذلك الشبح هو هذا الهارب؟ ماذا لو كان هو؟ فهل يفعل معه تلك الفعلة؟

لم يستطع حسان، أن يدفع عن نفسه مشاعر الخزي، لكنه في نفس الوقت قرر أن يتسلل إلى حيث يتخفى ليتأكد من ذلك الظن الذي سيطر على تفكيره، وحتى يتعرف على حقيقته بطريقة ما .. سار محاذيا التقاء اليابس بالماء، وعلى مقربة من مكان انزواء الشبح اقترب من الماء وأخذ في الوضوء دون أن يتلفت أو ينظر إليه، لا شك أنه لو نظر خلفه لرآه، هكذا كان يفكر حسان.. أيضا ربما كان هو شخصًا آخر يشعر بالوحدة فاختار هذا المكان ليقضي بعض أوقاته فيه، لم يستطع أن يغالب ظنونه وقد أحس أنه أسير هذا الوهم الذي تمكن منه، أخرج منديله وأخذ يجفف وجهه وذراعيه، وبطريقة عفوية استدار إلى الخلف ومازال يجفف ماء الوضوء، وتعمد أن يبدو كمن يتلمس موضع قدميه، فلم يلق النظر إليه، اقترب حسان من ذلك الشبح وقال: السلام عليكم ورحمة الله...

وكان الآخر يحاول أن يخفي معظم وجهه وعنقه بشال عمامة أبيض شفاف، وجاء الرد كانه يصعد من بئر عميق عليكم السلام ورحمة الله...

هل بقي على موعد الأذان وقت كبير؟

أقل من ساعة تقريبا.

اقترب «حسان» منه أكثر وفاجأ الهارب بنظرة مركزة متفحصة، ثم جلس قريبًا منه.. وحاول الآخر مغادرة المكان، لكن «حسان» أمسك بذراعه وكأنه يرغمه على البقاء، وبحركة سريعة منه نزع الشال الأبيض.. رأى بوضوح نفس الصورة التي شاهدها في الصحيفة وتلك العلامة في العنق... كان كل منهما في مواجهة الآخر، والتقت عيناهما في نظرة ثاقبة متحدية.. كان الهارب أكثر ثباتًا وشبح ابتسامة تبين على شفتيه، واضطربت نظرة حسان، لكنه استعاد ثباته سريعًا، اتسعت ابتسامة الهارب ثم ما لبث أن قال في بساطة... ماذا تريد الآن؟

قال حسان بصوت أحسه كأنه صوت غير صوته.. واجبي أن أسلمك للشرطة ...

والابتسامة تتسع حتى غمرت الوجه كله قال الهارب في ثقة.. لو عرفت القضية التي بيني وبينهم ربما حكمت فيها بالعدل.. ولربما تغير موقفك...

- أنت خارج على القانون وتهدد أمن المجتمع.

أنا أحميك وأحمي آمالك، وأحمي القيم الثابتة.. إنهم أعداؤك دون أن تدري.

غمغم «حسان» في قلق.. القضاء.. القضاء يفصل بينكما بالعدل.

ألا تعلم أنهم لا يريدونني حيًّا.. سوف تغتالني رصاصاتهم بمجرد أن تقع أنظارهم على سياسة التصفية الجسدية... سياسة عليا ...

قال عبارته الأخيرة وقد اتسعت ابتسامته أكثر، بينما تضاعف قلق «حسان» وهتف.. لا يمكن ما... ما دمت لا تقاومهم...

يبدو أنك لا تفهم.

دون أدنى مقاومة تأتي معي إلى قسم الشرطة القريب.

هكذا ببساطة تذهب الشاة للذبح؟

قال حسان، متجاهلاً كلماته.. وتذكر .. وتذكر لهم أنني الذي أمسكت بك.

اتسعت ابتسامة الهارب، ولم يبق إلا أن يضحك وقال: إذن هي الجائزة.

تلعثم حسان، وهتف.. أنا لا تهمني الجائزة، لكنني كمواطن صالح يجب أن....

قاطعه الهارب وهو يشير بيده.. هذه الحافظة بها عشرة آلاف جنيه، وجواز سفر... خذ هذا المبلغ وانصرف بعيدًا عني.. ما قولك؟

شعر «حسان» بالضعة والهوان، وكأن قاعدة ذلك الكوبري بثقلها ترتكز على كتفيه، وهتف مهددًا .. عليك أن تطيعني وإلا سأضطر.

قاطعه الهارب مرة أخرى.. لندع موضوع الجائزة.. أريد منك إجابة على سؤالي.. هل هذه الحكومة حكومة صالحة؟

صمت «حسان» ولم يُجب، وبدت حيرته في نظرة عينيه، وواصل الهارب كلامه.. ألا ترى أن كل إنسان يحب أن يعيش في أمن وسلام؟ أتمنى هذا لي ولأسرتي...

-لماذا الإرهاب إذن؟

يبدو أنك تعيش على هامش الحياة، مثلك لا يشغله غير امرأة ينكحها ومعدة يملؤها ...

-هل هذا حرام؟ هل....

قاطعه الهارب.. لم أقل ذلك، هذا هو حرث الأرض.. الطين، لكن.. أين نصيب السماء... حقها الأسمى؟ حرث الآخرة..

تحير «حسان»، وقرص الشمس قد بدا بلون الدم، وغمغم متعجلاً.. تريد أن تطيل الحديث معي وتخادعني لكي تهرب.. لكنني لن أسمح لك.

هتف الهارب.. إنني لا أهاب هؤلاء، ولا أخشى القتل.. فهم لن ينقصوا أو يزيدوا في عمري شيئًا، إنك مثلي مهدد بالقتل.. لكن الفرق بيني وبينك أنني أعتقد أن الإيمان قول وعمل، أما أنت إن أحسنت الظن بك.. فأنت جبان ولن أحرمك من الإسلام.

أنت سليط اللسان، وكفى ما ينال أهلك بسببك.

هم مثلي يؤمنون بأن الإيمان قول وعمل.. هل أنت متزوج؟

لم يجب «حسان» واختلج جانب من فمه كان يعاني من إحساس بالعار والحزن معا، وهذا الهارب الذي لا يبالي بشيء يذبحه بكل كلمة يقولها، وغمغم الهارب.. لولا أنني مطارد لزوجتك، لكن لا حيلة لي في الأمر... والآن هل ما زلت مصممًا على أن تسلمني إليهم؟

غمغم «حسان».. نعم.. لا بد وأن تسير معي دون أدنى مقاومة.

لن أسمح لك بذلك.. ضع في اعتبارك أنك تريد أن تعيش، أما الموت بالنسبة لي فهو قائم أنتظره في كل لحظة .. ولن أدعك تفعل ما تريد...

وقفا في تحفز، وقال الهارب.. انصرف عني.. أنا أحذرك...

أمسك به «حسان» من ذراعه محاولاً جذبه، وبدأ العراك بينهما، كادا أن يسقطا في الماء، ولكنهما نهضا مرة أخرى.. كان الهارب قويًّا، لكن «حسان» كان يجيد المصارعة وله فيها جولات سابقة.. أخرج الهارب خنجرًا كان يخفيه، بينما بدأت الأنظار تنتبه إليهما، لوّح به في وجه حسان مهددًا، وحاول أن يفلت منه لكنه سد عليه المسالك، وبدأ الناس في الاقتراب منهما أكثر.. كان على الهارب أن يسرع حتى لا يفطن الناس إلى شخصيته ومن ثم سيتعذر عليه النجاة من المطاردة.. كان يلوح بالخنجر دون أن يصيب هدفا، وبدا أنه يتجنب إراقة الدماء، وانزلقت قدمه بالقبعة الطينية القريبة من الماء، فانقض عليه «حسان» ليشل حركته، وبدا للهارب أن لا مفر من استخدام الخنجر فجرح ساعد «حسان» جرحا غير عميق، ورغم شعور «حسان» بأنه لا يريد أن يقتله، لكن الخوف جعله يلوي ذراع الهارب بقوة وعنف، ثم أدخل الخنجر في صدره.. تفجرت الدماء غزيرة، وغمغم الهارب ووجهه ينطق بالألم... لم أكن أنتوي قتلك...

كف عن الكلام وسقط في غيبوبة الموت وبدت الأمواج في حركتها الهادئة كأنها بحيرة من الدماء.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حول العالم

نشر في العدد 2

35

الثلاثاء 24-مارس-1970

حول العالم - العدد 8

نشر في العدد 8

101

الثلاثاء 05-مايو-1970