; المجتمع المسلم والراية المقدسة (1-4) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع المسلم والراية المقدسة (1-4)

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 21-مارس-1995

مشاهدات 11

نشر في العدد 1142

نشر في الصفحة 49

الثلاثاء 21-مارس-1995

في هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث المريرة التي تعيشها أمتنا هذه الأيام، وفي هذا الزخم الراعد من هدير المحن التي تلدها الليالي الحبالي في أمتنا هذا الزمان، وفي هذا التيار المتدفق من الشكوك والإرهاصات التي تثار حول هويتنا وشخصيتنا في تلك الليالي الحبالي، وفي هذه الأجواء الملبدة بالغيوم المثيرة للصواعق حول شبابنا ودعاتنا حتى هذه الساعات يداعب خيالى وتلامس أحلامى أيام عشتها فأمست ذكرى وأوقات أعيشها وستصبح عبرة وأزمان سنحياها إن قدر لنا وستكون بإذن الله إشراقًا وهجرة، وغيب نأمله ونرجوه وسيكون إن شاء الله نصرًا وفتحًا وعزًا.
أما عن الأيام الفكرية التي عشتها في صغري، فقد رأيت الأمة المغيبة والعقول المهزومة والشباب العابث والهوية الضائعة والثقافة الغريبة والعزة المفقودة والشعب المستعبد، واليأس القاتل والاستسلام المقهور والأنا الشاردة والوجهة الضالة.
رأیت أنبياء الضلال ورسل المستعمرين وخدام الثقافات الدخيلة يخوضون في أحشاء الأمة المسلمة كما تخوض الذئاب في أمعاء الفريسة ويجرون الأمة إلى غير تاريخها ويحشرون فيها غير تراثها، ويلقنونها غير هويتها، حتى كنت أدرس وأنا في التعليم الأولي التاريخ الفرنسي وأمجد الحملات الفرنسية على مصر، وأعلم كيف أن هذه الحملات كانت خيرًا وبركة علينا ويجب أن نشكر الله عليها، وكيف تعرضت هذه الحملة الملائكية التي داست خيولها الأزهر وفعلت الأفاعيل بالأمة المسلمة إلى الإرهاب من قبل الخونة من المسلمين يعنون المقاومة الوطنية، إلى أن تمكن بعض الإرهابيين وهو سليمان الحلبي من قتل القائد العظيم كليبر في حديقة الأزبكية وصورت هذه الحادثة الجنائزية لنا تصويرًا تمسك قلبك فيه من التأثر والفجيعة التي وقعت لهذا القائد الفذ العملاق، وتتمنى أن لو رأيت سليمان الحلبي لتقطعه إربًا على هذا الجرم الذي لا يغتفر، وتود أن لو كانت لك ألف نفس لأعطيتها وبذلتها ليحيا هذا القائد الفرنسي البطل.
إلى هذا الحد كانت تغيب الأمة، وتقلب عندها الحقائق، وتلقن تاريخ خزيها وعارها على أنه تاريخ نهضتها ليهنأ المستعمر في بلادنا، كما تعلم أن تاريخ الكفاح الوطني والإسلامي المجيد، هو تاريخ إرهاب وسفك دم وخيانة وتنسى أبطالها ومجاهديها من أمثال الصحابة وزعماء الإصلاح الحضاري في الأمة ليستبدل بهم نابليون، وكليبر ومينو وأضرابهم من الغزاة.
ولا عجب فقد صنع الغزو الثقافي للأمة روادًا يحملون هذه السموم ليبذروها في الأمة فكنت مثلًا تقرأ لطه حسين في كتابه الذي ظهر في هذا الوقت بعنوان مستقبل الثقافة في مصر، يقول: إنى لأتخيل داعيًا يدعو المصريين أن يعودوا إلى حياتهم القديمة.. في عصرها الإسلامي أتخيل هذا الداعي وأسأل نفسي أتراه يجد من يسمع إليه؟ فلا أرى إلا جوابًا واحدًا يتمثل أمامي بل يصدر من أعماق نفسي وهو أن هذا الداعي إن وجد، لم يلق بين المصريين إلا من يسخر منه ويهزأ به!!..
هذا الكلام المحقور الضال كان هو الخبز اليومي الذي تربى عليه الشبيبة صباح مساء وهو الذي كانت تردده الصحافة ويهرف به أصحاب الأقلام المأجورة التي تعيش على موائد المستعمرين.
رأيت صناعة الثقافة في الشرق وفي بلدي وكيف أسست لها دور ملكها غرباء فأسس الأهرام غير مسلم يسمى «تقلًا»، وأسست دار الهلال ورأسها جورجى زيدان وشرع جورجي زيدان في كتابة التاريخ الإسلامي على أنه قصص حب وعشق ومؤامرات مما يبعدك تمامًا عن كل تفكير فى احترام هذا التاريخ أو الالتفات إليه وامتلأت الأسواق، بروايات الجنس العلني منها والخفي، وروايات الجيب، وقصص أرسين لوبين اللص الظريف، وأمثالها من الروايات الهزلية ليسبح الشباب في هذا الكم من الثقافات الضائعة، أما الثقافات الأدبية فكنت تجدها في خاصة الخاصة ممن يذهبون إلى صالونات الأدب عند علية القوم الذين كانوا يتخذونها نوعا من الوجاهة، وضربًا من أدوات التسلية بالمساجلات والمطارحات لأناس مخصوصين، يراد شغلهم عن الحياة السياسية وكشف نواياهم وإعدادهم لنيل العطاءات والمنح وتولي المناصب التي تنال بالرضى والمن من أولي الأمر.
أما المكتبة الإسلامية والعلوم الشرعية والثقافية الإسلامية والتاريخية للأمة فكانت مغيبة تمامًا لا يعلم المثقف عنها شيئًا ولا المتعلمون عنها خبرًا فضلًا عن الرجل العادي أو عن الشباب من أمثالي، اللهم إلا بعضًا من كتب الفقه القديمة الصفراء التي ربما توجد عند بعض الأثرياء قد ورثها من أجداده الصالحين المجاورين فهو يعرضها لبعض الزائرين كما تعرض التحف القديمة أو الآثار المنقرضة، كما كان يعرض البخاري المكتوب باليد والموضوع في بعض البيوت الميسورة للبركة والحلف عليه عند اللزوم، وكانت توجد بعض المصاحف في بعض البيوت مكتوبة بخط اليد أو مطبوعة طباعة حجرية وموضوعة في لفافات أو صناديق للبركة وخوف الامتهان ولا يعرف الناس شيئا عن القرآن إلا من القارئ الراتب الذي يقرأ في البيوت أو من القراءة فى المآتم، أو يوم الجمعة في بعض المساجد، ورأيت بعضا من أهل العلم كأنهم تراث من الماضي البعض يتبرك به والبعض يلفظ والدولة تتناساه وتبعده، فرايت مثلًا رجالًا عظامًا من رجالات الإسلام، مثل محمد فريد وجدي صاحب دائرة المعارف الإسلامية ورئيس تحرير مجلة الأزهر، والأستاذ محمد الخضر حسين الإمام الورع والعالم الشيخ محمد عبد الله دراز والشيخ عبد الوهاب خلاف وغيرهم من أفذاذ العلماء لا يعرفهم أحد ويطوى ذكرهم.
وتقام الليالي لتكريم سيد درويش وزكريا أحمد وأضرابهم ممن برزوا في ميادين اللهو والغناء والموسيقى؛ لأن المجتمع يعيش الضياع في عصر الخصيان والمستنوقة والعملاء، فكانت الأمة في أمس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة التي هي سر حياة الأمم، ومصدر نهضتها، فتاريخ الأمم إنما هو تاريخ رجالها النابغين المبدعين أقوياء العزائم والإرادات كما كانت الشعوب في حاجة إلى دحض الأباطيل وكشف السحرة وقد كان.
ليس في الحق يا أخية ريب
إنما الريب ما يقول الكذوب
وقد شاء لنا الله أن نخوض عهد الانتقال الأهوج، حيث تلعب الأهواء الشخصية بالأفراد والأمم والحكومات، وكم لاقى العاملون في سبيل أمتهم ومنهجهم ما لاقوا من عنت بغير جريرة أو جرم.
وما لي من ذنب إليهم علمته
سوى أنني قد قلت یا بلدي أسلمي
ألا ياسلمي ثم أسلمي ثمت أسلمي
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
ولكن كيف أعيش الحاضر وأصبو إلى المستقبل ونحقق الأمال ونحن نحمل الراية المقدسة فذاك له حديث آخر، والله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.

الرابط المختصر :