العنوان المطاريد والخطاب النقدي.. هل هو متجرد؟
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 17-يناير-1995
مشاهدات 13
نشر في العدد 1134
نشر في الصفحة 37
الثلاثاء 17-يناير-1995
الحقائق دائمًا غلابة، لا يستطيع أحد أن يكبتها، ولا تملك أية قوة أن تحجبها زمنًا طويلًا عن الأنظار، ولكن الطامة الكبرى من كبتها، أنها قد تظهر بعد فترات عجاف تتحطم فيها الأمم، وتضيع فيها الشعوب، ويندم الناس ولات ساعة مندم، ويبكي الناس عليها في وقت لا ينفع فيه البكاء.
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها
لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع؟
وأمتنا اليوم تظهر فيها إرهاصات الثورة على التدني- وإن كان فيها دخن- وتبرز فيها فورات على الانهزام- وإن كان فيها تهور- وتنشط فيها براكين التمرد على الاستباحة النفسية والاجتماعية والثقافية، وهذه الانتفاضات وإن صاحبها انفعال وهياج وجراح، لكنها في منظور المحللين تمثل نبضًا طبيعيًا وتشخيصًا حقيقيًا لأمة عظيمة انهد كيانها، واستفحل داؤها، وسواء كانت هذه الانتفاضة إسلامية فتوصف بالتطرف أو وطنية فتوصف بالإرهاب، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئًا، وما وجدنا تلك النعوت والمسميات تثبت كثيرًا، وتكون ضربة لازب لجماعة إصلاحية، ولابد أن تدور عجلة التاريخ على الظالم لنفسه ولأمته إذا تمرد على النصح والإصلاح.
ولقد بذلت لك المودة ناصحًا فغدوت تسلك في الطريق الأعوجِ
ولكم رجوتك للجميل وفعله يومًا فناداني النهى لا ترتجِ
ولهذا فأنا أنظر إلى الذين يحاولون منع الثورات بغير إصلاح فأجدهم كالذين يريدون أن يمنعوا القدر بالتمني، أو يسكتوا الزلازل بالصياح، أو يكتموا البراكين بأوراق البنكنوت ودائمًا تكون وصاياهم ونصائحهم الجنوح إلى المداهنة لا قول الحقيقة، والمسالمة لا المصارحة، فنسمع قولهم:
دع السلطان فالسلطان ليث ولا تتعرضن له فتضرس
وكن في مجلس السلطان أعمى وكن في مجلس السلطان أخرس
وهل العمى والخرس نافع للسلطان أو نافع للأمم أو دافع للمحن والثورات والفتن؟ ونحن مأمورون أن نناصح ولي الأمر لأنه منا ونحن منه، روى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله».
١- بطانة الخير دائمًا موجودة لمن طلبها من الأئمة العدول الذين يريدون للأمة صلاحًا، ولأنفسهم سيادة ورفعة، وقد طلب "عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل النصح من "الحسن البصري"- رضي الله عنه- ليرسم له طريق العدالة ومعالم الصراط المستقيم، فكان مما قال: «اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وهداية كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويزودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع ويكنفها من أذى الحر والبرد.. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم ويعلمهم كبارًا يكتسب لهم في حياتهم، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهًا ووضعته كرهًا، وربته طفلًا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه وترضعه تارة، وتفطمه أخرى بعاقبته، وتغتم بشكاته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويعطي كبيرهم، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العادل يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله، إلى آخر تلك الوصية التي تبين وظيفة الحاكم المؤمن.
۲- أما بطانة السوء فنجدها وللأسف كثيرة، ونجد لها وصايا كذلك كثيرة، فكأنها تقول: اعلم يا أمير المؤمنين أن الناس كالأغنام وكالأنعام يضرب فحلها (أي مصلحها)، ليخاف من وراءه كالثور يضرب لما عافت البقر، اعلم يا أمير المؤمنين أن كثرة الثقافة قد علمت الناس الثرثرة، فلا مفر من قطع الألسن وتكميم الأفواه، لتنقطع الفتنة وتخمد قالة السوء، اعلم يا أمير المؤمنين أن الحاكم القوي مرهوب الجانب، ولا رهبة إلا بجند وعيون و زبانية غلاظ شداد، لا يرعون لأحد إلًّا ولا ذمة، اعلم يا أمير المؤمنين أن الله ولاك على الرعية لتؤدب شاردهم وتكسر شوكة فاقههم، حتى لا يطمع طامع في ملكك أو متجرئ في عفوك.. اعلم يا أمير المؤمنين أن الزمان قد فسد، وأن الذمم قد خربت ولا بد من محاسبة الناس بالظنة، فالظن يجنب الهلكة، ولا بد من كشف المخبوء من التدين الفاسد والنفاق المتستر بالتشدد الأعمى الذي يتمسح بالإسلام ليعكر صفو الحياة وبهجتها ويحاول الوصول إلى الحكم.
وليس لهم عندك من خلاص إلا الكلام من فم الرصاص
لا رفق لا سماحة لا هوادة فحقهم منا الإبادة
واحذر من التمييز والتصنيف ما بين داع الرفق والعنيف
فكل هؤلاء في الهوى سوى من لم يمارس عنفه فقد نوى
هم يربحون جولة فجولة وبعد ذاك يبلعون الدولة
فكان الفرق كبيرًا بين البطانتين، والبون شاسعًا بين العهدين، فاستقر الناس في الأول، وفر الناس في الثاني، وكانوا من المطاريد، وتخندق دعاة الإصلاح من هؤلاء في مستنقع العنف فكيف يتوجه الخطاب النقدي للمطاريد وحدهم؟ وهل سيكون هذا مجديًا ونافعًا؟ لا أظن ذلك!!.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل