; الهجرة النبوية.. وفن إدارة الأزمات | مجلة المجتمع

العنوان الهجرة النبوية.. وفن إدارة الأزمات

الكاتب عبده دسوقي

تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020

مشاهدات 29

نشر في العدد 2147

نشر في الصفحة 49

الثلاثاء 01-سبتمبر-2020

 الهجرة النبوية.. وفن إدارة الأزمات

تركت الهجرة النبوية المباركة آثاراً جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر النبوة، ولكنها امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومِصْر، كما أن آثارها شملت الإنسانية عامةً؛ لأن الحضارة الإسلامية قدمت -وما زالت تقدم- للبشرية أسمى القواعد الأخلاقية والتشريعية التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع.

كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة حدثاً تاريخياً عظيماً، وفيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، كما كانت محوراً عظيماً في تغير مجرى التاريخ، ودروس في التخطيط وفن إدارة الأزمات.

فجاء الوصف الرباني لهذا الحدث عظيماً، حيث قال الله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

عظمة التخطيط بين الدار والغار:

حينما اشتد الأذى على المسلمين في مكة، وكانت هناك فرصة مواتية لانتشارها خارجها، جاء الإذن الرباني لرسوله والمستضعفين بالهجرة، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم جاهزية التخطيط للخروج بالمسلمين دون خسائر، وقد تحققت الخطوة الأولى بهجرة المسلمين، وجرى الاستعداد للخطوة الثانية؛ وهي خروج النبي الكريم، التي جاءت في ليلة السابع والعشرين من صفر السنة الرابعة عشرة من النبوة، وأتى إلى دار أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليستكمل أدوات التخطيط المحكم الأولى للخروج من مكة، حيث جهز صاحبه أبو بكر راحلتين، وأوصى ابنته أسماء بمهام توفير المؤن، واستعان بأهل الخبرة من قريش المؤتمنين لإرشادهم على الطريق الصواب كعبد الله بن أريقط، والعمل على إزالة آثار أقدامهم حتى لا يتعرف عليها أحد من قريش، ثم جاء التكليف لعلي بن أبي طالب بالتخلف عن السفر قليلاً لرد الأمانات لأصحابها، والنوم مكان الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، سلك طريقاً عكسياً؛ وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل ثور، ومكث فيه أياماً، لتبدأ المرحلة الثانية من التخطيط الدقيق بعدما قام كل من عبدالله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر، بدورهم.

ما بالك باثنين الله ثالثهما؟

بعد أن اقتحمت قريش بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واكتشفوا فشل مخططهم زاد غضبهم؛ فاستنفروا الناس لتقصي مكان محمد صلى الله عليه وسلم، وانطلقوا إلى كل حدب وصوب في محاولات يائسة للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان التخطيط بعدم السير المباشر واللجوء لمكان اختباء حتى ييأس الكفار وتقل حركتهم، وبالفعل كان نشاط الكفار في اليوم الأول كبيراً، لكن مع مرور الأيام ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم قد عمى عليهم وهرب، لكن عيونهم كانت متيقظة لما رصدوه من مكافأة.

مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، فخرجا ومعهما عبدالله بن أريقط (الدليل)، وعامر بن فهيرة يخدمهما.

فتحت المكافأة شهية بعض المشركين؛ فسلكوا كل السبل للنيل من محمد صلى الله عليه وسلم، حتى فاز بها سراقة بن مالك، ووصل لمكان النبي صلى الله عليه وسلم، فكان التدخل الإلهي في هذه اللحظات بأن غاصت قدما فرسه أكثر من مرة، حتى يئس من النيل منهما؛ فوعده النبي صلى الله عليه وسلم بسواري كسرى حينما تفتح فارس، فعاد ليعمي الأبصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخزل عنه، في شوق للمكافأة النبوية التي نالها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصدق النبي الكريم حينما قال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (صحيح البخاري).

التوكل واليقين مع الأخذ بالأسباب:

إن المتأمل لحادثة الهجرة والتخطيط لها يدرك حسن توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، ويقينه أن الله حافظه وناصر دينه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع الأخذ بالأسباب، فقد شاء الله تعالى أن تكون الهجرة النبوية بأسباب عادية من التخفي والصحبة والزاد والناقة والدليل، ولكن لا يعني دقة الأخذ بالأسباب حصول النتيجة دائماً؛ لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل واليقين والاستعانة بالله، لتقتدي به أمته في التوكل على الله، والأخذ بالأسباب وإعداد العدة.

يقول د. علي الصلابي: إنَّ مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التَّخطيط جزءٌ من السُّنَّة النَّبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأنَّ الذين يميلون إلى العفوية؛ بحجة أنَّ التخطيط، وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة؛ أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.

لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين، ولذا؛ فإن دروس الهجرة الشريفة مستمرة لا تنتهي ولا ينقطع أثرها، وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

ناس.. وقضايا.. وتعليقات

نشر في العدد 1

750

الثلاثاء 17-مارس-1970

الهجرة النبوية.. من دلالات المشهد

نشر في العدد 2147

26

الثلاثاء 01-سبتمبر-2020