العنوان الهجرة..ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم
الكاتب د. إيمان مغازي الشرقاوي
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2016
مشاهدات 13
نشر في العدد 2100
نشر في الصفحة 36
السبت 01-أكتوبر-2016
الهجرة..ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم
في رأس كل عام هجري نتنسَّم عبير الهجرة النبوية، ونستقي من معين دروسها الفياض ما يكون دافعاً لنا لكل خير، وزاداً لقلوبنا إذا ما أوشكت أن يصيبها اليأس والوهن، أو القنوط والإحباط.
قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40}) (التوبة)، إنها آية عظيمة، بها من دلالات النصر والتمكين للنبي [ ولكل من سار على طريقه ونهجه، فنبينا محمد [ كان وما زال هو سيد المهاجرين إلى الله تعالى، فقد هاجر بقلبه بعيداً عن أدناس الشرك ورجس الوثنية، في زمن كانت فيه هي السائدة والمعبودة من دون الله، كما هاجر بجسده الطاهر من مكة إلى المدينة مخلفاً وراء ظهره كل ما يحول بينه وبين الدعوة إلى عبادة ربه عز وجل.
وقد صبر وتحمل في سبيل الثبات على الحق وهداية الناس إليه ما لم تتحمله الجبال الرواسي، فضرب لنا خير مثَل، وقدَّم لنا أحسن قدوة من خلال هذه الهجرة المباركة.
النصر والتأييد الرباني
لقد نصر الله تعالى نبيه [ في هجرته نصراً مؤزراً، وإن بدت رأي العين خروجاً أو إخراجاً، وفي هذا بشارة لكل مستضعف ومهاجر.
- فقد نصر الله نبيه [ أولاً بالدين الحق الذي اختاره له وارتضاه لعباده، وأرسله رسولاً داعياً إليه، وجعله مهاجراً من أجل تحقيقه ونشره، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران:19)، ونصره بالتثبيت والثبات عليه، فقد قال النبي [: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» (صحيح مسلم)، «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون» (رواه البخاري).
- ونصره بالصبر على الأذى في سبيله، وكان الأذى من المشركين للنبي [ ذا شقين؛ الأذى النفسي بالتكذيب بدعوته، والكفر بنبوته واتهامه بالجنون والسحر والتقول على الله، أما الأذى الجسدي فمنه ما كان من عمه أبي لهب حين يضربه بالحجر حتى يُدمى عقباه، وكذا امرأته أم جميل كانت تحمل الشوك وتضعه في طريقه [ وعلى بابه ليلاً، وكان البعض يطرح عليه الأذى وهو يصلي، ثم محاولة قتله التي أدت إلى الهجرة من مكة.
- ونصره بالصحبة الصالحة المتمثلة في الصدّيق رضي الله عنه، كما ذكر القرطبي في تفسيره: «فقد نصر الله نبيه بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه, وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله»، وقد قال [: «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله» (سنن الترمذي).
- ونصره بالأخذ بالأسباب وتهيئتها له وحسن توكله على الله معها وثقته في نصره ومعيته، ومن هذه الأسباب: السرّية، واختيار أبي بكر رفيقاً وصاحباً، وتجهيز الراحلتين والزاد والمؤونة، واستئجار الدليل، والخروج من باب خلفي قبل طلوع الفجر، وسلوك الطريق المضاد للطريق الذي يسلكه المشركون عادة، والاختباء في غار ثور، وتحديد دور كل من عبدالله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر في هذه الهجرة.
- ونصره بحفظه من المشركين قبل وأثناء الهجرة، فخرج وقد وضع على رؤوسهم التراب دون أن يروه، وأعماهم الله عن رؤيته في الغار، وفي الصحيح عن أنس بن مالك، أن أبا بكر الصديق حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (صحيح مسلم).
الأنصار والنصرة
وقد نال الأنصار رضي الله عنهم شرف السبق في هذه النصرة والصحبة لرسول الله [، حيث اختار الله أرضهم مَهجراً لنبيه [، وجعلها موطناً صالحاً لدعوته ومأوى له ولأصحابه، كما قال تعالى مادحاً إياهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}) (الحشر)، فكانت الهجرة إليهم نصراً له من الله تعالى، فعن جابر بن عبدالله الأنصاري أنهم قالوا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، فلكم الجنة» (صحيح ابن حبان).
إنها بنود النصرة في كل زمن، وعلى رأسها السمع والطاعة للنبي [، وقد جعل الله ذلك مقترناً بطاعته، قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132}) (آل عمران).. والثمن الجنة!
وفاء النبي وحُبه للأنصار
وقد أحب النبي [ أهل المدينة الأنصار الذين ضربوا أعظم مثال في الحب والبذل والعطاء والإيثار، ودعانا إلى حبهم وقال: «والذي نفسي بيده، لا يحب الأنصار رجل حتى يلقى الله؛ إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجل حتى يلقى الله، إلا لقي الله وهو يبغضه» (صحيح الجامع، وحسّنه الألباني)، وقال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» (صحيح مسلم)، وقال: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (صحيح البخاري)، وقال لهم: «أنا محمد عبد الله ورسوله هاجرتُ إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم» (صحيح مسلم).
النصرة في أرقام
لقد بدأ النبي [ دعوته فرداً، فما وهن وما ضعف، بل ظل يبذر بذورها ويرويها ويرعاها طيلة ثلاث وعشرين سنة هي عمر رسالته الخالدة، وتذكر كتب السيرة كيف هاجر المسلمون فرادى وجماعات فراراً بدينهم إلى الله وهم خائفون مستضعَفون، وكانوا قلة في عددهم وعدتهم، كما تذكر تزايد أعدادهم عاماً بعد عام حتى رأى النبي [ نتيجة غراسه وثمرة دعوته التي هاجر في سبيل الله من أجل قطفها، فقرت عينه بها في حجة الوداع وجاءه نصر الله والفتح.
ففي السنة السادسة للهجرة كان صلح الحديبية، وكان عدد المسلمين فيه مع النبي [ ألفاً وأربعمائة.
وفي السنة السابعة للهجرة كانت عمرة القضاء، وكان عدد المسلمين فيها ألفين.
وفي شهر رمضان في السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة وكان عدد المسلمين عشرة آلاف.
ثم كانت حنين في شوال في نفس السنة (الثامنة للهجرة) حيث زاد عدد المسلمين إلى اثني عشر ألفاً.
أما في تبوك والتي كانت في رجب في السنة التاسعة للهجرة فصار عدد المسلمين ثلاثين ألفاً، وزاد عن ذلك في عام الوفود في نفس السنة.
ثم كانت حجة الوداع في شهر ذي القعدة في السنة العاشرة للهجرة، وخطب النبي [ خطبته في مائة ألف من المسلمين.
وهكذا حتى صار عدد المسلمين أكثر من ربع العالم. (وقد جزم الحافظ أبو زرعة الرازي، شيخ الإمام مسلم، أن عدد الصحابة بلغ مائة وأربعة عشر ألفاً).
إلا تنصروه فقد نصره الله
إنه تحذير لنا من التفريط في حق النبي [ علينا، وإن حقه لعظيم، ومنه: الإيمان به، والذود عنه بالتعريف به وكشف سيرته، واتباع سنته، ونبذ البدع والمنكرات، والتخلق بأخلاقه، والدعوة لدينه، وحب آل بيته، وحب أصحابه، فمن فعل ذلك فقد قدم الدليل العملي الصادق على حبه ونصره، قال القاضي عياض رحمه الله: اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه وكان مدّعياً؛ فالصادق في حب النبي [ من تظهر علامة ذلك عليه؛ وأولها: الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه؛ وشاهد ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) (آل عمران:31)، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته.
وقد حذرنا النبي [ من موانع النصرة فقال: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم» (صحيح البخاري)، وقال: «إن مما أخاف عليكم بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها.. وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة» (صحيح مسلم).
الابتلاء والصبر والأمل
إن الابتلاء والتمحيص أمران واقعان وحاصلان للمؤمن، وهما طريق النصر وسبيل القوة والتمكين، وقد قال الله تعالى: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}) (العنكبوت) لكن بالصبر والثبات، والأنس بالله تعالى القوي والشعور بمعيته، فما كان في ضيق إلا وسّعه، ألم يقل النبي [ لصاحبه: «لا تحزن إن الله معنا»؟ إنه التسليم لله عز وجل العلي الكبير، الذي يأتي بالسكينة والتأييد والنصر، وكانت النتيجة: (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى).
إن حدث الهجرة يعيد الأمل في نصر الله لتلك النفوس البائسة المقهورة التي أخرجت من ديارها تحت وطأة الحروب والاحتلال والقهر والظلم، فسلبت من أدنى حقوق العيش كإنسان، فاتخذت من الخيام المهترئة لها بيتاً لا يقيها حراً ولا يردّ عنها برداً، قد لفها الضياع وقض مضاجعها الجوع وأرَّقها الخوف، فلعلها تجد في هجرتها هذه من يؤويها!
ولا يزال اليقين بأن الله تعالى سينصر الحق وإن نفش الباطل ريشه حيناً وغطى عليه، فسيقع هذا الريش حتماً إن لم يُنتف، وتدور عليه الدوائر ويخمد صوته وتنطفئ ناره، ليُستضاء بنور الحق الأبلج
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل