العنوان الوجه الآخَر لمجتمعنا الحديث..
الكاتب هشام الحسيان
تاريخ النشر الثلاثاء 20-أبريل-1971
مشاهدات 22
نشر في العدد 56
نشر في الصفحة 6
الثلاثاء 20-أبريل-1971
الإنسانية تبحث عن نفسها في عالم المظاهر البراقة
- دخلت المادة مجتمعنا من أوسع أبوابه واحتلت في النفوس مكانا كبيرا، وصار الناس لا يتحدثون إلا بها حتى إن الكثيرين أصبح يقليس المرء بمدى ما يملكه من مادة وما لديه من تجارة وعقار، وعلى ضوء ذلك يضع له وزنا في نفسه حتى ولو كان ذلك المرء لا قِيَم له وبعيدا كل البعد عن الطريق السوي
عندما يجلس الإنسان إلى نفسه ليستعيد شريط الذكريات ذكريات الحياة بحلوها ومرها يحس بخناجر حادة تُسدد إلى صدره ويشعر ساعتها بحسرة في القلب وألم في النفس وغصة في اللسان لما كان عليه الماضي الجميل وما آل إليه الحاضر القريب بشتى أبعاده، وكلما أراد أن يتغلغل أكثر في أغوار نفسيات اليوم ليقارنها بنفسيات الأمس الواضحة المكشوفة لكل صغير وكبير وكأنها صفحات بيضاء ناصعة كلما استعاد الإنسان تلك الذكريات في خلوته ووقف عندها لحظة شعر وكأنه يحيا حياة خيالية لا تمت إلى الواقع بصلة؛ لأنه شتان بين هذا وذاك.
لقد كنا في ذلك الوقت إذا أصابتنا محنة من المحن حتى ولو كانت تلك المحنة بسيطة إلى أبعد الحدود، ولكن مع هذا كله ترانا نهب صغيرنا وكبيرنا نساءنا ورجالنا للقضاء على هذه المحنة، أو التخفيف عنها كنا نقف يدًا واحدة تعمل بقوة وحزم وإيمان صادق لا زيف فيه ولا رياء. كان مجتمعنا في الماضي على بساطته في أسلوب حياته وتطلعاته إلا أنه كان كله قيم ومعان سامية لا مكر ولا خداع فيه كجسد الإنسان إذا اشتكى منه عضو تداعت لـه جميع الأعضاء في ذلك المجتمع شيء من القيم الروحية، والنفسيات الصافية التي لا غبار عليها كلها كانت تعمل لخير المجتمع بأفراده مطبقاته على اختلاف مشاربهم دون انتظار جزاء أو شكر، أو اعتبار ذلك العمل منة على ذلك الفرد لأننا في ذلك الوقت لم نعرف للمادة طريقًا ولم نرَ للمظاهر مسلكًا.
تطور إلى الخلف
بين عشية وضحاها أصبحنا أناسًا آخرين فقد دخلت المادة مجتمعنا من أوسع أبوابه واحتلت في النفوس مكانًا كبيرًا وصار الناس لا يتحدثون إلا بها، حتى إن الكثيرين منهم أصبح يقيس المرء بمدى ما يملكه من مادة وما لديه من تجارة وعقار، وعلى ضوء ذلك يضع له وزنًا في نفسه حتى لو كان ذلك المرء لا قيم له وبعيدًا كل البعد عن الطريق السوي، ومع هذا فهو يجله ويقدره ويحمل له المكانة الكبيرة والمنزلة العليا في نفسه، حتى إن الماديات أصبحت تسيطر سيطرة تامة على العقول البشرية وتتحكم في تصرفاتها واتجاهاتها وتبعدها بعدًا كاملًا عن كل ما هو ذاتي أو له صلة بالروح الإنسانية التي هي أساس تكوين الإنسان وأساس تسميته «بإنسان» فمتى ما انعدمت الإنسانية من قلب المرء أصبح كأنه جثة هامدة لا حياة فيها.. والجانب الإنساني في الحياة له وزنه وله قيمته في تحريك الذات البشرية إلى طريق الخير بشتى أبعاده، وإذا أمعنا النظر فيما أصبحنا عليه الآن لوجدنا أننا قد أتلفنا حياتنا بأنفسنا ونحن الذين وصلنا بها إلى هذا الطريق الوعر الذي لا نهاية له والهلاك هو الشيء المحقق لنهاية مسيرتنا في هذا الطريق.
عبادة المظاهر
وهناك فئة كبيرة من الناس في مجتمعنا الحديث تحسب ألف حساب لما يُسمى بالمظاهر، إنها تعطي من وقتها الجزء الكبير لها وتستعد لها أيما استعداد، وإن لم نجدها في بعض الأحايين فإنها تفتعلها أو تختلق سببًا لافتعالها حتى تجلب إليها الأنظار من كل صوب وحدب وتسلط عليها الأضواء، ويتحدث عنها الناس في كل زاوية من زوايا مجتمعنا الذي أصبح غريبًا حقًّا بشتى أشكاله. لقد أصبحت المادة عند الكثير من الناس طريقًا إلى العبث بعواطف الناس وأحاسيسهم ومشاعرهم بل ومحاولة إذلالهم وإهانتهم وكأن هؤلاء أصحاب المادة فئة فضلها الله -سبحانه وتعالى- على غيرهم من البشر.. هكذا هم ينظرون إلى أنفسهم عندما يتعالون على غيرهم من الناس.. كل الآخرين في نظرهم أقزام بجانبهم وهم إن تحدثوا فليسكت الآخرون حتى لا يسببوا لهم الضيق والإزعاج، وعندما يشعرون في يوم من الأيام بنوع من الضيق النفسي فإنهم يلجؤون إلى افتعال أي نوع من أنواع الاحتفالات ويدعون لها من يدعون وتهيئة الظروف المناسبة لها حتى يُبددوا عن طريقها حزنهم وكآبتهم ويصرفوا الآلاف من الدنانير بلا مبرر وبطريق لا طائل من ورائه سوى إرضاء النفس المريضة التي تتصور أنها لا تُشفى إلا بمثل هذا النوع من الأساليب والابتسامات العريضة تملأ الوجوه فرحة وغبطة لما قاله الناس عن هذا التصرف وما تناقلته الصحف عما قدمه هذا الإنسان من أشياء في هذه المناسبة وصفات لا أول ولا آخر لها عن كرمه وحفاوته للمدعوين، والبعض الآخر عندما يفكر في الاستقرار على حد قوله وهو لم يستقر بعد لأنه لم يقترن بالإنسانة التي تشاركه الحياة وتسير معه في طريقها الطويل فإن أول شيء يلجأ إليه هو البحث عمن تكون تلك الفتاة وأنها يجب أن تكون بمستواه بل وأكثر من ذلك، وعندما يجدها يبدأ في الإعداد لتلك الليلة التي ستُزف إليه فيها، وحتى تفغر الأفواه وتحدق الأنظار وترهف الأسماع وتسلب العقول والألباب وتُشاع الأخبار فإن أول شيء يفعله هو تقديم هدية ضخمة لا تُقدّر بثمن ليلة الخطوبة.
ثم بعد ذلك تقديم مهر قد لا يتصوره العقل -وكأنه يعتقد في قرارة نفسه أن هذه الإنسانة سلعة تُباع لمن يدفع أكثر، ويحدث الصدى الكبير لمثل هذه التصرفات وتتحسر فئة كبيرة من الناس لا تعرف لمثل هذه الأشياء طريقًا، بل إنها تسمع بها مجرد سمع ولم تملك في يوم من الأيام دينارًا واحدًا منها. وتدب الحركة الغريبة بين أهل الاثنين الشاب والفتاة هؤلاء من جانب وأولئك من جانب آخر.
الفتاة تغادر البلاد لاختيار ثياب الزفاف والعقود والأساور التي ستلبسها في تلك الليلة التاريخية في نظرهم وهو يستعد لتأثيث المنزل الحديث الذي بناه خصوصًا وصرف عليه عشرات الآلاف من الدنانير حتى ذوقها، ويستورد كل شيء من الخارج مهما كلف الثمن وتحجز قاعات الفندق الضخم ليقام الاحتفال ويدعى الناس فيحضرون بأبهى حللهم وكامل زينتهم وكل مدعوة قد كلفت نفسها الشيء الكثير، وقِس على ذلك المناسبات الأخرى من حفلات عيد الميلاد للأطفال الصغار وأعياد الزواج في عام يمر عليهم وعند سكن بيت جديد أو قدوم المولود البكر إلى ما هنالك من المناسبات المختلفة، ولكن هؤلاء البشر لو جاءهم زيد من الناس وطلب منهم مد يد العون لإنسان في ضائقة مادية أو لجهة تمر بظروف حالكة لما كلفوا أنفسهم حتى الرد بكلمة على هذا الإنسان، بل إنهم سيشيحون بوجوههم عنه حتى ينسحب بدون تردد، ومع هذا كله فإنهم يتشدقون بالإنسانية وحب الخير يصرفون الآلاف الكثيرة على أشياء تافهة وهم يدركون تمامًا أنه في الجانب الآخر من الحياة أناس يئنون من وطأة الفقر والجوع والمرض وهم أحق بهذه الأموال المهدورة بلا فائدة من غيرهم، ولكن مع هذا كله فإنهم يفضلون أن يروا على صفحات الجرائد بعض الصور والكلمات عن تلك الاحتفالات ولو كلفهم الكثير على أن يقدموا دينارًا واحدًا في طريق الخير والإنسانية. فكيف بنا والحالة هذه لا تنحسر على مجتمعنا الماضي الجميل!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل