العنوان الوقف في المغرب..سباق بين الأمراء والفقراء
الكاتب عبدالغني بلوط
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2016
مشاهدات 25
نشر في العدد 2100
نشر في الصفحة 22
السبت 01-أكتوبر-2016
الوقف في المغرب..سباق بين الأمراء والفقراء
عرف عن المغاربة عبر التاريخ ومنذ دخول الإسلام حرصهم على الوقف والتسابق إلى تحبيس شيء من ممتلكاتهم في سبيل الله، من أجل صرف ريعها ومدخولها المالي في وجوه البر والإحسان وإقامة شعائر الدين، وتحقيق المنافع العامة للمواطنين، ولم يقتصر ذلك على فئة اجتماعية دون غيرها؛ فقد كان الملوك والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء يُوقفون شيئاً من ممتلكاتهم الخاصة كثر أو قل من دور وأراضٍ وحوانيت ليصرف مدخولها في تشييد المدارس والملاجئ والمستشفيات والمساجد والتكفل باليتامى والأرامل وطلبة العلم أو كل من لا يستطيع عملاً بسبب مرض أو عجز بدني.
يعرف د. مصطفى بنعلّة، أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة المغربية، في تصريح لـ «المجتمع»، الوقف الذي يطلق عليه أيضاً مصطلح «الحبس»، بكونه وقف العين عن الملك والتمليك وتسبيل المنفعة في سبيل الله، وينقسم إلى قسمين؛ هما الوقف الخيري، والوقف المعقب.. أما الوقف الخيري هو الذي يستهدف منذ انطلاقه إلى فعل الخير مثل الوقف على المساجد والمستشفيات والملاجئ الخيرية وغيرها، وينقسم بدوره إلى قسمين؛ الوقف الخيري العام، والوقف الخيري المعين، العام مثلاً هو الذي تنفق مداخيله في إصلاح المساجد وترميمها، أما المعين فهو الذي يتجه مباشرة إلى الإنفاق على الخطيب والمؤذن.
أما الوقف المعقب - أو كما يسميه المشارقة الوقف الذُّري - فهو الوقف أو التحبيس على الأبناء وأعقابهم وأعقاب أعقابهم ما تناسلوا يستفيدون من المداخيل دون امتلاك العين.
ويلجأ المغاربة إلى الوقف المعين لحماية الفئات الضعيفة في الأسرة والعائلة، والتي يمكن أن تكون محل شطط وتعسف من قبل ورثة آخرين، وأيضاً الحفاظ على الممتلكات من التقسيم خاصة المنازل الكبرى في المدن العتيقة والأراضي الفلاحية الخصبة.
أما د. عبدالعزيز فارح، الأستاذ الجامعي والباحث المتخصص في الوقف الإسلامي، فيرى، في تصريح لـ «المجتمع»، أن من الثابت أن الوقف من أكبر وأفيد الصدقات الجارية، ومن أهم صيغ الإحسان المستدام، وقد استجاب المغاربة كغيرهم من المسلمين في كل بلاد الإسلام للدعوة النبوية لتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، فحبسوا أشياء كثيرة في المجالات الكثيرة كان لها الأثر الكبير في خدمة العلم ونشر المعرفة وتلبية حاجات المجتمع الأخرى الاجتماعية والصحية.
وأضاف أن الوقف في المغرب تميز بمميزات كثيرة، منها:
1- كثرة الأحباس في المدن العتيقة حتى كانت تمثل نسبة الثلث من مجموع الوعاء العقاري دلالة على الإيمان والوعي الديني والحس الاجتماعي لدى أهل المغرب.
2- كوّن الوقف في المغرب رصيداً مالياً كبيراً كان يزيد أحياناً على أموال الدولة، حتى كانت تقترض منه سداً لعجز أو مواجهة لطارئ قاهر، كما وقع في القرنين التاسع والعاشر حسب ما حكاه المؤرخ الحسن الوزان في «وصف أفريقيا»،
3- الأحباس محاطة بجملة من الأحكام الشرعية التي تنظمها وتصونها وترعاها لتحقق أهدافها، وقد كانت على مر الأزمان محترمة في المغرب يصونها الملوك والعلماء وعامة الناس، بل إن ملوك المغرب كانوا في طليعة المحبسين والمشجعين على ذلك.
4- تنوعت الأحباس بالمغرب حيث شملت المساجد والدور والمدارس العلمية والمكتبات ومساكن طلبة العلم والدكاكين والبساتين والأراضي العارية والآبار والسقايات والمستشفيات.
5- تحبس صناديق مالية للقرض الحسن، أو تحرير الأسرى، أو مساعدة العاجزين والمرضى.
6- أحباس خاصة بالنساء اللواتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وهفوة، كما كان الشأن بالنسب لدار الثقافة بمراكش.
7- تحبيس صناديق خاصة بالمطلقات.
8- أحباس لتزويج الفقيرات.
9- أحباس للعجزة الذين انقطعت بهم السبل.
10- أحباس الغرباء وهي عبارة عن فنادق تؤويهم حتى يقضوا أغراضهم.
11- تحبيس أراض خاصة بالطيور والحيوانات الضالة أو المريضة، وعلاجها في مستشفى خاص بها كما كان الشأن في مدينة فاس.
وأكد د. فارح أن الأوقاف بالمغرب نهضت بحاجيات المجتمع العلمية والاجتماعية والصحية، وكانت بما وفرته من أرصدة مالية وأوعية عقارية ومدارس ودور وفنادق وغير ذلك السبب الرئيس في تحقيق النتائج الكبيرة، وضامن استمرارها، ودالاً على حركية المجتمع ومشاركة أفراده في خدمة بعضهم بعضاً؛ تحقيقاً للتنمية المحلية الشاملة؛ إذ لم يستثن الوقف بالمغرب فئة من المجتمع خاصة الفئة المحتاجة أو التي في وضعية صعبة، وصارت كاللباس والدثار الذي يلتمس الجميع الدفء والستر في داخله، كما كانت مقياساً للرقي والحضارة البانية.
نتائج مثمرة
وساعدت الأوقاف، حسب فارح، على:
1- إخراج فئات من المجتمع في وضعية الفاقة والحاجة والبطالة إلى وضعية الإنتاج والاكتفاء المادي بفضل الصندوق المحبسة فيه أموال تُقرض لمن هم في حاجة إليها، وهذا أمر يمكن إحياؤه وتطويره بما يواكب العصر ومستجداته الاقتصادية ويناسب أحوال الناس.
2- يغطي الوقف جميع نفقات وأجور المتدخلين في الشأن الديني عبر قرون؛ مما خفف عن ميزانية الدولة الشيء الكثير، ويمكن الآن تطوير الأوقاف وتنميتها واستثمارها لتدر الأموال الطائلة ولتؤدي الأدوار الكبيرة والمؤثرة.
3- النهوض بالمجال العلمي تحفيزاً ومساعدة للمؤسسات العلمية والقائمين عليها، ويمكن الآن تطوير هذا ليتحقق ما حققته التجارب القديمة وزيادة؛ لأن التعليم هو قاطرة التنمية، ولا شيء غيره يلحق البلاد بالركب الحضاري العالمي، ذلك أن الموجود من المؤسسات والنظم يؤدي دوره، ولكن في حاجة ماسة للتطوير والتجويد والمراجعة الجادة والعميقة والمخلصة
4- النهوض بالمجال الصحي، بناء للمؤسسات الصحية، وعلاجاً للمرضى، وتكويناً للأطباء حتى غدت الصحة والتطبيب متاحاً للجميع، ومجال الصحة في حاجة ماسة إلى من ينهض به ويمده بالقوة المادية والبشرية.
رائدات في مجال الوقف
يحفل التاريخ المغربي بمشاهد إحسانية مشرفة ومشرقة من الأوقاف النسائية التي عمت الأرجاء، وهمت كل الفئات والطبقات، وبرهنت على فاعلية المرأة المغربية واهتمامها بأحداث مجتمعها وتنفيس ضائقاته الاقتصادية وأزماته الاجتماعية، وكانت سباقة لفعل الخير، لما يجلبه لها من سعادة نفسية وأجر أخروي وتكريم مجتمعي.
وفي هذا السياق، قالت الباحثة المغربية في مجال الوقف النسائي زينب عبدالوافي، في تصريح لـ «المجتمع»: إن إحدى عظيمات النساء بالمغرب خلدت اسمها في التاريخ والحضارة المغربية في جامع وجامعة، تعد أولى الجامعات العلمية في التاريخ الإنساني، هذه السيدة هي المحسنة فاطمة الفهرية، مؤسسة وبانية جامع القرويين سنة 245هـ، وتاريخ هذه المؤسسة الدينية والعلمية والإحسانية تشهد بها المؤلفات المغربية والموسوعات العالمية، ولقد أوقفت عليها أوقافاً مهمة لدعم عطائها واستمرارية أدائها لمهامها.
وأكدت عبدالوافي أن نساء المغرب نهجن نهج الفهرية الإحساني، فأسهمت ثلة من فضليات المغرب في بناء عدد من المساجد بشتى مدن المغرب من أقصى الشرق الغربي بمدينة وجدة (مسجد جوهرة، ومسجد حدادة، وفاطمة أم البنين)، وتازة (مسجد إتيزا)، ومدينة مراكش (مسجد دكالة)، والرباط (مسجد أم القاضي)، وغيرها من المدن المغربية، ومن لم تتوافر منهن على موارد مالية لمباشرة تأسيس المساجد، عمدت إلى تحبيس جزء مهم من ثروتها على هذه المؤسسة الدينية المهمة، وتضم الحوالات الحبسية والوثائق الخاصة بالأسر وكتب الفقه والنوازل على نماذج عديدة من إسهامات المرأة المغربية في الوقف على المؤسسة المسجدية.
وقالت عبدالوافي: قامت مجموعة من النساء الباحثات بجمع كم كبير من الحوالات الحبسية التي تحوي أسماء نساء محسنات من مدن المغرب، مثل ما قامت به د. فوزية المصري في أطروحتها حول أوقاف نساء فاس، التي تضمنت أحباس النساء على بعض مساجدها وغيرها من المؤسسات الدينية والتعليمية والإحسانية، وما نقوم به نحن - بتوفيق من الله تعالى - من جمع للأوقاف النسائية على المساجد المغربية بمختلفة الجهات، ووقفنا على الثروة والفعالية النسائية في مجال الأوقاف الخيرية على المسجد، وهالنا ما كانت عليه نساء المغرب من مسارعة للخير وتنافس عليه، وعطاء سخي بما أنعم الله عليها من أموال اكتسبتها بالميراث أو بتجارة أو عن طريق وقف ذري وغيره.
وطرقت المرأة المغربية باباً إحسانياً آخر في مجال الوقف الخيري، حسب عبدالوافي، ألا وهو الوقف على المؤسسات العلمية؛ فحبست على مجموعة من المدارس العلمية في الحواضر الكبرى، وفي بعض القرى التي أسست بها بعض المدارس، فتنوعت أوقافها في المجال العلمي، فحبست على الطلبة تعليماً وإيواءً وإطعاماً، وحبست على الخزائن الثقافية كتباً ومصاحف ومخطوطات مهمة ونادرة، كما حبست على الكتاتيب القرآنية ومديريها ومن يدرس بها تشجيعاً على تعميم التعليم على النشء وبخاصة في القرى النائية، فأكرمت المعلمين والمتعلمين، تشجيعاً على تمتين الدين بغرس آيات القرآن الكريم في مسارهم التعليمي.
كما أسهمت في المجال الصحي بتحبيس ثروتها على المستشفيات الموجودة بالحواضر الكبرى مثل فاس وسلا والرباط وتطوان ومراكش.. والشواهد التاريخية بالدلائل الدامغة كثيرة.
وفي مجال تشجيع الشباب على الإحصان، فقد حبست المرأة المغربية على دور التعريس للمقبلين على الزواج إسهاماً منها في تخفيف أعباء مصاريف الزيجات، وحبست عليها الأفرشة اللازمة والحلي على العرائس
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل