; الإسلام والسياسة | مجلة المجتمع

العنوان الإسلام والسياسة

الكاتب الدكتور عمارة نجيب

تاريخ النشر الثلاثاء 27-فبراير-1979

مشاهدات 17

نشر في العدد 434

نشر في الصفحة 32

الثلاثاء 27-فبراير-1979

* هل يحرص أعداؤنا على تقدمنا وارتقائنا وتطورنا؟!

* الإسلام يعطي الحاكم ما تعجز عنه كل النظم المعاصرة

إذا كانت السياسة هي علم الحكومة، أو من علاقات الحكم، أو قانون إدارة الدولة، أو قواعد تنظيم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وبينهم وبين الدول والمجتمعات الأخرى، أو أسلوب استخدام الطاقات الإنسانية والإمكانيات المادية لصنع حضارة ما، أو هي جميع ما ذكر، فإنه لم يعد مجهولًا لأحد من العلماء والمتخصصين بمثل هذه الأمور في أي مكان في العالم أن الإسلام كدين شامل لأمور الدنيا والدين، بحيث لا يستطيع أحد أن يفرق فيه بين ما هو دين مستقل خالص، وبين ما هو دنيا مستقلة خالصة. إن الإسلام بهذا المفهوم كان وما زال وسيظل المصدر الحقيقي للقوانين والقواعد والعلوم والفنون والأساليب السياسية التي تحقق النهوض وتساهم في التقدم.

والذي يطلع على أسباب نهضة أوروبا الحديثة والكيفية التي خرجت بها من ظلمات العفن والجهل والتخلف، لا يستطيع أن ينكر أن الإسلام أول هذه الأسباب ورأس هذه الكيفية، ولكن الأوروبيين خلطوا ما أخذوه من الإسلام بعاداتهم وثقافتهم الكافرة، ولما وجدوا معارضة دينهم المحرف وكنيستهم المتعصبة لقوانين وقواعد وفنون وأساليب السياسة الإسلامية رغم ما اختلط بها من صنع أيديهم، اضطروا إلى فصل دينهم عن السياسة وكنيستهم عن العلم والدراسة؛ إيمانًا منهم بأن تقدمهم رهن بتنفيذ ما حملوه من علوم وفنون وأساليب وقوانين المسلمين، وما دام دينهم يعارض هذا فليسجنوا هذا الدين في الكنائس حتى لا يطلع على ما هم مصرون على تنفيذه، وليدعوا أن الجديد من صنعهم، ولينكروا فضل الإسلام والمسلمين عليهم، فحقدهم على الإسلام والمسلمين لا يسمح لهم بالاعتراف بهذا الفضل، وإن حاول بعض المنصفين منهم أن يذكروهم. وتقدم الأوروبيون لأنهم أصروا على تنفيذ ما أفادوا منه نتيجة احتكاكهم بالإسلام والمسلمين خاصة بعد الحروب الصليبية وإصرارهم على ذلك، ولو اضطروا إلى فصل دينهم وكنيستهم عن سياستهم المستمدة من قواعد وقوانين وفنون وأساليب المسلمين.

وهي نفس القواعد والقوانين والفنون والأساليب التي أخرجت العرب من عصبية الجاهلية وحماقاتها وبددها إلى التقدم والوحدة وريادة العالم الإنساني يوم كانت محور سياسة الخلفاء والحكام المسلمين.

فالإسلام إذن هو مصدر السياسة الناجحة التي أفاد منها العالم المتقدم أمس واليوم، ويستحيل أن يتعارض معها أو يتنافر.

بل يستحيل أن تنهض الشعوب الإسلامية، وتتجاوز ما هي عليه من تبعية وتخلف إلا إذا عاد الإسلام بشموله تتعانق فيه العقيدة بالسياسة، والشريعة بالإدارة، والأخلاق بالعلوم وبكل جوانب الحياة.

أعداء الإسلام يدركون الأمر 

وهذا ما يفهمه ويدركه ويحس به أعداء الإسلام أنفسهم؛ إذ يشعرون بالفرق بيننا كمسلمين وبينهم ككفار بالإسلام يشعرون بالفرق بين من سيعود إلى الأصول الإسلامية الصافية، وبينهم وقد أخذوا بعض هذه الأصول وخلطوها بالكدر من عاداتهم وثقافتهم.. يشعرون بما ينتهي إليه الانسجام بين عقيدة الإسلام وسياسته وبين شريعته وإدارته، وبين أخلاقه ومعاملاته وسلوكه وعلومه.. يشعرون بالنتائج التي تترتب على الانسجام بين الإمكانيات والطاقات، وبين حوافز الإيمان والسياسة الإسلامية.

يشعرون بكل هذا فيحرصون الحرص كله ألا يكون...

من هنا حرص أعداء الإسلام حرصًا تسجله مخاوفهم المنشورة والمذاعة على كبت هذا الطموح؛ طموح العودة إلى ربط السياسة بالدين والعلوم بالشرع والإدارة بالأخلاق والسلوك بالإيمان..

وإلا فبماذا يفسر أصحاب الألسنة والأقلام المسمومة خوف أعداء الإسلام من الإسلام؟

إن التقدم الذي أحرزه أعداء الإسلام في النواحي المادية يكفيهم ضمانًا أكيدًا ضد ما يدعونه من همجية المتطرفين، ورجعية الغلاة، وعصبية الجهاد كما يقولون.

وإذا كانت العودة إلى الإسلام كنظام يدير جميع جوانب الحياة، إذا كانت هذه العودة تمثل تخلفًا ورجعية وهمجية، فهل يحرص أعداؤنا على تقدمنا وارتقائنا وتطورنا؟!

يا لها من بلاهة، بل يا لها من كلاحة تعبر عنها وجوه المأجورين من دعاة إبعاد الإسلام عن السياسة، أو إبعاد السياسة عن الإسلام.

السياسة الشرعية

وإذا كانت السياسة تطبق على جميع الشئون التي تهم المجتمع أو الدولة أو الشعب، كما تطلق على الطريقة التي يتبعها الحكام في إدارة الدولة أو المجتمع أو مصالح الشعب، وتحدد علاقة كل بالخارج، ولهذا شك البعض في قدرة الإسلام على شمول كل هذا والإحاطة به، أو يشك البعض في قدرة الإسلام على مجاراة التطور والتغيير في جميع هذه الشئون. 

فإن الرد على جميع هؤلاء في كلمات قليلة هو: أن الإسلام يصنع الرجال ويبني الأجيال، وحيث إن الرجال والأجيال لا يختلف تكوينهم الجسدي والمعنوي، المادي والعقلي، مع اختلاف الأزمان والأمكنة والبيئات، فإن نجاح الإسلام في ذلك لا ينكر ولا يجادل فيه عاقل؛ لأنه من عند الله العالم المحيط بكل ما يصلح شئون خلقه. وإذا كان الرجال والأجيال هم الذين يصنعون التقدم ووسائل التطور، فإن قدرة رجال الإسلام وأجياله ستكون مضاعفة؛ لأنهم رجال مميزون وأجيال مفضلون؛ مميزون بطاقاتهم النشطة وأفعالهم الراشدة وأخلاقهم الفاضلة، وقواهم النامية المحفوظة من هلاك المخدرات والشهوات الجنسية، والأهواء المتنازعة المتصارعة.

مفضلون لأنهم لا يعرفون القلق النفسي، ولا يعرفون التمرد على الآباء، ولا الشك في المبادئ والقيم، ولا التعصب لغير الحق والحقيقة، ولا يؤمنون بالحب إلا لله وفي الله، ولا ييأسون ولا يقنطون أمام مشكل أو ضائقة.. ولا يتجبرون، ولا يتكبر بعضهم على بعض، بل أشداء على الكفار رحماء بينهم، هدفهم واحد وغايتهم مشتركة.

التطبيق

وإذا كانت البداية تبدو صعبة، أو يظنها البعض مستحيلة لتعارض مصالح الحاكم مع المحكوم، أو لسمو السياسة الإسلامية عن الواقع المعاصر إلى حد المثالية الخيالية، فإن كل هذه أوهام لا سند لها ولا دليل غير ما يروجه أعداء الإسلام، والمستفيدون من الواقع المر الذليل، فالإسلام يعطي الحاكم ما تعجز عنه كل النظم المعاصرة..

يعطيه حب المسلمين وولاءهم فيصونه هذا الحب وهذا الولاء من الخوف ومن القلق، وما أكثر الخائفين القلقين من الحكام رغم ما حاطوا أنفسهم به من حرس ووسائل أخرى للحراسة المشددة، وكلها لا تعدل حظ عمر حين قيل له: «عدلت، فأمنت، فنمت يا عمر». وكان نائمًا في الغلاء في ظل شجرة، والإسلام يوفر على الحاكم جهدًا كبيرًا يبذله لصنع القوانين وتغييرها؛ إذ يقدم له تجارب الإنسانية ونتائج هذه التجارب والقوانين التي تترتب عليها ليأخذ بما يصلح الأمة ويصونها من أسباب شيوع الجريمة وفشو الرذيلة واختلال الأمن... إلخ.

والإسلام يعطي الحاكم حب الله وعونه ونصره إن عدل وطبق شريعة الله في خلقه، وهذه أمور لها لذة لا تعدلها لذة القصور ولا نعيم الدنيا كله ما دام صاحبها يفقد حب الله وعونه.. والإسلام لا يقدم سياسة خيالية أو مستحيلة التطبيق؛ بل يقدم سياسة ميسرة لا تحتاج إلى عنت أو إرهاق؛ إذ طبقها من لم يتخرج من جامعة أو يحصل على الدكتوراه، إنما تخرج في مدرسة الإسلام العملية، فتذوق قوانينها وتربى على قواعدها، واستوعب منهجها؛ فسهل عليه تصويرها، وقدمها للناس ففقهوها.. إنها أولًا وأخيرًا طاعة الله فيما أمر به وما نهى عنه، والقيام على هذه الطاعة تنفيذًا وحماية وعونًا ورعاية..

حتى لو عثر بعير بشط، أو لو أصيبت سيارة من حفرة، خشى الحاكم أن يسأله الله عن ذلك يوم القيامة..

ولو اطلع مسلم على منكر كان عونًا للحكومة في إزالته؛ بيده إن استطاع، وبالإبلاغ عنه إن لم يستطع.

من هنا جاءت خطب الراشدين من الخلفاء عقب توليهم الخلافة معبرة عن هذه المعاني وعن صلة الحكام بالمحكومين، فقال أبو بكر: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم.

وقال عمر مثلما قال أبو بكر حتى جاء عند قوله: وإن أخطأت فقوموني، فقال أحد الرعية لعمر: إن أخطأت قومناك بسيوفنا. فرد عمر: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم عمر بسيفه!

فقد كان أبو بكر رضي الله عنه إذا أعياه أمر خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به.

وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر: هل كان لأبي بكر فيه قضاء؟ فإن وجد قضى به، وإلا دعا رءوس المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.

ولم يكن الإجماع إلا استنادًا لقواعد الشرع وأصوله، فإذا كان ينهى عن إثارة الغرائز وتهييج الشهوات، وإشاعة مقدمات الجنس مثلًا، فإن الإجماع على تحريم كل ما يظهر من جديد يؤدي إلى ذلك لا يحتاج إلى جدل أو خلاف، وإذا كان بناء الإنسان الراشد فكرًا وسلوكًا هو هدف التشريع، فإن إقرار كل ما يساهم في هذا لا يحتاج إلى جدل أو خلاف، وإذا كان المؤمنون منهيين عن اللغو من الكلام، فعن اللغو من العمل من باب أولى.

وهكذا يمكن أن يجتمع علماء المسلمين لو تخلصوا من الأهواء وشهوات المناصب والشهرة، وأخلصوا وجوههم ووجهتهم لله رب العالمين.. يمكن أن يجتمعوا على حل أو حرمة ما يظهر أو يجد في حياة المسلمين ولا يتناوله النص بعينه، ففي الإسلام قواعد بناء الإنسان بناء راشدًا مستقيمًا فكرًا وسلوكًا، ومن خلال هذا البناء الراشد يستطيع المسلمون صنع حضارتهم وتقدمهم حتى يكونوا خير أمة أخرجت للناس.

ولا يتم هذا إلا حين يوجد نظام الإسلام الشامل تتعانق فيه السياسة بالدين، أو الشريعة بالحياة وبالسلوك والأخلاق، وبالإدارة وبالتعليم وبالتربية وبالقضاء... إلخ.

وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ (النساء: 58). «قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمر، عليهم أن يؤدوا الأمانات، وإذا حكموا أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية عليهم أن يطيعوا أولي الأمر فيما أمر الله به يأتمروا.. وفيما نهى عنه ينتهوا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق...».

وإذا كان الموضوع لا يزال يحتاج إلى تفصيل، فأرجو أن يكون بعون الله في لقاء آخر.

الرابط المختصر :