العنوان بر الأبناء بالآباء حق ووفاء
الكاتب أ. د. سمير يونس
تاريخ النشر السبت 14-مارس-2009
مشاهدات 16
نشر في العدد 1843
نشر في الصفحة 58
السبت 14-مارس-2009
أرسل إلى أحد القراء من الإخوة السعوديين قصة قال إنها واقعية، وإنها وقعت قبل أكثر من خمسين سنة، وبطلها رجل في شبابه كان يحج مع والده في قافلة حجاج تركب الجمال وعندما تجاوزوا منطقة عفيف وقبل أن يصلوا إلى ظلم..... رغب الأب أكرمكم الله. في قضاء حاجته، فأنزله الابن من فوق دابته ومضى الأب لقضاء حاجته، وقال لابنه انطلق أنت مع القافلة، وسوف ألحق بكم.
مضى الابن مع القافلة مطيعا لأمر والده وبعد برهة من الزمن التفت فوجد أن القافلة بعدت عن والده، فعاد يركض على قدميه وحمل والده على كتفه، ثم انطلق يجري به ليلحق بالقافلة.
يقول الابن وبينما أنا كذلك إذ أحسست بماء رطب يقطر على وجهي، وتبين أنها دموع والدي، فقلت لوالدي، إنك لأخف على كتفي من الريشة.. فلماذا تبكي ؟! فقال الأب: ليس لهذا بكيت، ولكن في هذا المكان حملت أنا والدي.
وقد روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أنه كان عظيم البر بأمه، ومع ذلك لم يكن يأكل معها في إناء واحد، فلما سئل: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تأكل معها. فما السبب؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها تشتهيه، فأكون قد عققتها !!!
وكان لأسامة بن زيد رضي الله عنهما نخل بالمدينة، وكانت النخلة آنذاك غالية الثمن وفي أحد الأيام اشتهت أمه الجمار «وهو الجزء الرطب الأبيض اللون في قلب النخلة»، فقطع نخلة مثمرة، ليطعمها جمارها، فلما سئل عن ذلك، قال: ليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته!!!
قيمة إسلامية
هل ذقت يوما مرارة الجحود؟ هل أسديت معروفا لإنسان فأنكر المعروف؟ هل صنعت بشخص جميلا فقابله بالإساءة؟
هل مددت يدك ذات مرة بالخير لإنسان فمد يده إليك بالشر؟ إذا كنت واحدا من هؤلاء الذين تنكر الناس المعروف وجميلهم وخيرهم.
فإنك ستكون قد ذقت بالفعل مرارة الجحود وألم الإساءة وحرقة الشر، وستدرك هنالك حلاوة الوفاء، وراحة المعروف، وبرد الخير.
إن الاعتراف بالجميل قيمة إسلامية عظيمة، لذا فقد أثبت الله عز وجل لذاته صفة الوفاء. بعد أن دعا إليها العباد قال سبحانه: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ﴾(البقرة).
اهتم القرآن الكريم. إذا . بتربية المسلمين على خلة الوفاء، لما لها من منزلة عالية في الإسلام، قال: تعالى: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾(النحل).
كما أثنى سبحانه على نبيه إبراهيم عليه السلام لوفائه قال تعالى: ﴿ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ﴾(النجم).
ولقد حرص رسولنا الوفي الكريم على تأكيد قيمة الوفاء، فقال: من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، (رواه الطبراني في الكبير).
والبر بالوالدين من أعظم صور الوفاء وهو اعتراف بالجميل، ووفاء بالحقوق والتزام بالعهود والمواثيق وصفة من صفات المؤمنين الصادقين المخلصين.
بين العقيدة وبر الوالدين
ولمكانة بالآباء على الأبناء أتى أمر الله عز وجل بالبر بهم بعد الأمر بعبادته سبحانه، ففي سورة الإسراء: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا , وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾(الإسراء).
لقد قرن القرآن الكريم هنا العقيدة التي هي أساس الأعمال الصالحة بأعظم عمل من هذه الأعمال ألا وهو بر الوالدين وجيش القرآن الكريم عاطفة الأبناء نحو آبائهم، ذلك أن الأبناء قد تجرفهم الحياة في صحبها ومشاغلها وزخارفها وملذاتها وشهواتها فتصرفهم عن آبائهم، ومن ثم ينسون المعروف ويجحدون الجميل الذي بذله الوالدان منذ أن كان الولد جنينا، برغم الحنان الذي تلقوه من الآباء بلا حدود، ودون انتظار مقابل، فالآباء مجبولون على حب الأبناء، تلك فطرتهم.
فالأب والأم تجدهما مدفوعين بدافع الفطرة نحو رعاية الأولاد، تحركهما رغبة عارمة، ويدفعهما أمل قوي، وعاطفة غامرة وشفقة نادرة، ورأفة عجيبة، وحنان حان لذا حرص الإسلام العظيم، وذلك الدين القيم على توصية الأبناء بالوفاء لآبائهم.
إن البر بالوالدين لا حد له في عالم الأخلاق، لذا لم يسمح الخالق سبحانه. واهب الرحمة بأقل كلمة تضجر يقولها الولد لوالديه ﴿ فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ ﴾، ولم يسمح بنهرهما، ﴿ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا ﴾ وأمر بالإحسان إليهما قولاً وعملاً وبالوالدين إحسانا﴿ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ ﴾..
ولك أن تتصور هذه الدرجة العظيمة، وتلك المكانة الجليلة التي وضع الله عز وجل فيها البر بالآباء عندما تقرأ هذا الموقف، فعن طلحة بن معاوية السلمي قال : أتيت النبي فقلت يا رسول الله ﷺ: إني أريد الجهاد في سبيل الله قال: أمك حية؟ قلت: نعم. قال النبي : «الزم رجلها فثم الجنة».
وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي ، فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وجئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجلها ، (رواه النسائي وابن ماجه)
وانظر إلى موضع آخر من مواضع عظمة هذا الدين وحسن تكريمه للآباء، إنه يأمر الأبناء بالإحسان إلى الآباء حتى لو كان الآباء مشركين. قال سبحانه: ﴿ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ﴾(لقمان : ١٥).
ولقد جسدت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها هذا السلوك بعدما استفتت رسولنا الكريم الرحمة المهداة في أمها وكانت مشركة، فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله ، فاستفتيت رسول اللهﷺ ، قلت قدمت علي أمي وهي راغبة، أفاصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك» (رواه البخاري).
واخفض لهما جناح الذل
في هذا التصوير المبهر الموحي يأتي الأمر الإلهي للابن واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل ، فكلنا يعلم وظيفة الجناح للطائر، حيث يساعده على الحركة والطيران حيث يشاء، دون أن يمثل هذا الجناح ثقلاً ولا ضغطاً على الطائر، فهو تعبير يوحي بضرورة أن يكون الولد مع والديه بمثابة الجناح للطائر يساعد الأبوين على الحركة كيفما يريدان، دون أن يشعرهما بثقل ولا تضجر، ولا يضايقهما، بل يطاوعهما كما يطاوع الجناح الطير في سهولة ويسر، فيعلو وينخفض، ويتهاوى في رفق وأناة، بيد أن الجناح هنا . عزيزي القارئ. ليس جناح نسر جارح ولا غيره، وليس جناحا عاديا، إنما هو جناح الذل سماه الرحمن الرحيم جناح الذل، ليوجه الأبناء إلى ضرورة التحلي بالذل والتواضع والعطف والحنان والرفق في معاملة الوالدين.
شكر الوالدين من شكر الله
تلك منزلة أخرى وضع الله فيها مقام الوالدين، إذ أثبت ذلك في كتابه العظيم ﴿أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ﴾ (لقمان).
كيف شكرتهما؟
حسب الإنسان منا أن يسترجع شريط ذكريات طفولته مع والديه، حتى يدرك كم قصر في شكر والديه:
- عندما كان عمرك عاماً قاما بتغذيتك وتنظيفك، وأنت قابلت ذلك بكائك طوال الليل، وضجيجك والعويل!!!
- عندما كان عمرك سنتين درباك على المشي ويملؤهما الحب والرفق والعطف، فقابلت ذلك بالصراخ وتحميلهما المشاق!!
- عندما بلغت ثلاث سنوات، قدما لك الوجبات الغذائية اللذيذة، فقابلت ذلك بقذف الطعام على الأرض !!
- عندما وصل عمرك إلى أربع سنوات قاما بتعليمك الإمساك بالقلم لتتهيأ للكتابة والرسم، فقابلت ذلك بتشويه جدران البيت.
- عندما كان عمرك خمس سنوات البساك أحسن الثياب، فقابلت ذلك بتمزيق الثياب وإهمالها!!
- عندما كان عمرك ست سنوات قاما بإلحاقك بالمدرسة، وبذلا كل غال ونفيس لتتعلم، فقابلت ذلك بالصراخ والتمرد عليهما والإهمال!!
- عندما صرت فتى تمنيا أن تخرج معهما ففضلت الخروج مع أصحابك على الخروج معهما!
- عندما أردت الزواج، بذلا كل ما يملكان لتزويجك، فقابلت ذلك بعدم إشراكهما في الاختيار.
- عندما صار لك بيتك وزوجة وأولاد فضلتهم على والديك فقاما بدعوتك للغداء عندهما، فاعتذرت بأنك مشغول!!
وأنت في يوم من الأيام سترحل عن هذه الدنيا.. وبرغم كل ما صنعت فحبهما لك لم يفارق قلبيهما!!
وقل رب ارحمهما
يقول صاحب الظلال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾(الإسراء : ٢٤ ) . .... وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة، فإذا هي قشر كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية. إن أمهلهما الأجل. وهما مع ذلك سعيدان.. فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله.
ويندفعون بدورهم إلى الأمام إلى الزوجات والذرية.. وهكذا تندفع الحياة.. لذا كانت استجاشة وجدان الأولاد بذكريات الطفولة ومشاعر الحب الأبوي والعطف والحنان ﴿ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾(الإسراء) هنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا، ولا يرفض أمرا، وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاستسلام... ﴿وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾ فهي الذكرى الحانية.. ذكرى الطفولة الضعيفة، يرعاها الوالدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبيهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.. سيد قطب في ظلال القرآن، ج 4، ص (٢٢٢١ ، ٢٢٢٢).
قال الحافظ أبو بكر البزار بإسناده عن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي : «هل أديت حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة».
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك»(رواه ابن ماجه).
إرضاء الوالدين من إرضاء الله
عرفت أخي الكريم كيف جعل الله عز وجل بر الوالدين مقترنا بعبادته سبحانه وتعالى وبالإيمان به وكيف جعل الله سبحانه شكر الوالدين من شكره، لذا كان إرضاء الوالدين من إرضاء الله عز وجل، ففي الحديث «من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله». (رواه ابن النجار عن أنس). فرصة العمر للفوز بالجنة
إن وجود والديك على قيد الحياة في حياتك إنما هي فرصة ثمينة تستطيع أن تحرز من خلالها أغلى فوز في حياتك ألا وهو الفوز بالجنة والنجاة من الخزي والنار، وإرغام الأنف ذلا وخسرانا وهوانا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: رغم أنفه.. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة». (رواه مسلم) .
- بر الوالدين - إذا - من أحب الأعمال إلى الله تعالى.
- بر الوالدين حق على الأبناء ووفاء منهم للآباء.
- بر الوالدين مقرون بالإيمان بالله تعالى وعبادته سبحانه.
- بر الوالدين رصيد يبقى لك عند أبنائك يؤدونه في كبرك
- الوالدان طريقك إلى الجنة.
- مهما قدمت لوالديك فلن توفيهما حقهما.
- لن تنال مرتبة البر بالوالدين بعطائك المادي فحسب ولكن بالذل والرحمة والعطف والشفقة والتقدير والاحترام.
- شكر الوالدين من شكر الله
- إرضاء الوالدين من إرضاء الله تعالى.
- من أدرك والديه فقد أدرك فرصة العمر التي يعبر من خلالها إلى الجنة، ومن لم يدركهما فليصل رحمهما التي لا توصل إلا بهما، وليتقرب إلى أصدقائهما بالبر والطاعة والخير، ففي الحديث «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده»(حديث صحيح رواه ابن حبان في صحيحه).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل