; بلا حدود: النفق السريِّ | مجلة المجتمع

العنوان بلا حدود: النفق السريِّ

الكاتب أحمد منصور

تاريخ النشر الاثنين 02-سبتمبر-1996

مشاهدات 14

نشر في العدد 1215

نشر في الصفحة 27

الاثنين 02-سبتمبر-1996

جلست في الخامس عشر من أغسطس الماضي أشاهد حفل إعادة افتتاح مطار سراييفو الذي أعلنه الرئيس البوسني على عزت بيجوفيتش في حضور وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، وسرعان ما عدت نوفمبر ١٩٩٤ م؛ حيث كنت هناك في بقعة قريبة من المكان الذي كان يقف فيه الرئيس بيجوفيتش ووزير الخارجية الأمريكي كريستوفر وقد ذهبت لتغطية جانب من أحداث الحرب في البوسنة، وكانت العاصمة سراييفو تحت الحصار الصربي الذي كان قد قارب ذلك الوقت يومه الألف لما يزيد على مائتي ألف مدني هم من بقي داخل سراييفو من سكانها ، وكانت سراييفو في ذلك الوقت قد سجلت اعلى رقم حوصرت فيه عاصمة إحدى الدول خلال التاريخ الحديث والمعاصر، ولم يكن هناك منفذ للعاصمة سوى مطارها، وكانت قوات الأمم المتحدة هي التي تسيطر على المطار ولم تكن تسمح بوصول أي إمدادات لمسلمي البوسنة غير بعض الإمدادات الغذائية التي لا تسمن ولا تغني. 

وكان المطار يغلق تحت القصف والتهديد الصربي لفترات طويلة، وفيما كانت مخازن قوات الأمم المتحدة دائماً ممتلئة بالطعام لجنوبها وموظفيها كان سكان سراييفو يبحثون في صناديق القمامة عما يقيم صلبهم ويحفظ عليهم حياتهم، وكانت قوات الجيش البوسني المدافعة عن العاصمة بين حصارين ، حصار الصرب، وحصار قوات الأمم المتحدة الذي ضربوه على المطار، غير أن سكان سراييفو لم يستسلموا وكان عليهم أن يبحثوا عن كافة الوسائل التي تضمن لهم البقاء والاستمرار والمقاومة، وبعد ثمانية أشهر من الحصار الذي بدأ في إبريل ۱۹۹۲م شرع البوسنيون في حفر نفق صغير تحت الأرض يربط العاصمة المحاصرة بالعالم ويمكن وحدات جيش البوسنة المدافعة عن المدينة من الاستمرار في مقاومة الصرب إلى النهاية، لا سيما وأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية وحلف الناتو جلسوا جميعا يترقبون إجهاز الصرب على مسلمي البوسنة، ووسط المخاوف والشكوك والتفاؤل وعدم الارتياح من نجاح أو فشل فكرة النفق وافق الرئيس علي عزت بيجوفيتش على فكرة المشروع باعتباره الطريق الوحيد لكسر الحصار المفروض على سراييفو، وشرع البوسنيون بالفعل في بداية عام ۱۹۹۳م في بناء نفق تحت مطار سراييفو يربط العاصمة المحاصرة بالعالم الخارجي، ويربط القرب نقطتين يسيطر عليهما البوسنيون بعضهما ببعض، وهما منطقتا دوبرينيا وإيجمان، وتعرض المهندسون البوسنيون المخاطر جمة وهم يقومون بعمليات المسح للمطار وجهتيه لاختيار أقصر الطرق وادقها لحفر النفق، لأن المنطقة كانت كلها مكشوفة المواقع الصرب، أو خاضعة لقوات الأمم المتحدة، وتم تحديد منزلين في جهتي المطار يشكل كل منهما مدخلا ومخرجا طبيعيا للنفق دون أن يكون واضحا لمن يرقب المكان وجود نفق أو معرفة مدخله ومخرجه، وبدأت عمليات الحفر بالفعل في بداية عام ١٩٩٣م على عمق مترين من سطح الأرض، وكانت الدعائم الخشبية والحديدية هي المواد الأساسية لبناء النفق، ورغم أن الأخشاب كانت في ذلك الوقت هي المصدر الرئيسي للتدفئة لسكان العاصمة المحاصرة، وكانت قليلة إلا أن سلطات المدينة قامت بجمع مخزون الأخشاب التي تصلح لبناء النفق وسلمته إلى مهندسي النفق، وفيما كانت المباحثات تجري بين الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش وزعيم صرب البوسنة رادوفان كارانيتش في جنيف حول خطة فانس. اوين للسلام في البوسنة كان ما يقرب من ثلاثة آلاف بوسني يقومون يوميا تحت ستر الليل بأعمال الحفر والبناء للنفق الذي كانوا يعتبرونه شريان الحياة الذي سيربطهم بالدنيا، ويخفف عنهم أثار الحصار، إلا أن الصرب الذين تسربت إليهم أخبار النفق دون أن يعرفوا شيئا عن تفصيلاته بدأوا هجوما شاملا في بداية صيف عام 1993م، ليلة ليلاء بذاكرتي إلى الوراء إلى : باردة مظلمة من ليالي شتاء للاستيلاء على مرتفعات إيجمان وجنوب العاصمة سراييفو، ومنها المنطقة التي يقع فيها النفق؛ وذلك على اعتبار أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يسلكه سكان العاصمة سراييفو ليلا . رغم مخاطره. للدخول أو الخروج من المدينة، وتمكن الصرب بالفعل من السيطرة على مدينة تيرنوفو، التي تقع جنوب العاصمة سراييفو وبدأوا الاقتراب بالفعل من جبل إيجمان الذي يعتبر المعبر الرئيسي واهم المواقع الاستراتيجية التي يسيطر عليها مسلمو البوسنة لحماية المدينة المحاصرة.

وأصدر الرئيس عزت بيجوفيتش أوامره القيادة جيش البوسنة بان تكون عمليات إتمام بناء النفق هي الهدف الأول لدى الجيش باعتباره الطريق الوحيد لإمداد القوات البوسنية المدافعة عن مرتفعات إيجمان وجنوب المدينة، وبدا البوسنيون صراعا مع الوقت لإتمام بناء النفق قبل أن يتمكن الصرب من التقدم والاستيلاء على مرتفعات إيجمان، وبعد حوالي سبعة أشهر من العمل المتواصل اتم البوسنيون بناء النفق الذي بلغ طوله ما يزيد على ۹۰۰ متر وعرضه ما يقرب من متر واحد، وارتفاعه متر ونصف مما يجبر الذي يعبره على الانحناء الدائم طوال فترة سيره فيه كما أنه لا يسمح بالعبور إلا في اتجاه واحد ، وتم تدعيم قوائمه الخشبية بدعائم حديدية، كما تم إقامة قضبان حديدية في أرضه تسمح باستخدام عربات يدوية لنقل الأمتعة عليها وجرها أو دفعها باليد، ونظرا لضعف الإمكانات فقد كانت التهوية سيئة، وكذلك الإضاءة، كما كانت مياه الأمطار والمياه الجوفية تتسرب دائما إلى أرضية النفق، مما كان يجعله موحلا بشكل دائم، وأحيانا ترتفع المياه في بعض مناطقه حتى يصل ارتفاعها إلى أكثر من نصف متر، وفي ٣٠ يوليو ۱۹۹۳م نجح البوسنيون في ربط سراييفو بالعالم الخارجي عن طريق النفق وكان أول استخدام للنفق هو من قوات الجيش البوسني التي تحركت من سراييفو عبر النفق لدعم القوات التي تواجه صرب البوسنة جنوب سراييفو وفي منطقة إيجمان؛ حيث نجح البوسنيون بالفعل في صد الهجوم الصربي، وأصبح النفق منذ ذلك اليوم هو شريان الحياة الذي يربط سراييفو بالعالم، ورغم أن الجيش البوسني هو الذي كان يدير النفق ويتحكم في الداخلين إليه والخارجين منه من كلا الاتجاهين، وكان استخدامه للأغراض العسكرية ونقل الإمدادات للمدينة المحاصرة بالدرجة الأولى، إلا أن الجيش كان يسمح للمدنيين أيضا باستخدامه، كما أن الرئيس عزت بيجوفيتش وكل مسئولي الحكومة كانوا يستخدمون النفق في خروجهم ودخولهم إلى المدينة في الأوقات التي كان مطار المدينة فيها مغلقا، وكثيرا ما كان يغلق، لكن أحدا لم يكن يتكلم عن النفق رغم أن الجميع يعلم بوجوده وذلك باعتباره أحد الأسرار العسكرية الرئيسية لمسلمي البوسنة ، ولم يكن جيش البوسنة يسمح للصحفيين على وجه الخصوص أو الغربيين عموما بالمرور من النفق، إلا أني كنت واحدا من الصحفيين القلائل الذين عبروا من هذا النفق إلى داخل سراييفو وهي تحت الحصار في شتاء عام ١٩٩٤م، ورغم ما رواه لي ميرزاء مرافقي البوسني البطل والذي رافقني من مطار دوبرفتيك الذي يقع على البحر الإدرياتيكي في كرواتيا وحتى ودعني على مدخل النفق بعدما رتب مع ضباط جيش البوسنة المسئولين عن إدارة النفق أمر عبوري إلى المدينة المحاصرة، إلا أن تجربة المرور في النفق كانت بالنسبة لي شيئا آخر، فالحركة داخل النفق كانت تبدأ بعد ما يرخي الليل سدوله ، وتظل حتى بزوغ الفجر، عندها ينتهي كل شيء وكأن شيئا لم يكن ، وكان بعض الناس يقضون ساعات طويلة أو حتى ليال عديدة حتى تتاح لهم فرصة العبور لأن أي تطورات عسكرية معناها إغلاق النفق أمام الجميع إلا خدمات الجيش، كما نجح البوسنيون في تمرير انبوب للكيروسين، وآخر للغاز، وكابلات للإمدادات الكهربائية إلى المدينة المحاصرة كانت مثبتة على حوائط النفق.

لقد حاول الصرب مراراً أن ينالوا من هذا النفق طوال سنوات الحرب إلا أن البوسنيين كانوا يعتبرونه شريان الحياة بالنسبة لهم، ولنا أن نتصور كيف يمكن للإنسان أن يدافع عن شريان الحياة الذي يربطه بالدنيا، إن قصة هذا النفق هي إحدى البطولات التي قام بها مسلمو البوسنة ليواجهوا بها حرب الإبادة التي تعرضوا لها، ورغم أن قصة ابطال هذا النفق لم تدون بعد، إلا أنه سيظل رمزا للأجيال، وعلامة بارزة الشعب مسلم لم يعرف المستحيل..

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

غداً تشرق الشمس

نشر في العدد 83

20

الثلاثاء 26-أكتوبر-1971

سوريا على طريق المحنة

نشر في العدد 443

13

الثلاثاء 01-مايو-1979