; غداً تشرق الشمس | مجلة المجتمع

العنوان غداً تشرق الشمس

الكاتب يوسف نصار

تاريخ النشر الثلاثاء 26-أكتوبر-1971

مشاهدات 21

نشر في العدد 83

نشر في الصفحة 23

الثلاثاء 26-أكتوبر-1971

                                       غداً تشرق الشمس

 بقلم: يوسف نصار

 قصة العدد:

       نكس الشيخ حمید الله رأسه وراح ينظر إلى الجسد المسجى على الأرض أمامه الذي حمله إليه الرجال الملتفون حوله. الآن ينقلون أبصارهم بين الجسد تارةً ووجه الشيخ المتغضن الذي حفرت فيه السنون آثارها تارةً أخرى تركزت كل مظاهر الحياة في جسد الشيخ الفاني في عينيه. نسى الرجال من حوله المتطلعين إليه وتجمدت نظراته على وجه ولده شرف الدين. أمن العدل أن يموت ولده حبيبه بهذه الوحشية؟ وبهذه السرعة تخطفه يد القدر برصاصة غادرة أطلقها مجرم دنيء؟  يا لها من يد قاسيه جبانة تلك التي امتدت لتطفئ شمعة الحياة في هذا الجسد الفتي، وتكتم نبضات هذه الروح الشابة المتوثبة. أهي حقًا هذه التي أمامك جثة ولدك البكر الذي ودعك هذا الصباح كعادته في طريقه إلى الحقل بكل همة ونشاط؟ يا لقسوة الحياة عليك يا حميد الله التي لم ترحم شيخوختك، وفجيعتك في ولدك وأنت في أمس الحاجة إليه ليدفئ أيامك الأخيرة الباردة الموحشة وبزفرة حارة أرسلها من صدره إلى الفضاء حاول الشيخ أن يمسك نفسه من الاسترسال في الحزن والأسى، ويستعيد إيمانه بقضاء الله وقدره. ليس أمامك يا حميد الله سوى أن تصبر وإلا فماذا بوسعك أن تفعل أمام قضاء الله وقدره سوى الصبر والاستغفار، فالله دائمًا مع الصابرين. هكذا يحدث دائمًا أمام المسجد الشيخ عبد الرحمن ميتًا، وليكن لك في ولدك الآخر صفي الدين خير عوض؛ ولعل الله يبارك لك فيه.

 سحب الشيخ عند هذا بصره ببطيء بل انتزعه انتزاعًا عن وجه ولده الحبيب ورفع رأسه وجال بعينيه في وجوه الرجال الصامتة التي لا تنطق إلا بالحزن والأسى، وتحرك لسانه لأول مرة منذ حضورهم وسأل: من أين أحضرتموه؟ وتقدم رجل قصير القامة، متين البنية، عريض المنكين، وقال بصوت أجش: «بالقرب من المسجد فقد أطلق عليه الرصاص وهو خارج منه».

 - ومن الذي فعل ذلك؟ وهنا نظر الرجل إلى الآخرين الذين أشاحوا بوجوههم عنه ثم تقدم خطوة إلى الأمام وقال: «ماركوس» نعم الكاثوليكي ماركوس» - ماركوس - نعم لقد شاهدته بعيني يفر هاربًا إلى الحقول المجاورة بعد أن أتم جريمته، ثم يهرب هو وجماعته، الذين كانوا في انتظاره لحمايته وتقدم رجل آخر: ولكننا لم نستطع اللحاق بهم فقد كانوا مسلحين، ويطلقون النار بغزارة من خلفهم، ولكن الشيخ لم يسمع ما قاله الأخير، ولا ما همهم به الحضور بعد ذلك، فلقد تجمدت نظراته مرة أخرى، ولكن هذه المرة أمامه في الفضاء الواسع بلا هدف معين، فلقد كان هذا «الماركوس» مشردًا لا يجد ما يقتات به عندما التقطه الشيخ فأواه في مزرعته بعد طول ضياع، وأطعمه بعد جوع، وكساه بعد عري، ورغم تخوف أهل القرية من هذا الغريب وتحذيراتهم من الثقة، والمودة يلقيها الشيخ لرجل ليس في ملتهم، إلا أنه احتفظ به فـي مزرعته، فلقد كان بملامحه الطفولية الوادعة، وتصرفاته الذليلة الخانعة يخدع كل من يراه،  كما أن الشيخ كان يجد في إيوائه عمل خير وإحسان يتقرب به إلى الله، ورغم أن الأيام كذبت ظنون الشيخ وأظهرت هذا الرجل على حقيقته عندما سرق بقرتين وحصان المزرعة وفر بهما هاربًا، إلا أنه لا الشيخ ولا أحد من أهل القرية، كان يظن أنه سيعود ثانية مُحتميًا بعصابة «اللاجا» المجرمة لا ليسرق هذه المرة، ولكن ليقتل واحدًا من خيرة شباب القرية وأبرهم. وأفاق الشيخ من خواطره واستعاد إحساسه بالواقع من حوله على أصوات الرجال تتعالى:

- ثم ماذا بعد ذلك أنظل ساكتين؟

- إننا لسنا جبناء، وباستطاعتنا الدفاع عن أنفسنا.

 - اليوم قتلوا شرف الدين، وبالأمس قتلوا إلياس الحسن، وقبلها حاولوا قتل إمام المسجد، إلى متى يستمر هذا الحال؟

- نحن لسنا قله أو ضعفاء، وديننا يأمرنا برد العدوان.

 - نحن مستعدون لكل شيء ولكن نريد السلاح.

 - يجب أن نقاتلهم يجب.

 وتعالى من خلف الصفوف، رأس صغير بأذنين كبيرتين مفلطحين وقال بصوت مرتجف هامس: «ولكن لا تنسوا أن الحكومة معهم وتساعدهم، إنها حكومتهم، ونحن ضعفاء لا قبل لنا برد انتقام الحكومة ومواجهة بطشها»

 - وهدر صوت القصير المتين: ولكن معنا من هو أقوى من حكومتهم معنا الله ومن كان الله معهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

- وصاح شاب حديث السن وهو يضرب بقبضته في الهواء: هذا حق هذا حق. يجب أن نحمل السلاح مثلهم ونقاتل.

- وتمتم شيخ عجوز عبثًا يحاول بعصاه أن يرفع ظهره المحنى المتقوس، ولكن أثقال السنين على كاهله، كفيلة بإحناء الجبل ذاته، وقال بصوت واهن ضعيف:

 - تحسبه آت من خلف الصحراء.

 - «يا قوم تجملوا بالصبر وتعقلوا فالصبر يا قوم مفتاح للفرج، لا تعرضوا أنفسكم وأموالكــم للهلاك تحت أقدام الحكومة، فنحن المسلمين في هذه البلاد ما عهدنا من السلطة ورجالها سوى العسف والجور».

- وزمجر القصير المتين من جديد ملوحًا بذراعيه القويتين: وما الذي يدفعنا إلى هذا الهوان يا شيخ؟

 فوالله لقد صبرنا وصبرنا، حتى خفنا من الله ما بقي لنا شيء حتى نخاف عليه، فالأرض يريدون سرقتها وهم يصطادوننا واحدًا تلو الآخر، فعلى ماذا نخاف إذًا؟

من الخير لنا أن نموت شهداء بدلًا من أن يقتلونا كالجبناء بين نسائنا، أما الحكومة فلن نخافها بعد اليوم، ما دامت لا تحمينا وتساعد العصابات والمجرمين علينا، سنتولى أمرنا بأنفسنا ولن نخضع لأحد بعد اليوم.

ووسط كلمات الاستحسان والتأييد ضرب فلاح آت لتوه من حقله الأرض بمذراته وقال:

- «أما كفاهم أن سلبونا أرضنا الخصبة وأعطوها للكاثوليك؟  يريدون أيضًا أن يقتلونا جميعًا ويتخلصوا منا يجب أن نقاوم الظلمة ولن نستكين لهم. «

وتقدم حارس الغابة بلحيته الكثة العظيمة وردائه الغليظ مُلوحًا بعصاه المدببة الرأس في الهواء، وقال بصوت جهوري قوي: «بعصاتي هذه أداوی مئة رأس من رؤوس هؤلاء الأوغاد، ولكنني أرى أنه من الضروري توفير سلاح حدیث كالذي يستخدمه الأعداء، وكذلك الاتصال بإخواننا لنتعاون معهم ونوحد الصفوف فالحماس لا يكفي، يجب أن يكون هناك السلاح والنظام أيضًا»، وهدر صوت القصير المتين: «أحسنت يا أخي أحسنت إنها لأفكار صائبة، ثم التفت إلى الشيخ حمید الله وسأله برفق: ماذا تقول يا شیخ حمید الله؟

وهنا يصمت الجميع وتتجمد الكلمات على الشفاه، وتتعلق الأنظار بشفتي الشيخ في انتظار ما يقوله، فالشيخ حميد الله ليس والد الشهيد شرف الدين فحسب، بل هو ببره وعطفه ودماثة خلقه بمكانة الأب لكل أهل القرية، هذا بالإضافة إلى حكمته وسعة أفقه وتعدد تجاربه، ولا ننسى جانبًا آخر من أخلاق الشيخ رغم محاولاته أن يبقى مستورًا ألا وهو سخاء يده وكرم عطائه رغم أنه ليس من الأغنياء المرموقين.

وأخيرًا وبعدما خُيل للجميع أنه طال انتظار قال الشيخ:

وماذا تتوقعون منى غير الموافقة ومباركة خطواتكم.

 نعم يا أبنائي لقد عثرنا اليوم على الطريق الصحيح. ليس أمامنا الآن إلا أن نقاتل دفاعًا عن أنفسنا وأرضنا، التي يريدون أن ينتزعوها منا، ولما اصطدموا بعنادنا وإصرارنا لجاؤا إلى حرب الإبادة بشنها ضدنا، وهم يعلمون أننا مسالمون عُزل من السلاح، وهذا ما أغراهم وشجعهم على ارتكاب جرائمهم، ولكن لن نكون عُزلًا بعد اليوم، وسنرد الاعتداء بالاعتداء، والبادئ هو الأظلم، فالحياة يا أولادي لا تساوي شيئًا بلا كرامة، ونحن المسلمين أكرم الناس على الله، ولولا ثقل السنين على كاهلي لكنت أول المجاهدين معكم، ولكن دائمًا لكم عندي النصح والإرشاد بإذن الله، وأما المال، فأنتم تعلمون أنني عزمت على أداء فريضة الحج هذا العام ولقد ادخرت لذلك مالًا ، أدفعه لكم الآن عن طيب خاطر، تستعينون به على أموركم حتى يفرجها الله. كذلك وهنا يلتفت الشيخ حوله ويسأل: أين صفي الدين؟ ويتقدم من خلفه فتي يافع حديث السن: لبيك يا والدي إنني هنا، ويضع الشيخ يده على كتف ولده، ويكمل حديثه: كذلك لكم عندي أخو الشهيد أنذره للجهاد في سبيل الله معكم. غدًا يا ابنائي ليذهب بعضكم إلى العاصمة «مانيلا» حيث يشتري السلاح ويعود به تحت جنح الظلام، وحذار أن يراكم أحد منهم.

وتعالت الأصوات من حول الشيخ، وارتفعت هتافات كانت في القلوب صامتة تعبر عما يجيش في النفوس الطيبة الصابرة بعضها دعاء للشيخ وثناء عليه، وبعضها وعود بالإخلاص في الجهاد والثأر للشهداء، وانفض الجميع من حول الشيخ، وذهب بعضهم للإعداد لدفن الشهيد، أما الشيخ فقد جلس في انتظارهم إلى جانب ولده وحيدًا يعبث بالتراب في يده يملأ قبضته منه ويضغط عليه بقوة، لم يعهدها في أصابعه المعروقة النحيلة من قبل وحب كل ذرة تراب من هذه الأرض كان في قلبه من قبل حبًا ساكنًا لا يشعربه ولكنه اليوم تيار عنيف جارف يسري في أعماقه.

لقد أصبح لكل شيء من حوله اليوم معنى جديد، فالأرض التي يريدون انتزاعها من أصحابها كانت في الماضي أرضًا تحرث وتزرع، ولكنها اليوم رمز للصمود والثبات وانتماء تمنحه لأصحابها ودماء الشهداء التي سالت واختلطت بالطين هي الترجمة المادية الملموسة للصلة بين الأرض وأصحابها صلة الدم.

ورفع الشيخ رأسه على خطوات تقترب منه، ليجد ولده صفي الدين قابعًا: «هيا يا والدي لتعود إلى البيت فصحتك لا تحتمل، يكفيك ما لقيته في يومك هذا فالشمس توشك على المغيب، وتحول رأس الشيخ ببطء ينظر إلى الشمس التي كانت تلامس قمة الجبل وحملق فيها، كانت ضعيفة الحرارة لا يبهر نورها البصر ولكنها حمراء اللون كلون الدم الذي كان يصبغ تفكيره قبل قليل، وشعر الشيخ بأن الشمس جميلة أجمل من أي يوم مضى عزيزة عليه، وكان هناك صلة بينهما خاصة، تختلف عما بينها وبين البشر الأخرين، أحس أن الشمس تشاركه تفكيره وتشاطره مشاعره وأحاسيسه وتعبر عما يحول في خاطره فنظر إليها وأطال حتى اختفت خلف قمة الجبل، وحتى مل ولده الانتظار فتقدم يمسك بيده يعينه على النهوض: هيا يا والدي لقد غابت الشمس وعما قليل سيحل الظلام، وتحركت قدما الشيخ نحو بيته في ثقة واطمئنان، وهو يقول: ولكنها غدًا ستشرق من جديد يا ولدي، لنبدأ يومًا جديدًا.

الرابط المختصر :