العنوان بلغت القلوب الحناجر فهل دقت ساعة العمل؟
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996
مشاهدات 30
نشر في العدد 1197
نشر في الصفحة 49
الثلاثاء 23-أبريل-1996
قابلني أحد الغيورين، وقال لي: هل يجوز لي أن انتحر؟ والله ما أصبحت أتحمل كل هذا الهوان، وكل هذا الضعف الذي تجلله الخيانة، ويلفعه القهر، فقلت له مشفقاً: يا أخي، اتق الله ولا تجعل لليأس سبيلا إلى نفسك، ولا للشيطان سلطانًا على فؤادك، فالأمة بخير وإن داهمتها الحوادث، وقهرتها المحن، والفرد المسلم قوة كامنة، وعزيمة مستعدة، وهمَّة عالية، وستنطلق الأمة يومًا إن شاء الله، وما ذلك على الله بعزيز، فقال لي حانقًا ضاجرًا: أي خير تقصد، ونحن في الدنيا أهون من الجعلان، وأحقر من الجرذان، ليس لنا حرمة، ولا كرامة، ولا قوة، ولا حتى إحساس، نُضرَب فنطاطئ الرأس، ونُقتّل فنتمرغ في الوحل، وتُنتَهَك حُرماتُنا فنلثم الأعتاب، ونقبل الأقدام، ونزداد خيانة وعمالة وحقارة، وقد بلغنا من التدني والتسفل والوضاعة حداً لم نعهده في الأمة لا في جاهلية ولا في إسلام!
لقد حفظنا ونحن صغار أن رجلاً يسمَّى «أبو رغال» خان العرب، وأراد أن يدل أبرهة الأشرم الذي عزم على هدم الكعبة على طريق البيت، ولكنه مات في الطريق، في مكان يسمى «المغمَّس» فجعلته العرب مكاناً للتبول والتبرز، ورجمت قبره إلى اليوم، وصار عنواناً للوضاعة، وضربت به الأمثال في الخيانة والخسة، وهو الذي عناه جرير في هجوه للفرزدق بقوله:
إذا مات الفرزدق فارجموه كرجمكمو لقبر أبي رغال
واليوم أصبحت هناك جمهرة من علية القوم وساداتهم أكثر جرمًا من أبي رغال، وصدق القائل:
قد كان ثمّ أبو رغالٍ واحدٍ واليومَ آباء الرغالِ كثارُ
فعلتنا كبيرة، ومصيبتنا عظيمة، وداهيتنا ثقيلة، وقد سدت علينا الأبواب، وأعجزتنا الحيل، قلنا رجعة إلى ديننا وعقيدتنا، دين يعصم من الزلل، ويقي من العمالة، ويدفع نحو التمايز والهوية، وعقيدة تدفع إلى التضحية، والفداء، والقوة، والرجولة، والاعتصام بحبل الله، وتورث الأخوّة، فخرج علينا دجالون أكذب من مُسيلمة، وأضيع من أبي جهل، يعيبون الهدى، ويدعوننا إلى الغي:
دعانا إلى ترك الديانة والهدى مسيلمة الكذابُ إذ جاء يَسْجــــَعُ
فيا عجباً من معشر قد تتابعوا له في سبيل الغَيَّ والغيُّ أشنع
قلنا نجاهد كما جاهدت الشعوب والأمم، ونكافح كما كافح المجاهدون عن حماهم، والفتية عن ديارهم، ونحن أمة الجهاد، وأرضنا أرض الفتوة والإيمان والبطولة، وخرج من الأمة زرعها الناضر، وأغصانها الباسقة، لتلقي بنفسها على العدو فتصعقه، وعلى المعتدي فتدمغه، وعلى المحتل فتنسفه، وعلى الصهيوني فتبيده، وضحَّى بنفسه الشباب الناضر، وألقت بنفسها الزهور اليانعة في أتون الجهاد والخليون هُجع، والناعمون بين الآرائك، والمترفون في أحضان النعيم، وآخذ الشباب الرباني بالعزائم لا بالرخص، وخلّ الهوينى للضعفاء المهازيل، والتعلات للمتسلقين والمستفيدين والطامعين، وأنزل بالعدو ما عجزت عنه الأنظمة التي ترتعد فرائصها، أو القوى التي تكدس أسلحتها وطائراتها وبوارجها، فحرك القضية، وحجم العدو، وأرعد فرائصه، ووقف العدو عاجزاً هو ومن وراءه أمام هذه البطولات الشابة، والصولات الإيمانية، والعزائم «المُضرية»، فصرخ بأعلى صوته، واستغاث بكل قوته، فأجبناه بتوهين أنفسنا، وضياع مجاهدينا، وإهلاك فتيتنا، وضرب جهادنا، بلا حجة، ولا سبب، ولا معرفة للعواقب، ولا تقدير لمصالح الأمة، أو رعاية لشعور الشعوب، ولا حتى خوف من الله.
وانتظرنا لعل السلطة الفلسطينية والعربية ترينا هي الخير، أو تُبدي لنا الهمة، أو حتى تحجز عنا الهم، ولكنَّا وجدنا الهول، ودخلنا معهم الجحور، وضمتنا معهم القبور، ونظرنا إلى رسل السلام، وأنبياء التعايش السلمي، فإذا بنا نردد ما قاله عطارد بن حاجب في سجاح التي ادعت النبوة، وجرت على أهلها الخراب والدمار:
أمست نبيتنا أنثى نُطيف بها وأصبحت أنبياء النـاسِ ذُكرانا
فلعنة الله والأقوامِ كـــــــلَّهمُ عَلَى سَجِاح وَمَنْ بالذل أغرانا
وهل حقيقة يُصدق عاقل أن إسرائيل التي قامت على العدوان، والاغتصاب والإرهاب، والتي لا يرضى ناخبها اليوم، ولا يشفي غليل جمهورها إلا الإرهاب، وسفك الدماء، والاحتلال، وأخذ مقدرات الأمم بالقوة والقهر تريد السلام؟ أم تريد السيطرة والإذلال والاستيلاء على المقدرات، وتركيع الآمة حكاماً ومحكومين؟
وهل يصدق عاقل أو مجنون أن هناك تنمية تقوم في البلاد العربية، أو مصانع تُنشأ أو مؤسسات تُقام، ولا تكون تحت رحمة إسرائيل، تتسبب يومًا بأية حجة أو أي شيء لتدمر الأخضر واليابس، ومعها الطيران والصواريخ، وحتى القنابل الذرية، وحكوماتنا في أمان واطمئنان وسلام بلا رادع للعدو أو استعداد، تنعم بالهدوء وتغط في نوم عميق؟ وما يجري على أرض لبنان اليوم من تدمير البنية الأساسية بعد نجاته من الفتن التي زرعتها إسرائيل بين أهله، واستمرت عشرات السنين، وهل هناك من وسائل كبح لإسرائيل غير الاستعداد والوحدة وتكاتف الشعوب مع الحكام، ومراعاة الحكام لمشاعر الشعوب وتوجهاتهم؟
أقول يا أخي، دقت ساعة العمل، عمل كل القوى الوطنية، فالخطر داهم، ولا وقت للضياع، فلابد أن تلملم الأمة شعثها، وتظهر غضبتها، وترجع إلى صوابها، وتُؤثر مصلحة الأمة على غيرها، لابد من لَمّ شعث الأمة، فالعدو يريد تمزيقها، يريد ضرب ليبيا، وضرب السودان، وضرب إيران، وضرب بلاد أخرى كثيرة، ويجعلنا مخالب لمطامعه، وينقض علينا قطعة قطعة، وفردًا فردًا، ودولة دولة، نريد أن نلم شعت الشباب فلا نهلكه، بل نوجهه إلى الجهاد الصحيح، ولا نقتله أو نضيعه، وكان يكفي عدة آلاف من الشباب الذين قُتلوا في حرب أهلية في إحدى الدول لو أحسن استغلاله لاستخراج العدو وإذاقته وبال صنيعه، وما أظن أن الفتن التي بين الأمم وبين شبابها إلا بتدبير وتحريض خارج عنها.
نريد أن لا يسارع أقوام في استقبال العدو والترحيب به، فإن ذلك يزيده إعناتًا وسطوة، ويزيدنا مهانة وذلة، ويزيده احتقارًً لنا وتعاديًا في صلفه وغروره، ونحن نعرف أنه عدو لنا وعدو لله ورسوله، نريد أن نرجع إلى صوابنا؛ حتى لا تلعننا الأجيال، ونحظى بغضب الله، ولابد للظالم من قارعة، ومن صارع الحقائق صرعته:
فإن تصبك من الأيام قارعة لم نَبّكِ منكَ على دنيا ولا دينِ
ولابد للأمة أن تَنفي خبثها، ويظهر معدنها الذي لا يعرف الصدأ، وينهض عزمها الذي لا يعرف الوهن:
فعش ملكاً أو مُت كريماً وإن تَمُتْ وسيفك مشهورَ بِكَفِكَ تُعذَرُ
فهل سنعيش ملوكاً؟ أم عبيدًا؟ !!.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
نشر في العدد 233
33
الثلاثاء 21-يناير-1975