العنوان بناء القناعة في النفوس بالعمل لدين الله
الكاتب مسفر العبيدي
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 10
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 58
الثلاثاء 18-مايو-1999
- كل ما يحيط بنا من هدم عقدي منظم وظروف اقتصادية سيئة يثير الغرائز ويقتل دوافع التجرد للدعوة
- البناء الفكري والممارسة العملية ضرورة لمواجهة الواقع وتأثير التقدم
ليس الدعاة إلى الله نمطًا خارجًا عن المجتمع، أو فئة منعزلة بدون دور في أحداث الناس ووقائع الحياة، بل الأصل فيهم أنهم روح المجتمع وبركته وملحه الذي لا يستغنى عنهم لحظة واحدة.
والمجتمعات الإسلامية بدات في الآونة الأخيرة تتأثر سلبًا بظروف العصر الراهن وما يتسم به من تطور وتازم وانتشار، حتى أصبحنا نعيش مع البشر جميعًا وكأننا في قرية واحدة، لا تحدث فتنة أو أزمة إلا وقع صداها يهز أرجاء العالم كله.
إن أبناء الصحوة من العاملين لدين الله عز وجل، وهم الجزء الفعال في مجتمعاتهم جزء أيضًا من انعكاسات وتغيرات أحداث العالم اليوم سواء كانت سلبية أو إيجابية.
فالتقدم التكنولوجي والعلمي بصوره المختلفة يغريهم كغيرهم من البشر بالانخراط في نمط تلك التقنيات أو البحث عن أماكنها والتشوق إلى مواردها البراقة بغية الوصول إلى رفاهية تلك الحياة المادية الخالية في الغالب من غذاء الروح وزاد الإيمان بالغيب، مما يضعف مع مرور الأيام من شعلة النشاط والحماسة للعاملين في حقل الدعوة، أضف إلى هذا ما يجده أبناء الصحوة من ضربات فكرية وإعلامية موجهة في الصميم تهدف إلى ذبذبة أفكارهم وإثارة غرائزهم بطرق ماكرة منظمة تقتل ولاشك بعد فترة من الزمن دوافع الإيمان بالعمل لدين الله عز وجل.
إحصاءات حول الظاهرة
وهناك بعض الإحصائيات المذهلة حول هذه الظاهرة منها: أن عدد ساعات البث للقنوات الفضائية فقط في المنطقة العربية تقدر بنحو ٢٥٠ ألف ساعة سنويًا ٧٠٠% تأتي من خارج المنطقة (۱) وهذا العدد الرهيب يزداد مع تعاقب الساعات والأيام، ناهيك عن الهدم الفكري والعقدي المقروء منه والمسموع الذي يمارس على مدار الساعة ضد أبناء جيل اليوم من الصحوة الإسلامية.
ولا تقل الظروف الاقتصادية الراهنة شأنًا وأهمية في تأثيرها على نشاط العاملين لدين الله عز وجل، فالناظر في أحوال الاقتصاد العالمي في أغلب الدول يلمح الأزمة المالية الراهنة التي تنذر بكساد اقتصادي متوقع جعل دول العالم تتخذ سياسات شد الأحزمة، وفرض الضرائب وتخفيض فرص الوظائف والأعمال وكل ما يدعو إلى الإنفاق العام، في حين تتزايد على النقيض معدلات الاستهلاك المعيشي والحرص على الكماليات والتحسينات لدى الناس، مما يفرض على محدود الدخل المزيد من البحث عن أعمال إضافية، وذلك لجمع أكبر قدر من الأموال لتحقيق حلم الرضا بالعيش والمستوى الاجتماعي المطلوب.
والدعاة إلى الله ليسوا خارج هذا الإعصار الاقتصادي الذي ربما يغير مجرى حياة الكثير من الدعاة، ويبدل أهدافهم وغاياتهم، وتصبح توافه الأمس ضرورات اليوم والعكس إن هذه الظروف التي تمر بالدعاة والعاملين لدين الله عز وجل واقع فرض نفسه لا يمكن أن نجهله أو نتجاهله أو نقف أمامه مكتوفي الأيدي دون أن نقدم له ما يحتاج من حلول مناسبة واحتياطات آمنة. وأرى -والله أعلم- أن أهم ما يجب أن يرسخ خلال هذه المرحلة الحرجة تعميق القناعة بخط الدعوة، ووجوب العمل للدين، وتحصين الفكر من الشبهات وخصوصًا من مجتمعات الصحوة التي التزمت بالفطرة أو تدينت عائليًا وجماهيريًا أو تعلقت بالصالحين عاطفيًا، فهذه الفئة من الشباب قد جاءها الآن ما يعكر صفوها، ويحرك جمودها من دعوات وتيارات مختلفة، ويخشى على العمل الإسلامي فيها أن تتجه جهوده إلى الترقيع والإعجاب بالتزيين والتلميع، ويصبح ذلك الجسد القوي عرضة للأمراض الفتاكة والفيروسات الهدامة.
وضوح المهمة الربانية
إن وضوح المهمة الربانية والهدف الذي نسعى له والدور المطلوب الذي يجب أن نبذله لهذا الدين يمكن الإنسان بعد توفيق الله من اليقين والثبات على هذا الطريق بإذن الله وإن كلف هذا الأمر المزيد من التضحيات والكثير من التبعات، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم لما قال: النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا (۲).
والناظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له منذ أن نطقت ألسنتهم بالشهادتين يراهم قد وضعوا أرواحهم على أكفهم خدمة لهذا المعتقد الراسخ في قلوبهم رسوخ الجبال، فما منهم أحد إلا أوذي في أول أيام إسلامه وما زادهم ذلك إلا قناعة بهذا الدين، ومما يروى في ذلك أن أبا بكر -رضي الله عنه- قام خطيبًا في المسجد الحرام فضربه المشركون ضربًا شديدًا حتى جعل عتبة بن ربيعة يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يعرف وجهه من أنفه، فلما حمل إلى منزله وهم لا يشكون بموته ما فتئ لسانه يسأل عن رسول صلى الله عليه وسلم: هل أصابه مكروه؟!، ويؤكد ذلك ابن مسعود -رضي الله عنه- مرة أخرى حين جهر بالقرآن بمكة من أول إسلامه غير عابئ بتهديداتهم وعدوانهم، وما أن بدأ يقرأ القرآن حتى انهالوا عليه ضربًا حتى أثروا فيه فحمل إلى داره فقال له الصحابة هذا الذي خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا. قالوا: لا، حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون، ومصعب بن عمير لما علمت أمه بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته وكان من أنعم الناس عيشًا، فتخشف جلده خشف الحية حتى حمله أصحابه لشدة ما به من الجهد. (۳)
وفي أحداث شعب أبي طالب مشاهد حية تنطق بأبلغ عبارة عن حقيقة هذا الثبات واليقين وبنود بيعة العقبة وأخبار أهل البيعة نماذج أخرى على الطريق تؤكد القناعة بهذا الدين مهما كلف من تبعات وتضحيات حتى كأنهم يرون ما يوعدون رأي العين..
ولعلهم بذلك فضلوا على جميع الأمة كما فضل أولو العزم من الرسل على سائر الأنبياء وكما فضل مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون وسحرته على كثير من الناس، ولعل ذلك بما وقر في قلوبهم من قناعة راسخة، ويقين ثابت.
ولما سئل سفيان عن قول علي -رضي الله عنه- الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، الم تسمع قوله ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24). قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا قال بعض العلماء بالصبر
واليقين تنال الإمامة في الدين (٤). ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ (الجاثية: 16). من المهم تبيان وسائل بناء القناعة وتقويتها لدى العاملين لدين الله عز وجل وبقية أبناء الصحوة، ولعل أهمها في نظري أولًا: البناء الفكري المؤسس على قاعدة ثقافية وخلفية علمية إذ تكون في ذهن الداعي مرجعية فكرية تقيه شر الإيغال فيما لا يعلم أو تأويل ما لا يحتمل، ولا شك في أن قوة هذا التأسيس تمكنه من مواصلة طريقه على هدى، والدعوة على بصيرة، ورد الشبهات والانحرافات، بما أوتي من قوة الحوار وسعة العلم، وملكة الفقه فيه، ولا ينبغي أن يستغني الداعي إلى الله عز وجل عن رفقة القرآن والأنس به والتدبر والتمعن في آياته وعبره فللقرآن خاصية التثبيت والطمأنة عند الخوف والقلق، وبعث روح الانتصار والتأييد عند الضعف أو الهزيمة، فهو الأنيس عند المعاناة والطبيب لحل المشكلات.
يقول الرافعي - رحمه الله - في ذلك: إن هذا القرآن ليس على طبع إنساني محدود بأحوال نفسية لا يجاوزها، فهو يداور المعاني ويريغ الأساليب، ويخاطب الروح بمنطقها من الوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين، ومقطع الحق (٥).
كذلك فهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديثه القولية والفعلية دون التعمق في دراسة خلاف العلماء حول مدارك أحكامها واستنباطاتها، ولا يعني ذلك تركها مطلقًا أو إهمالها، بل المقصود معرفة ما يعين على فهم معناها العام ومقاصدها الكلية.
وحبذا بعد ذلك لو جعل الداعية له حظًا من قراءة كتب بعض المعاصرين الذين خاضوا تجارب مثيرة مع بعض التيارات المضادة للفكر الإسلامي أو عالجوا حالات التغريب وضعف القناعة بالدين لدى الناس خلال العقود الماضية، فواقعنا المعاصر قريب الشبه من ذلك الهجوم والانحلال، ومن أجمل ما كتب في ذلك ما سطره سيد قطب - رحمه الله. في معالمه وفي المستقبل لهذا الدين، وما ضمنه كذلك في ظلاله حول آيات القرآن الكريم، وكذلك كتابات أخيه محمد قطب وأبي الحسن الندوي في تحليله لخسارة العالم بانحطاط المسلمين، وما كتبه د. فتحي يكن في جوابه لمن قال: ماذا يعني انتمائي للإسلام؟ ود. القرضاوي في حله الإسلامي، وبحثه عن الخلل إلى غيرها من مؤلفات ومؤلفين.
ثانيًا: الممارسة العملية للدعوة إلى الله لتقوى بذلك القناعة بالدين عمليًا، وتترجم معاني الإسلام النظرية إلى واقع ملموس ومشاهد في حياة الناس، وأخص من هذه الممارسة ما كان ضمن عمل جماعي أصيل ومنضبط، لأن نواميس الشرع والكون تؤكد جدواه وبقاء نفعه واستمرار أثره، وبعده في الغالب عن الخطأ والتأويل الفاسد.
أما أوضاع الدعوة في عصرنا الحاضر وحال الناس من البعد والانحراف قد يكون داعيًا إلى اليأس، وباعثًا للإحباط في نفس الداعية مع أننا نريد أن نشعل الحماس ونؤكد اليقين عنده. ولكن من كان زاده في النهار ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر: 1: 4)، وزاده في الليل ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 4:1) لا يحس بمدخل اليأس إلى قلبه ولا تفتر همته في دعوته.
يقول سيد قطب فتر الوحي مدة عن النبي إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل فأدركته منه رجفة حتى جثا وهوى إلى الأرض وانطلق إلى أهله يرجف زملوني دثروني، فنزلت و﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ ، وقيل ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، والله أعلم أيتها كانت.
وسواء صحت الرواية الأولى أم الثانية فقد علم الله أنه لم يعد هناك نوم، وأن هناك تكليفًا ثقيلًا. وجهادًا طويلًا، وأنه الصحو والكد لما قيل له «قم» فقام وظل قائمًا أكثر من عشرين عامًا لم يسترح فحمل عبء الأمانة والكفاح في جاهلية أثقلتها الشهوات وتجاذبتها الأثقال والأغلال... (٦).
فلعل نزول صدر هاتين السورتين في وقت واحد في أول دعوته لدليل على أن النذارة والحركة والعمل تحتاج إلى زاد من القيام والعبادة، وقراءة القرآن هذه لمحة سريعة وخاطرة عابرة أثرت فيها الإيجاز طلبًا للاختصار، وترك المجال الأوسع للنظر والتأمل والبحث عن مواطن الداء والدواء. والله أسأل أن يرزقنا جميعًا اليقين والثبات في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه..
الهوامش
- جريدة الاقتصادية عدد يوم الأربعاء ١٤١٧/١١/٢هـ.
- صحيح الجامع للألباني رقمه ٦٨٠٦، ج ٢ ص ١١٥١.
- انظر: السيرة النبوية في ظل المصادر الأصلىة. د. مهدي رزق الله ص ۱۸۰ - ١٩٤.
- تفسير ابن كثير: ٣٧٢/٦ طبعة دار طيبة.
- إعجاز القرآن للرافعي: ص ۲۰۷ - ۲۰۸
- في ظلال القرآن: ١٧٤٢/٦ بتصرف.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل