; بيعة العقبة وحركة الدعوة (الحلقة 1) | مجلة المجتمع

العنوان بيعة العقبة وحركة الدعوة (الحلقة 1)

الكاتب محمد حسن بريغش

تاريخ النشر الثلاثاء 15-فبراير-1977

مشاهدات 19

نشر في العدد 337

نشر في الصفحة 30

الثلاثاء 15-فبراير-1977

في مسيرة الدعوة الإسلامية مواقف كثيرة يقتضي الوقوف عندها، لكي نستلهم منها الدروس، ونرسم على ضوئها الخطى، ونتعلم من سماتها فن الدعوة ونتعرف إلى حركة التاريخ، لأن مسيرة الدعوة في عهد رسول الله- صلوات الله عليه- وصحابته تضع لنا المعالم الواضحة التي ينبغي أن نأخذها سننًا تتبع؟ إنها حركة القرآن الكريم على الأرض، وفي النفوس المؤمنة، تتمثل أحداثًا ومواقف وخطوات، ينبغي أن تكون لنا صوى هادية، ومعالم مرشدة.

ونقف اليوم عند بيعة العقبة لنرى أحداثها، ونستلهم خطواتها، إذ كانت بحد ذاتها خطوة لميلاد الدولة الإسلامية الأولى بعد ميلاد المجتمع الإسلامي الأول في مكة. قال ابن إسحق: «فلما أراد الله -عز وجل- إظهار دينه، وإعزاز نبيه- صلى الله عليه وسلم- وإنجاز وعده له، خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا ولما لقيهم قال: من أنتم؟

قالوا: نفر من الخزرج.

قال: أمن موالي يهود؟

قالوا: نعم.

قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟

قالوا: بلى.

فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن».

وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم- الخزرج- أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوث، الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وارم.

فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض، يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدکم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.

فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: أنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك- فسنقدم عليهم- فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا، فلما قدموا المدينة إلى قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم- ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

هذه هي المرحلة الأولى لانتقال الإسلام من مكة الحرام، إلى المدينة أرض الدعوة وبلد الأنصار، وعاصمة الدولة، فماذا في هذا الموقف؟

۱- لا بد أن يذكر الداعية دائمًا أن الله -عز وجل- معه، يوجه خطواته أينما كان أو اتجه، ما دام مؤمنًا صادقًا، لا يبتغي غير مرضاة الله -عز وجل-.

وليس عليه مع هذا الإيمان إلا الجد والعمل والجهاد والثبات والصبر على المكاره، وعدم اليأس من الفوز، لأن الفوز هنا يعني صدق العمل، والثبات على الدعوة مهما عظم الابتلاء واشتدت المحن.

ورسول الله- عليه السلام- أعطانا صورة واقعية على ذلك، إذ وجدناه لا ييأس من دعوة الناس، ولما وقف الجاهليون في مكة في وجه الدعوة، وأوقفوا اندفاعها بالعنف والبطش والتآمر، تحول الرسول الداعية إلى مسار آخر وأراد أن يكسر الطوق لأن الدعوة إلى الناس كافة وليس إلى مكة وحدها فلم يجمد في مكان، ولم يتقيد بأرض أو ظرف، بل بدأ يبحث حول مكة ومشى إلى الطائف، وصبر على الأذى اللئيم هناك، ثم عاد حسيرًا غير يائس، معاهدًا ربة مرة أخرى على الثبات- لأن اليأس نقيض الإيمان، ومن لوازم الكافرين والمشركين «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى».

بدأ يرتاد المواسم، ويعرض نفسه على القبائل والأقوام، وهذا يعني أن الداعية غير مخير في ترك الدعوة أو مواصلة العمل فيها، لأن الإيمان معناه التسليم واليقين والعمل، الإيمان: معرفة الحق بالعقل والسلوك والتطبيق، ومعرفة أن الله هو الخالق المهيمن بیده الأمر والمصير، هو رب الكون وإله الكون، وملك الكون، هو الخالق، العليم، الحكيم، هو المعبود والمشرع.

الإيمان مطلق غير محدود، وإلا كان إيمانًا كإيمان الناس بالأصنام والأوثان يلقون عليها ما تهواه نفوسهم من صفات، وينزعون عنها، ما يريدون رغبة في تحقيق مصلحة أو هوى.

كانت قريش تترصد حر کات الرسول ودعوته وكان من أشدهم سفاهة عمه أبو لهب الذي كان يمشي في المواسم وراء ابن أخيه، فإذا رآه يكلم قومًا، كذبه وخذله، ولكن رسول الله بقي مستمر إثابتًا، لأنه صاحب رسالة، والرسالة التي ابتدأت بأمر من الله لا تنتهي في عمر إنسان، ولا تحدها ظروف بلد أو أمة، إنها تستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والدعاة إلى الله الذين يؤمنون بأن الدعوة أمر الله، لا يتوقفون أن أصابتهم المحن والعذاب صبروا، وإن تهيأت لهم ظروف النصر والدنيا شكروا، والغاية في كلا الحالين واحدة أن يفوزوا عند الله بمرضاته وعفوه وجنته، وفي سبيل ذلك تهون التضحيات. فلا نكوص ولا رجوع، ومن شذ عن الطريق، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى.

۲- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- حينما تطلع إلى آفاق جديدة ينقل إليها الدعوة، كان يعلم ما تبتغيه الجاهلية، ويعلم أنها تقف في طريقه مترصدة تخشى أن يفر من حصارها، ولكنه يعرف أيضًا أن الله معه ولن يخذله، فعليه الاجتهاد والاستمرار في الدعوة بعيدًا عن نزعات الشيطان، بريئًا من تصوراتها ومشاعرها، لذلك التمس الطريق للالتقاء بالناس بعيدًا عن رقابة قريش الجاهلية، واستطاع أن يفعل ذلك لأن المؤمن الواعي لا يعدم وسيلة إذا ما سعى وأخلص في التماس الوسيلة.

وكان التقاؤه بالأنصار، مكرمة من الله وانتصارًا على الجاهلية، أفلت من رقابة الجاهلية، لأن عناية الله ترعاه، وخذل خططها لأنه أخلص الولاء لله، وتحدث للقوم على مهل ورويه، وفتح طريقًا إلى قلوبهم، قبل أن يفتح طريقًا إلى بلدهم، بينما كانت الجاهلية بطغيانها ورصداها مخمورة بنشوة كاذبة، تظن أن حسم الأمر مع محمد بات قاب قوسين أو أدنى.

٣- ولننظر إلى هذه الصورة المشرفة لأسلوب الداعية الواثق بربه، المجاهد المخلص للدعوة، الذي يعمل بنور الله ولمرضاته.

هل اقتحم على هؤلاء مجلسهم فبدأهم بالحديث بلا روية؟

لا، بل كان حصيفًا واعيًا، عليه صلاة الله وسلامه- وبدأ الأمر بالاستطلاع الذكي، واللمحات الدالة، ليستضيء بما يعرف عما لا يعرف، ويسلك أفضل سبيل لدخول قلوبهم وعقولهم ويختار أحسن طريقة لمخاطبتهم.

بدأ التعارف بسؤال منهم: من أنتم؟

وعرفهم جيدًا، والمعرفة تضيء ولا شك طريق الداعية، والاستطلاع يوضح له الطريقة والسبيل والمدى.

وعرف من جوابهم واقعًا يعيشونه، وبيئة يثار فيها الجدل حول النبوة الجديدة، أنهم من أهل يثرب، وفيها یهود أهل الكتاب، وهم عارفون بالنبوة، يتحدثون عن النبي الموعود، ويتوعدون أهل المدينة به يوم يجيء.

إن ذلك يعني وجود البيئة المناسبة التي لا تستغرب أمر الدين الجديد كما استغربته مكة، فاليهود يتحدثون باسم كتابهم وأنبيائهم، ويتعصبون لتعاليمهم التي ارتضوها صحيحة أو محرفة، لهذا فلا غرابة أن يسمعوا حديثًا عن وحدانية الله والرسالة الجديدة، والنبي المنتظر خاتم الأنبياء.

إنهم يعيشون في هذا الجو بالذات، تعيش يثرب كلها في فترة حرجة، خلافات ونزاعات وشر مستطير، ولكن ذلك الغليان يولد الهدوء، والنفوس تتهيأ للاطمئنان على حق بعد ما تعبت من نزاعات الباطل وشروره.

إن سؤال رسول الله لهم: «أمن موالي يهود؟» يوحي لنا بهذا الاستكشاف والاستطلاع الذي تناول البيئة وأوضاع الفكر والمجتمع والعقيدة السائدة، وحدثهم بعد ذلك حديث الواثق، وهو الأمين المربي، فكان جم الأدب والتعقل فقال لهم: أفلا تجلسون أكلمكم، وقبلوا ذلك، وسمعوا منه.

٤ - فإذا ما تحدث لهم، لم يتحدث عن نفسه، ولم يتحدث عن قومه، ولم يتحدث عن جهاده، فهذا حديث الذين تهمهم نفوسهم ولا يرجون من الله الثواب والجزاء، بل كان حديثه عن الله، عن العبودية الكاملة له، الطاعة والإيمان، عن الوحدانية التي بعث من أجلها، «فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن».

توارى الداعية على عظمته، وارتفعت العقيدة، وراية الدعوة، فالحديث عن ربه، عن صلة العبد بالخالق صلة العبودية المطلعة، عن الدعوة المتميزة الصادقة حيث ذاب فيها ولأجلها، فكانت حياته خطوات فيها رغم أن حياتها كانت به وبأصحابه أيضًا في أول الأمر، الله وبقدر من عز وجل، غاية الإخلاص والتجرد، غاية الوضوح والتميز، غاية الثقة بالله والثبات على الحق، لذلك فتح الله قلوبهم للتقوى حين اجتمعت كل الأسباب بقدر الله، وآمنوا بالله الواحد القهار، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه -وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام.

٥- والإيمان الصادق إيمان مثمر، لا يلبث أن يدفع صاحبه للعمل، لأنه لا يأخذ معناه الكامل إن لم يثمر، والعرب الذين يعرفون لغتهم، ويصدقون في القول يعرفون معنى الإيمان والإسلام، لذلك أبوا نطقها لأنها تعني الخضوع التام لدعوة الله من الصغيرة حتى أكبر شيء في الحياة، وعندما نطقوها نهضوا بها مجاهدين وغزوا الدنيا وفتحوا البلاد وكانوا خير أمة أخرجت للناس. لم يعرفوا مسخ اللغة ولا ضيق المدلول، لم يعرفوا التناقض والقصور الذي يطبع أبناء المسلمين اليوم، ولهذا عندما صدق النفر رسول الله وقبلوا ما عرض عليهم من أمر الإسلام فكروا في العمل، فكروا في نقل الدعوة لمن ورائهم، وصاروا دعاة، لأن شرارة الإيمان لا تقبل أن تعيش في قلب وفيه ظلمات الجاهلية فأما أن تضيء ذلك القلب، وإما أن يهيم في ظلمات الجاهلية.

وهذا ما دعا الأنصار إلى أن يحملوا مسؤولية الدعوة «إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا، فلما قدموا المدينة إلى قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

٦ - وملاقاة الوفود، وهم طلائع أقوامهم أمر مهم لو أحسن الحديث معهم، وأحكمت الصلة بهم، وعرض عليهم الحق عرضًا واضحًا، وكان الدعاة صادقين، يشرق الإسلام في حياتهم عقيدة وسلوكًا وجهادًا، ولكننا تركنا ذلك، بل كان الغرب المادي الجاحد شرقه وغربه، من اتبع المذهب الرأسمالي أو المذاهب الاشتراكية والشيوعية، كان هؤلاء أقرب منا لاستثمار هذه الظاهرة وهذا الأسلوب.

إنهم يعمدون إلى بعثاتنا- وهم طلبة أذكياء ونابهون في الأغلب- فيدرسون طبائعهم وأحوالهم ونزعاتهم وميولهم، فضلًا عن دراسة بيئة بلادهم ثم يتوجهون إليهم بالأسلوب المناسب، فلا تنقضي مدة الوفادة عليهم «البعثة» حتى يستولوا على أفكارهم ومشاعرهم، ويحملونهم العقائد والأفكار والآراء ويعيدونهم إلى بلادهم بشهادات براقة ليظفروا بأرفع المناصب، ويستلموا التوجيه والتخطيط والقيادة، فإذا بالأمة التي خاضت مرحلة جهاد حقيقة ضد المستعمر الكافر تعود مرة أخرى وهي مطموسة بمظاهر الكفر والإلحاد والفساد، تربح الاستقلال الظاهري، وتخسر روحها وحريتها الحقيقية. تخسر العقيدة التي صنعت لها كل الخير فمتى تقوم أمة الإسلام الحقة، الأمة المجاهدة التي تستهدي بنور الله وتطبق شرع الله- ولا ترضى بشيء من مناهج الأرض لتقيم دولة الحق على الأرض وتواصل الدعوة إلى الله؟

ومضى الدعاة المؤمنون الجدد إلى بلدهم، يحملون أمانة الرسالة، ويندفعون بدافع الإيمان حتى وصلوا إلى المدينة وبدءوا العمل، ثم جاؤوا في العام الثاني وفدًا من اثني عشر رجلًا يبايعون رسول الله على طريق الدعوة.

«حتى إذا كان العام المقبل، وافي الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقوة بالعقبة الأولى فبايعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب».

وعن عبادة بن الصامت أنه قال: بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة الأولى على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا- ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله- عز وجل- إن شاء عذب وإن شاء غفر، فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة.

أرأيتم كيف تثمر الدعوة الواضحة؟ وكيف يحمل الدعاة أمانة الدعوة؟

نفر قليل يلتقي برسول الله- صلى الله عليه وسلم- لساعات قليلة فيدخلون الإسلام ثم ينقلبون إلى دعاة لأنهم يعرفون أن معنى دخولهم في هذا الدين رفض العبودية غير الله، ورفض للشرك كله ورفض للجاهلية كلها، وقيام بأمر الدعوة إلى التوحيد.

لقد كانوا يعرفون بأن إيمانهم يعني استسلامًا مطلقًا لله العلي القدير وخضوعًا تامًا لشريعة الله كما أنزلت بلا تحريف ولا إنقاص، فلا عجب أن يثمر إيمانهم بهذه السرعة فيعودوا في العام القادم، ليضعوا أول ميثاق لميلاد الدولة الجديدة، دولة الإسلام ومجتمعه الرباني الجديد.

إن هذا الميثاق يقوم أساسًا على التوحيد وعدم الشرك، ولقد كانت هذه العبارة كافية لأن يفهموا مدلولاتها، لذلك تخلوا عن الجاهلية وعن أي ولاء لغير الله، وانتزعوا أنفسهم من الجاهلية، من عشائره وأقوامهم، وتقاليدهم وكانوا قطعة من المسلمين الذين يعذبون في مكة، هكذا تكون صورة الإسلام ناصعة واضحة متميزة. أما بقية الوثيقة فكان تطبيقًا عمليًا لمعنى الإيمان، وترجمة سلوكية لمفهوم الإسلام والتزامًا واضحًا بأخلاق القرآن.

أما الثمن- يا دعاة الإسلام- فلقد كان غاليًا، نعم أغلى ما يطمح إليه مخلوق إذ كان الجنة، كلمة نرددها، نشعر بظل ناعم لها، لكننا لا ندرك أبعادها الحقيقية ولا نستشعر ضخامتها الواقعية، إن إحساساتنا تبلدت ووقفت دون أن تلمس هذه الحقائق عوائق الدنيا ومطامعها، فلم نعد نستشعر معنى الجنة والنعيم، ومعنى الرحمة والرضوان، ولو كان ذلك يلامس قلوبنا ساعة من نهار لانتفضنا أسود شری مجاهدین عبادًا مخلصين، دعاة صادقين، شهداء ملبيين، للظفر بهذا الفوز العظيم، الجنة.

كان المسلمون الأوائل يشمون رائحة الجنة، ويستشعرون نعيمها، ويرونها على بعد خطوات فيتقدمون إلى الشهادة هاتفين:

ركضًا إلى الله بغير زاد            ***             إلا التقى وعمل المعاد

وهذا الذي عرفه الأنصار «رضوان الله عليهم».

«فإن وفيتم فلكم الجنة وإن أخطأتم في شيء وأقيم عليكم الحد فهو كفارة الذنب، وإلا حوسبتم عليه عند ربكم أن شاء عذب وإن شاء غفر. ربح البيع، ربح البيع!!

وكان الثمن غاليًا، فلا عجب أن يقيم هؤلاء دولة عظمى، لأنهم أخذوا ثمنًا دونه كل مطامع الأرض.

ومضى الصحب الكرام إلى المدينة ومعهم أول أمير داعية مصعب بن عمير ليعلمهم أمور دينهم، ويتولى أمر الدعوة في المدينة وقد كان ذلك على أحسن وجه وأتمه حتى دخل الإسلام دور أهل المدينة وأشرقت أنواره في جنبات يثرب وبدأت تتشكل أول دعائم الدولة الإسلامية الفتية.[1] 
 

[1] أنظر كتاب «مصعب بن عمير الداعية المجاهد» لكاتب المقال

الرابط المختصر :