العنوان بيعة العقبة وحركة الدعوة.. (الحلقة الثالثة)
الكاتب محمد حسن بريغش
تاريخ النشر الثلاثاء 08-مارس-1977
مشاهدات 10
نشر في العدد 340
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 08-مارس-1977
ويمضي المسلمون من الأنصار في بناء هيكل الدعوة، وإقامة المجتمع الإسلامي في المدينة، وتأسيس الدولة، ونترك الحديث لواحد من الذين بايعوا في تلك الليلة المباركة «فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لمعاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع.
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلمٍ العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج- وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها- إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم إنما ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، قال: فقلنا له، قد سمعنا ما قلت.
لقد أعد المسلمون خلال سنة من الدعوة المنظمة المخلصة في المدينة عدة البناء، فكانت أعدادهم هناك من الترابط والتنظيم ما جعلهم يحسنون البناء والإعداد لهذا اللقاء التاريخي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كانت دعوتهم للناس دعوة الحق المعلنة- في كل مكان- تنبع من الإيمان العميق والفهم الصحيح، والسلوك المستقيم، والعمل المخلص. عاشوا في مجتمع جاهلي لكنهم تميزوا عنه بعقيدتهم، فكانوا وسط الجاهلية مجتمعًا إسلاميًّا متآخيًا مترابطًا، وكان وعيهم قد دفعهم إلى هذا السبيل، فلم تستطع الجاهلية- رغم ما تحمل من التربص بالدعوة والكيد للإسلام- أن تكتشف ما كان يجري في المدينة، كانت تسمع القرآن يتلى، وتشهد الندوات والمناقشات، وتصغي لبعض الأخبار، ولكنها لم تتعرف إلى حقيقة التحول الذي أحدثته العقيدة، ونوع الترابط القائم بين المسلمين، وشكل الدعوة وتنظيمها في المدينة. كان المسلم في إسلامه ينتقل من مجتمع إلى مجتمع، ويتخلى عن كل ولاء ليجعل الله وليه الذي يعبده ويطيعه من دون الخلق.
وكانت صورة الدعوة في المدينة من النضج والوعي ما يجعلها نموذجًا حيًّا لدعاة الإسلام الذين يبحثون عن الطريق، ويلتمسون الهدى، ويتبعون خطى أسلافهم في التماس السبيل القويم، والصورة الحسنة، والطريق المتميز السليم. واجتمع الأنصار في الشعب، وكان قدرًا لله بالغ الحكمة إذ حضر البيعة رجال ونساء. فما دلالة ذلك؟
إن الأمر بالغ الأهمية، وكبير الأثر، يحتاج إلى قاعدة صلبة، إلى رجال يحملون الدعوة، يُعيَّرون ويصابرون، يُمتحنون فيثبتون، ويُفتنون فلا تزيدهم الفتنة إلا نضجًا ووعيًا وصمودًا، فما علاقة النساء؟ وربما كانت الدلالة الأولى واضحة على دور المرأة في بناء الدعوة، وإقامة المجتمع، ربما كانت المرأة مُهمَلة، وربما كانت تشترك في أمور معينة تناسب نظرتها أو لا تناسب، ولكنها هنا تبدأ دورها الحقيقي في إقامة صرح مجتمع إسلامي جديد. المرأة شِق المجتمع، لها دور كبير، إنها تتولى مؤسسة تربوية كبيرة، وتحمل أعباء النشء الجديد كله، وما دامت كذلك فلا بد لها من أن تشترك في عملية البناء.
المجتمع قائم على النواة الصغيرة.. الأسرة، والأسرة لن تكون محضنًا صالحًا ما لم تكن المرأة صالحة مؤمنة واعية، تتحمل التربية، وتفهم دورها كاملًا فلا تمارس مهمة التربية اعتمادًا على التقاليد والعادات، وإنما تربط عملها بمرضاة الله، وتعرف أن مسئوليتها هذه أهم مسئولية لها، وسوف يسألها ربها عنها، ولهذا لن تكون بعيدة عن هذا الأمر الخطير، ولن تكون شيئًا مهملًا في الحياة، بل لها دور يكمل دور الرجل في كل المراحل، وإهمال دورها إهمال لجانب مهم من جوانب الدعوة، والدعوة هي الحياة ذاتها.
حضرت امرأتان في هذه المرحلة الخطيرة، مرحلة تكوين الدولة، وبناء المجتمع، وكان حضورهما ذا معنى كبير.
لقد كانتا وهما تحضران تعلمان دورهما، وتعيان أمر الدعوة، وتعرفان أن العقيدة هي الحياة، وعليهما أن تواجها المجتمع الجاهلي بعقيدتهما الواضحة، ولن تستطيعا ذلك إلا إذا دخلتا في هذا الأمر، وبايعتا على دخول الدين وبناء المجتمع، وهذا يدل أيضًا على أن الدعوة كانت تبني في عالم الرجال كما كانت تبني في عالم النساء؛ لأنها تريد إقامة المجتمع المتكامل، وأن هذا البناء في عالم النساء كان من الدقة والالتزام أيضًا؛ مما جعل بعضهن يذهب إلى مكة ليشترك في البيعة، فهل استطاعت دعوة الإسلام أن تعي ذلك حقًّا في العصر الحديث؟
وهل فهمت المرأة المسلمة بعض دلالات البيعة التي اشتركت فيها النساء؟ إن أمر الدعوة الواعية المتميزة ينبغي أن يترسم خطى الفجر الحق، فجر الدعوة الأول عندما أقامت البناء الواعي المتميز، وأسست الدولة المؤمنة الظافرة في سنوات قليلة.
إن الإسلام في صورته الواقعية، وفي حركة الدعوة الواعية تُبلّغ المرأة هذا المستوى من الوعي والإدراك والعمل، أما الصور المشوهة فهي التي تعجز عن تربية أبنائها فضلًا عن تربية بناتها، وتُبقي المرأة في منأى عن الدور الحقيقي كإنسان مكرم، تقع عليه أعباء ومسئوليات أمام الله عز وجل كما تقع على الرجل.
ثم كان اللقاء، وحضر اللقاء العباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه- قبل أن يسلم.
فكيف كان ذلك؟
هنا نرى صورة من صور التعامل بين الدعوة ممثلة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمحيط القريب الذي تعيش فيه الدعوة.
كان رسول الله- عليه صلوات الله وسلامه- واضح الدعوة، واضح المعتقد، واضح السلوك، متميزًا كل التميز، لا يحيد عن رسالته قيد أنملة، وهو يرفع راية الدعوة في كل موقف وكل مكان.
ومع ذلك فلقد استطاع أن يؤثر على المحيطين به رغم بقائهم على معتقداتهم الجاهلية. ولعل ذلك يعود إلى أشياء ينبغي أن يتحلى بها الداعية ليبلغ مثل هذا التأثير فيمن حوله من الأقربين بحيث يجعلهم له سياجًا، ينصرون الدعوة بغير قصد، ويحمون رجال الدعوة بصور مختلفة ونوايا متنوعة.
من هذه الأشياء تلك الصورة الرائعة التي تمثلت بخلق رسول الله وسلوكه مع كل الناس، كان قدوة مؤثرة، وصورة مشرقة، بحيث يرى فيه الناس قيمًا رائعة، ومبادئ سامية يحبها المجتمع ويحرص عليها ولو لم ينطلق من المعتقد الذي يحمله صاحبها.
هكذا كان رسول الله في سمو أخلاقه، ووضوح سلوكه، وترفعه عن الصغائر، والتزام الصدق والحق والفضائل والخير في كل الأمور، وهذا ما جعل الناس- ولا سيما الأقربين- يرون برسول الله قدوة لهم رغم مخالفتهم له في المعتقد، ويؤمنون بحمايته، ويعترفون بسموه وفضله.
لقد كان العباس يحضر هذا الاجتماع الخطير، ويأخذ لابن أخيه المواثيق رغم معتقده الجاهلي؛ لأنه يحب ابن أخيه حبه للفضائل والخلق والقرابة، ورسول الله- بخلقه القرآني- استطاع أن يجعل من القرابة سياجًا يدافع عنه ويكون له محيطًا صديقًا، ويهيئه للإيمان فيما بعد.
فلا غرابة بعد هذا أن يشدد العباس في المواثيق، ويعبر عن روح الحب والولاء والتضحية لابن أخيه حتى يطمئن على مصيره، وكأن القضية قضيته وكأن الذي سيُبنى في المدينة بناؤه هو.
إن الصورة الرائعة التي تركها لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تميزه الواضح وسلوكه المستقيم، وإخلاصه البالغ تجعلنا نبصر طريقنا في تعاملنا مع الناس ودعوة الله على هدى الله وبصيرة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
هل بدأ الصراع بين البرهان والإسلاميين مع تراجع حميدتي.. أم تسعى قوى غربية للوقيعة بينهما؟
نشر في العدد 2181
32
السبت 01-يوليو-2023