العنوان بين الشعب والسلطة
الكاتب داود حسن
تاريخ النشر السبت 20-ديسمبر-2003
مشاهدات 13
نشر في العدد 1581
نشر في الصفحة 45
السبت 20-ديسمبر-2003
قد تبدو المقارنة بين ما جرى في جورجيا يوم ٢٢ نوفمبر الماضي وما يجري في عالمنا العربي منذ عقود أمرًا مثيرًا للشفقة لنا أولًا، ومثيرًا للنشوة والشعور بالكرامة الوطنية للشعب الجورجي ثانيًا، رغم التقارب الشديد في الظروف السياسية والاقتصادية بين جورجيا وكثير من بلدان العالم العربي.
تتمتع جورجيا بموقع إستراتيجي، سياسيًا وعسكريًّا واقتصاديًّا في قلب منطقة القوقاز فهي كانت إحدى دول الاتحاد السوفيتي المهمة كمنفذ له على البحر الأسود، وبسبب غناها بالبترول، كما ينظر لها كممر أساسي لبترول بحر قزوين لأوروبا، وفي نفس الوقت تتصارع عليها القوى الكبرى روسيا والولايات المتحدة وحلف الأطلسي من أجل فرض الهيمنة والنفوذ هناك، ورغم ذلك يعاني المواطن الجورجي أوضاعًا اقتصادية ومعيشية صعبة، منها انخفاض قيمة العملة الوطنية، وهي أمور تتشابه إلى حد ما مع الوضع في بعض بلادنا العربية.
لكن الشعب هناك تحرك ولم يعد إلى بيته إلا وقد أقال الرئيس وعين آخر من المعارضة ولو مؤقتًا مكانه لسبب بسيط من وجهة نظر بعضنا، قد لا يؤدي إلا إلى تحرك بضع مئات منا منددين، ثم العودة لبيوتنا وفراشنا الوثيرففور الإعلان عن فوز الائتلاف الموالي للرئيس الجورجي إدوارد شيفر نادره في الانتخابات التشريعية نزل المواطنون إلى الشوارع، واتهموا الحكومة بتزوير الانتخابات ولم يثن البرد القارس هناك الناس عن الاستمرار في المطالبة والإلحاح بإقالة رأس الدولة، رغم أنه ما يزال أمامه نحو عامين من حقه أن يمضيهما في السلطة.
وانتهى المشهد باقتحام المحتجين لمقر البرلمان، فيما الرئيس شيفر نادزه يلقي خطابه أمام الأعضاء الجدد في أولى جلسات البرلمان فأسرع الحرس الرئاسي بتهريب الرئيس خارج المكان إلى ثكنة عسكرية خشية تعرضه المكروه على أيدي المحتجين الذين كانوا بالآلاف.
وتطور الأمور بشكل درامي وبعد أخذ ورد أعلن الرئيس تنحيه وتقديم استقالته وعينت المعارضة رئيسة مؤقتة بدلًا منه حتى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، وبقي الرئيس مع ذلك في داره بالعاصمة لم يهرب من البلادبعض زعماء العالم الثالث وراء ملياراتهم التي نهبوها، كما لم يشفع للرئيس أنه قاد المظاهرات قبل عشر سنوات من أجل الحرية والديمقراطية لبلاده، ولا أنه جاء عن طريق الانتخابات، فما بالك بمن أتي من خلال انقلابات دموية ثم يدعي - ويروج له - أنه أبو الشعب وأمه وجده، وأن الدنيا لا تسير بدونه، حتى إذا مات نكتشف أنه لم يكن شيئًا مذكورًا.
الشعب هناك رفض الخضوع والرضا بنتيجة انتخابات اعتبرها مسرحية وأصر على التغيير، وفي نفس الوقت وقف العسكر على الحياد أمام إصرار الناس على حقوقهم، فكل واحد منهم يشعر بأنه مواطن يعنيه الأمر ليس على رأس أحدهم ريشة، أو يدافع عن امتيازات أو حظوة محروم منها بقية الشعب، لذلك كان الانحياز واضحًا للمتظاهرين وحقوق الشعب وكذلك الرئيس الذي اختار أن يخرج من السلطة سالمًا حتى لا يذكره التاريخ بأنه قتل أحدًا من شعبه يومًا ما ورغم أن ما جرى قيل فيه الكثير، مثل أن أطرافًا خارجية كالولايات المتحدة لعبت دورًا في إنجاح الإطاحة السلمية بشيفر نادزة، أو أن المعارضة ستفشل في حل المشاكل التي تعاني منها البلاد، أو تخفف من أثر الأعباء المعيشية على الشعب، إلا أن الأمر يظل في النهاية خيار شعب ويبدو أن هذه القصة سوف تمر مرور الكرام، كما مرت قصص أخرى مماثلة دون الاستفادة منها ومن مغزاها، وكأننا نعيش في كوكب وبقية أحرار العالم يعيشون في كوكب آخر مثل حادث تخلي رئيس الوزراء الماليزي محاضر محمد وهو في قمة عطائه عن السلطة، وقد حول بلاده من دولة متخلفة ضمن ما يعرف بالعالم النامي إلى واحدة من قلاع الصناعة والتجارة في العالم أو دول العالم التي كنا نتقدر عليها قديمًا مثل كينيا التي نجحت في اختبار صعب وجرى فيها تداول للسلطة بكل سلاسة، أو دول أمريكا اللاتينية التي جرت دماء الحرية في عروق أبنائها، دون أن يقول قائل إن التغيير الديمقراطي دفعة واحدة خطر على الشعب، أو أن الشعوب لم تستعد بعد للحرية ويحب أن يتجرعها الناس ملعقة تلو أخرى لا يكاد يصل أثرها أبعد من الفم. مشكلات الاستبداد تكاد تنحصر في أمرين الأول شعوب صامتة متجمدة تخشى من دفع فاتورة التغيير كيفية شعوب العالم، وسلطة في زي مدني وعسكري تسد منافذ التغيير والحراك السياسي والاجتماعي بالقوة، ومن هذا وتلك تشكلت وتفرعت المشكلات.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل