; بين المعلم والتلميذ.. علاقة لا تنفصم ولا تنقسم | مجلة المجتمع

العنوان بين المعلم والتلميذ.. علاقة لا تنفصم ولا تنقسم

الكاتب د. طه سليمان عامر

تاريخ النشر الأحد 01-يوليو-2018

مشاهدات 14

نشر في العدد 2121

نشر في الصفحة 47

الأحد 01-يوليو-2018

كثيراً ما نتحدث عن فضل المُعلم على التلميذ ودوره في صناعة مستقبله وأثره في حياته وتكوينه العلمي والخُلُقي والروحي، لكننا بحاجة للوقوف على طبيعة تلك العلاقة التي أنتجت علماءً كباراً وفقهاءً عظاماً، وقد كانوا بالأمس تلاميذ في حلقات مشايخهم فأصبحوا بعد بضع سنين أو يزيد أساتذة الدنيا وسادة الأمة.

المُعلم حقاً من يرى في تلاميذه مستقبله وصدقته الجارية، وقرة عينه وثمرة فؤاده وبهجة قلبه، غايته أن يراهم أعلاماً ينشرون الخير وينالون الدرجات العلا.

إنه يجهد من أجلهم، ويتعب لإفادتهم ونفعم، وهو يبحث ويُسَرُ قلبه بالطالب الذكي الجاد الذي يكثر السؤال والنقاش والبحث ويجيد الحوار المعرفي.

إن المعلم الربَّاني والمربي الحكيم والفقيه الحصيف من يصنع قادة للرأي وأئمة للفكر ودعاة للحق، غير مقلدين ولا متبعين دون بصر ونقد، إنه يريد أن يراهم وقد سبقوا، ويوم يخالفونه الرأي بعلم وحكمة فهو دليل الرشد وكمال النضج وهو غاية المطلب عنده.

إن المربي الحكيم والفقيه الحصيف من يرفض النسخ المكررة، فهو يوقظ فيهم حرية التفكير وتدبر الأدلة واستقلال الاجتهاد، فإن مسيرة التجديد الفقهي والفكري لن تستمر مع فلسفة التقليد والاتباع بحال.

كيف صنع الأئمة الكبار من تلاميذهم أفذاذاً؟

جولة سريعة في سيرة الأئمة الفقهاء وعلاقتهم بتلاميذهم توقفنا على منهجية صناعة الفقهاء والعلماء ليضع كل مُعلم ومعلمة في عصرنا خطته ويراجع طريقته.

1- الإمام أبو حنيفة:

وقصته عجيبة في انصرافه عن التجارة إلى طلب العلم، عندما نصحه الإمام الشعبي قائلاً: عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة وحركة، قال: فوقع في قلبي من قوله، فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم، فنفعني الله بقوله.

وبتوجيه الشعبي رحمه الله أهدى للعالم فقيه الدنيا أبا حنيفة رحمه الله.

علاقته بتلاميذه:

يقول الإمام محمد أبو زهرة: وكان لتلاميذه مكانة الأحباب في قلبه، حتى إنه كان يقول لهم: أنتم مسارّ قلبي وجلاء حزني.

كانت علاقته بهم علاقة الأب بأولاده؛ يواسي المحتاج منهم بماله، حتى إنه كان يزوج من يبلغ منهم سن الشباب وليس عنده ما يكفيه.

كما كان يتعهدهم بالنصح والإرشاد ورُوي عنه من ذلك الكثير.

أما عن طريقته في التعليم، فكانت تعتمد على الحوار الحر، كان يلقي بالمسألة ويترك التلاميذ يتناقشون ويتصايحون حتى ترتفع أصواتهم، وربما يعارضونه اجتهاده ثم يلقي بقوله ورأيه في نهاية الحوار.

أشهر تلاميذه:

أبو يوسف، قاضي القضاة، ومحمد بن الحسن الشيباني، هما أبرز تلاميذه وأنجبهم، وقد خالفاه في مسائل عديدة، ولم يكن اختلافهما اختلاف حجة وبرهان، بل اختلاف زمان ومكان، ولا ريب أن أسعد الناس بهما هو معلمهما وشيخهما الذي سكب في نفوسهما حب العلم والمعرفة ونمَّى فيهما مَلكة الاجتهاد والنظر المستقل.

2- الإمام مالك والشافعي:

تتلمذ الشافعي على يد الإمام مالك تسع سنوات، وكان من فراسة الإمام مالك ما رواه الشافعي قائلاً: لما سِرْت إلى المدينة ولقيت مالكاً وسمع كلامي نظر إلى ساعة -وكانت له فراسة- ثم قال: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال: يا محمد، اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن.

وهذا هو المعلم المربي الذي يَنْفُذ إلى عمق تلميذه فيحسن توصيته وتوجيهه.

ومن دلائل عظمة الإمام مالك أن الإمام الشافعي ألَّف كتاباً بعد ذلك سمَّاه «خِلاف مالك» خالف فيه شيخه في مسائل عديدة.

ولماذا قلت من دلائل عظمة الإمام؟

ذلك لأن التلميذ إذا شبَّ عن الطوق وأصبح ذا قدرة ومُكْنة على الاجتهاد؛ فهذا من أدلة قوة المعلم ورسوخه، فالأستاذ حقاً يسعد بمخالفة تلاميذه له حينما ينطلقون من اجتهاد ونظر ودليل.

3- علاقة الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل:

عجيب أمر تلك العلاقة بينهما، فإنك لا تدري مَن المُعلم والتلميذ، فالإمام أحمد يرفض أن يجلس مُعلماً في فترة إقامة الشافعي ببغداد، وروي عنه أنه كان يدعو في سجوده كل صلاة: «رب اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي».

أمَّا عن الخُلق الرفيع والنفس العالية للإمام الشافعي فأرع سمعك الآن، كان الشافعي يكثر من زيارة أحمد فقيل له: يزورك أحمد وتزوره؟ قلت: المكارم لا تفارق منزله، إن زرته فلفضله، وإن زارني فبفضله، فالفضل في الحالين له.

يا الله على النفوس العالية الكبيرة والقلوب الفسيحة! إنه السباق نحو الرضوان الأكبر، وهكذا مضت علاقة كثير من العلماء بتلاميذهم عبر التاريخ، والأمثلة كثيرة، ولعلنا نقف على بعض منها في عصرنا، وفي هذا المقام نذكر شيخنا الإمام محمد الغزالي حينما كان يُسْأل في بعض المسائل فيقول: اسألوا فيها الشيخ القرضاوي، كان فيما مضى تلميذي، وأما الآن فهو أستاذي.

وكان الوفاء من شيخنا العلامة القرضاوي حينما كتب كتاباً في حياة الشيخ الغزالي عنه «الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن»، ولا يزال يُعلمنا الوفاء لشيوخه إذا ذكرهم وهو الإمام الكبير أطال الله في الخير بقاءه.

ما أريد التأكيد عليه أن المُعلم بذكائه وحرصه وقدوته وعلو هِمته وعُمق رسالته التي يحملها يستطيع أن يكتشف المعادن ويوجهها وينميها ويطورها، ويخرج للأمة والإنسانية كنوزاً مخبوءة، محتسباً كل جهد ووقت ومال عند رب العالمين ذخراً ليوم اللقاء.

الرابط المختصر :