العنوان تركيا.. تورغوت أوزال ما له وما عليه
الكاتب مصطفى الطحان
تاريخ النشر الثلاثاء 25-مايو-1993
مشاهدات 14
نشر في العدد 1051
نشر في الصفحة 31
الثلاثاء 25-مايو-1993
1- توفي السيد تورغوت أوزال رئيس الجمهورية التركية يوم السبت السابع عشر من أبريل «نيسان» ۱۹۹۳م على إثر نوبة قلبية شديدة لم تعط أطباءه أية فرصة سوى قراءة بيان من الإذاعة ينعون فيه الرئيس أوزال إلى الشعب التركي. وقع الخبر المفاجئ على الناس وقوع الصاعقة، وكعادة أهل البلاد الشرقية حيث لا يتذكر الناس إلا محاسن موتاهم، فقد بدأت الصحف تتكلم عن أوزال.
- سامي كوهين محرر الشؤون الخارجية في جريدة مليت التركية «21/٤/93» تساءل في مقال له: عن الفراغ الذي أحدثه غياب أوزال وأثره على استقرار تركيا، وعلى الحكومة، وعلى علاقات تركيا الخارجية. وعن موقف الجيش من هذا الفراغ، وعن القضية الكردية، وهل ستعود سياسة القبضة الحديدية لتعالجها مرة أخرى! وعن العلاقات الواسعة التي كان أوزال يرعاها شخصيًّا مع الجمهوريات المستقلة في آسيا الوسطى وما ستؤول إليه.
- الكاتب الصحفي المشهور يلماظ متينر - وصف أوزال فقال: كان مليئًا بالحيوية، شديد التواضع والغرور في آن، غاية في الذكاء، جريئًا، يستطيع أن يعطي قرارًا على الفور. نقل تركيا من عصر إلى عصر، مع غيابه ندرك أننا فقدنا سياسيًّا من نوع خاص، ومُصلحًا أحدث آثارًا عميقة في حياة تركيا.
2- من أهم المتغيرات التي حدثت في عهده كانت:
- فتح البلد للاستيراد، وقلل الجمارك بحيث يستطيع المواطن استيراد أية سلعة يريد.
- حول الاقتصاد إلى اقتصاد السوق، وأدخل الحوافز للتصدير.
- عوَّم الليرة التركية وأصبح التعامل بالعملات الصعبة مسموحًا به في كل المجالات. سعى لدخول السوق الأوروبية المشتركة، وكان مهندس سوق دول البحر الأسود.
- ارتفع مستوى السلعة التركية لتضاهي المستوردة بعد أن فتح باب الاستيراد.
- ارتفعت في عهده نسبة الربا على القروض، وأصبحت الدولة أكبر المرابين.
- بدأ بتنفيذ مشروع الكاب، وهو من المشروعات العملاقة للاستفادة من مياه نهري دجلة والفرات وري مساحات شاسعة في جنوب شرق تركيا.
- حول معظم مشاريع الدولة إلى القطاع الخاص.
- سادت الرشوة.. بل وأصبحت معترفًا بها.
- ساهم قانون البلديات الجديد في إعمار المناطق المختلفة في أنحاء البلاد.
- أغمض عينيه عن الاستغلال الذي زاد الفقير فقرًا والغني غنى.
3- أما حياة أوزال السياسية:
فقد تخرج مهندسًا من جامعة إسطنبول عام ١٩٥٠، وعمل في محطة للطاقة الكهربائية.
- في الستينيات والسبعينيات عمل مع سليمان ديميريل رئيس الوزراء الحالي في إدارة التصميم العام، وعندما أصبح ديميريل رئيسًا للوزراء عينه مستشارًا لشؤون التقنية ثم مسؤولًا عن هيئة التخطيط.
- عام ۱۹۷۷ ترشح في الانتخابات العامة عن منطقة أزمير عن حزب السلامة الإسلامي وفشل.
- في الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان أفرين في سبتمبر ۱۹۸۰ أصبح أوزال مستشارًا للعسكر، وفي عام ۱۹۸۳ أسس حزب الوطن الأم، فانتخبه الشعب نكاية بالعسكريين.. فأصبح رئيسًا للوزراء عام 1983.
- عام ۱۹۸۹ انتخب رئيسًا للجمهورية.
4- أهم المميزات التي ميزت عهد أوزال:
- على الصعيد المحلي الداخلي: فقد نجح في إخراج الاقتصاد التركي من حالة الركود والكساد بتنشيطه للقطاع الخاص، وتعويمه للعملة التركية، وسماحه بالاستيراد وتشجيعه للتصدير، وفتحه البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، وقد ساعدت هذه السياسة الاقتصادية أصحاب الشركات الكبرى على تحسين صناعاتهم والاستفادة من الانفتاح الذي انعكس على أوضاعهم، وأصبحوا هم الفئة المحيطة بالحكم التي تحميه مقابل المكاسب التي تحققها. أما الشعب فقد ناء كاهله أمام تضخم زادت نسبته عن ۸۰ % وأمام فوائد زادت نسبتها عن ١٠٠% وأمام غلاء زاد عن عدة آلاف بالمائة.
- وعلى الصعيد الخارجي: فقد أحكم أوزال علاقاته مع الغرب، وكان شديد الإعجاب بالولايات المتحدة وإنكلترا، فقد تبنت بلاده أفكارًا ومبادرات كانت شديدة الانسجام مع الاستراتيجيات العامة لإدارتي ريغن وبوش وحكومات المحافظين في بريطانيا، ولقد وضع أوزال بلاده والقواعد العسكرية تحت تصرف الحلفاء في حرب الخليج، كما سمح لقواتهم «المطرقة» بالمرابطة في تركيا لحماية المنطقة الكردية في شمال العراق التي تحميها القوات الغربية ضد قوات صدام حسين، كما عمل على تثبيت المفاهيم والأخلاقيات الغربية في بلاده، وساهم شخصيًّا وزوجته سمرا أوزال وأبناؤه في ترسيخ هذه المفاهيم وتلك الأخلاقيات. واليوم يستطيع المشاهد في أية مدينة تركية أن يشاهد أكثر من عشر محطات تلفزيونية تبث أفلامًا وعروضًا لا تدانيها في انحطاطها الأخلاقي أية برامج أخرى في أنحاء العالم. ولقد تصور المخططون والمنفذون لهذه السياسة أنها الوسيلة الأقوى لمحاربة الصحوة الإسلامية المتصاعدة. لم يكن أوزال في حقيقته رجل مبادئ، مبادئه تنحصر في كرسيه وملذاته وحفلاته، ومع ذلك فقد كان حريصًا على أن يسجله التاريخ كأحد الساسة الكبار الذين غيروا مجرى الأحداث في تركيا.
- فهو أول رئيس مدني يقبل رئيسًا للأركان العامة للقوات المسلحة كما فعل عام ۱۹۹۱ عندما عزل الجنرال نجيب تورمتاي من منصبه، بل وأخضع إلى حد ما سلطة الجيش والمخابرات ولأول مرة لسلطان الحكومة.
- وهو أول رئيس يتحدث عن أتاتورك باعتباره زعيمًا يخطئ ويصيب، وأن كلامه وأفعاله قابلة للمناقشة. ولقد صرح أوزال أن الوقت قد حان للتفكير بإقامة الجمهورية الثانية بدلًا من الجمهورية الأولى الكمالية!
- وهو أول رئيس يدين سياسة الانقلابات العسكرية، فقد اضطر الجيش للاعتذار عن انقلاب عام ١٩٦٠ عن طريق بحثهم عن رفات عدنان مندريس الذي أعدموه بتهمة الخيانة العظمى، واحتفالهم رسميًّا بدفنه في مقبرة كبرى شُيدت في مكان بارز في إستانبول.
- وهو أول رئيس يكتب في وصيته أن يكفن ويدفن على الطريقة الإسلامية بدون موسيقى مع قراءة القرآن وأصوات التكبير، ويدفن بجوار عدنان مندريس.
5- كان أوزال مشبعًا بالطموح:
ولقد صرح بأن القرن الـ «۲۱» هو قرن الأتراك، وتصور بلاده قوة عظمى تلعب دورًا رئيسًا في حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي السوق الاقتصادية التي بناها لمجموعة دول البحر الأسود، وفي السوق المشتركة التي كانت تضم بلاده وإیران وباكستان، فوسعها لتشمل أفغانستان والدول المستقلة في آسيا الوسطى وأكثرها تتكلم التركية، بل ولقد وصفه بعضهم بسلطان عثماني يحاول إحياء مجد الإمبراطورية مرة أخرى. لقد كان من أشد المؤيدين للمسلمين في البوسنة ضد الصرب وأذربيجان ضد الأرمن وجمهوريات آسيا الوسطى في مختلف قضاياها، كان متحمسًا لأن تلعب بلاده دورًا إقليميًّا فأرسل جيشه إلى الصومال، وبذل محاولات متكررة لإرسال المياه التركية إلى منطقة الخليج وربما إسرائيل. كان أوزال يمثل هذا الطموح بكل تأكيد، ولكنه لم يكن طموحًا إسلاميًّا عثمانيًّا، بل طموحًا قوميًّا في إطار السياسات الأمريكية، وشخصيًّا في إطار أسرة أوزال الحاكمة!
٦ - القضية الأهم التي شغلت أوزال
وشكلت جزءًا من استراتيجيته في إعادة تشكيل تركيا وحل معضلاتها الاقتصادية والسياسية وتعزيز بنيانها الداخلي والإقليمي، كانت القضية الكردية، فقد كان يرى أن الحرب الضروس التي يخوضها الجيش التركي منذ سنوات ضد الأكراد ليست الحل الأمثل لحل هذه القضية، بل إن الأمر يُحل -في رأيه- من خلال توفير أجواء التعايش التعددي والديمقراطي، وإعادة صياغة الموقف الرسمي من الأكراد وحقوقهم على أسس عصرية جديدة تختلف عن الأسس التي وضعها أتاتورك. لقد رفع أوزال الحظر عن استخدام اللغة الكردية في الأماكن العامة وفي البث التلفزيوني والإذاعي، كما أعطى الموافقة على صدور بعض الصحف والمنشورات باللغة الكردية، وخفف الضغط على البرلمانيين من أصول كردية فيما يتعلق بالتعبير عن هويتهم القومية وطرح مشكلات قومهم في حدود القانون. بعد أحداث الخليج وفي ربيع عام ١٩٩١ وجد أوزال الفرصة سانحة أمامه لكسر طوق تحريم التعامل مع الأكراد من خارج تركيا، فأقدمت وزارة الخارجية التركية على دعوة الطالباني لزيارة تركيا. ولقد صرح الطالباني بعد هذه الزيارة أن صفحة جديدة قد فتحت في العلاقات التركية - الكردية. كان أوزال صاحب الاقتراح بإقامة منطقة آمنة للأكراد العراقيين، وسمح للمرة الأولى بقيام الأحزاب الكردية العراقية بفتح مكاتب لها في أنقرة، كما سمح لأكراد تركيا بفتح جمعية ثقافية في إستانبول باسم جمعية ميسوبوتاميا العُليا تهتم بالتراث والآداب والفنون الكردية.
كانت هذه المقدمات من أهم الأسباب التي هيأت أجواء إيجابية أمام أكراد تركيا للانخراط الأوسع في العمل السياسي والبرلماني، حيث انتخب أكثر من عشرين منهم إلى البرلمان التركي في الانتخابات الأخيرة، كما أن هذه المقدمات كانت أيضًا ضمن الأسباب التي دفعت لاحقًا بحزب العمال الكردستاني للشعور بمزيد من الثقة في اختيار الحل السياسي بديلًا من العمليات العسكرية داخل تركيا. وكان زعيم الحزب عبد الله أوجلان قد صرح يو ٢٥ آذار «مارس» ۱۹۹۳ لمراسل جريدة مليت التركية معلقًا على توجهات أوزال الكردية فقال: «بصراحة لم أتوقع من أوزال أن يبدي هذا القدر من الشجاعة، إنها فعلًا خطوة مهمة». في الحقيقة لم يكن أمر التعاطي مع المشكلة الكردية وفق تلك السياسة المنفتحة مهمة سهلة لدى أوزال، خصوصًا وأن البنيان السياسي للدولة التركية كان قد تقولب منذ زمن كمال أتاتورك على إنكار الخصوصية الذاتية الكردية وطمس حقوقها السياسية والثقافية، والدعوة لقمعها بالقوة العسكرية وإلصاق تهمة الخيانة الوطنية بكل من يجرؤ على إثارتها داخل تركيا. وكانت هناك شرائح فعالة في المؤسسة السياسية التركية وعلى رأسها سليمان ديميريل تعادي بشدة خط أوزال الانفتاحي على الأكراد، وكان ديميريل قد صرح في ٢٦ آذار «مارس» ۱۹۸۹ «إن إثارة النقاش حول المشكلة الكردية ستؤدي إلى تفكيك تركيبة تركيا».
7- كان خصمًا للحركة الإسلامية
كان تورغوت أوزال خصمًا للحركة الإسلامية التي يقودها حزب الرفاه بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان، بل ولقد أسس حزبه الوطن الأم على أنقاض حزب السلامة الوطني، وكان يصف هؤلاء عندما يتحدث عنهم بالكثير من الاستصغار والاستخفاف في الانتخابات البلدية التي حدثت أواخر العام الماضي ۱۹۹۲، وأحرز حزب الرفاه أعلى نسبة في الأصوات بين جميع الأحزاب. أدرك أوزال الغلطة التي ارتكبها وغلطة الشاطر بألف كما يقولون. أحب أوزال بعد أن صعد إلى جانكايا «مقر رئاسة الجمهورية» أن يستبعد الجناح المتدين من حزب الوطن الأم، فدعم ترشيح مسعود يلماظ، وهو شخصية ذكية ليبرالية متأمركة، في الانتخابات البرلمانية التي أعقبت ذلك خسر حزب الوطن الأم أغلبيته وتولى الحكومة خصم أوزال التقليدي سليمان ديميريل، وقلب يلماظ الأوزال ظهر المجن. وأدرك أوزال الغلطة بأن استبعاد العنصر المتدين من حزبه أسقطه وكان المستفيد من ذلك حزب الرفاه. خلال الفترة الماضية كان أوزال يعيد ترتيب الأوراق لتشكيل حزب جديد بزعامة ایدن مندريس «الابن الأصغر لعدنان مندريس»، والذي توقع له أن يكون نسخة متطورة للوطن الأم الأول أو البديل العصري لحزب الرفاه، أو الرد المتقن على الأصولية الإسلامية المتصاعدة في تركيا. وعاجل الموت أوزال ولكن محاولات ایدن مندريس لا تزال مستمرة.
جنازة تورغوت أوزال
قيل إن أوزال أوصى بأن يدفن بطريقة مغايرة لما تعود عليه النظام في أنقرة؛ يتناوب المقرئون قراءة القرآن، ويصلَّى عليه مرتان، مرة في أكبر مسجد في أنقرة، ومرة أخرى في مسجد الفاتح في إستانبول. وراحت البرامج في محطات الراديو والتلفزيون تبث الأحاديث الدينية والمشاهد الإسلامية. ولقد أشعل ذلك الشوق في نفوس الأتراك فأقبلوا على الجنازة من كل أنحاء تركيا وهم يهتفون للإسلام ويقولون: «نظامنا الإسلام.. دستورنا القرآن».
وسيحكم التاريخ لأوزال، فله وعليه، ولكنه في كل الظروف لم يكن عدوًّا للإسلام.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
عبدالعالـي حسانـي: «مجتمع السلم» تتبنى مشروع الوحدة بين أبناء الحركة الإسلامية كافة بالجزائر
نشر في العدد 2182
32
الثلاثاء 01-أغسطس-2023