العنوان تركيا: «درع الفرات» النتائج والآفاق المستقبلية
الكاتب د. سعيد الحاج
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2016
مشاهدات 14
نشر في العدد 2100
نشر في الصفحة 52
السبت 01-أكتوبر-2016
تركيا: «درع الفرات» النتائج والآفاق المستقبلية
في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي أعلنت تركيا عن بدء عملية أسمتها «درع الفرات»، وأعلنت لها ثلاثة أهداف رئيسة تمثلت في حماية حدودها، ومواجهة «تنظيم الدولة» (داعش) وطرده من مدينة جرابلس الحدودية، والمحافظة على وحدة الأراضي السورية.
يرى الكثير من المتابعين أن تركيا تأخرت كثيراً في تدخلها العسكري في سورية بالنظر إلى فكرة المنطقة الآمنة التي تدعو إليها منذ سنوات (والتي تجاهلها التحالف الدولي والولايات المتحدة حتى الآن)، ولم تشأ أو تستطع تجاوز السقف الأمريكي – الدولي غير المعلن إزاءها، بيد أن الأمر يتعلق أساساً بمهددات الأمن القومي التركي وفق أولويات أنقرة، والتي يأتي في مقدمتها مشروع الممر الكردي في شمال سورية الذي تعتبره أنقرة أمراً لا يمكن السكوت عنه لما يتضمنه من أخطار جدية بل ووجودية على أمنها القومي.
ذلك أن أي كيان سياسي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي - الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني والمصنف إرهابياً في تركيا - يكون كياناً معادياً لها بطبيعة الحال، وربما يؤمّن مساحات لتدريب مسلحي الكردستاني وإطلاق عملياته نحو الأراضي التركية، فضلاً عن تأزيمه للمشكلة الكردية الداخلية في تركيا عبر رفع سقف الحركة السياسية الكردية هناك ممثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي.
عدة عصافير بحجر واحد
في المرتبة الثانية يأتي ما يسمى بـ «تنظيم الدولة» (داعش)، الذي استهدف تركيا بعدد من العمليات الانتحارية والتفجيرات، فضلاً عن قصفه المتواصل لبعض المدن التركية الحدودية وخصوصاً كيليس.
وفق هذه الأولويات، يمكن القول: إن صانع القرار التركي أراد ضرب عدة عصافير بحجر واحد، وهي تمكنه من إبعاد التنظيم عن حدوده، ومنع تواصل الكانتونات الكردية الجغرافي، إضافة لتقوية ساعد المعارضة السورية في الشمال وطرحها أمام واشنطن كبديل للفصائل الكردية في المعارك ضد «داعش»، فضلاً عن إحياء فكرة المنطقة الآمنة كأمر واقع.
وهكذا، تحركت الدبلوماسية التركية في مرحلة ما بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، فضغطت على الحليف الأمريكي بأوراق اتهامه بالمعرفة المسبقة بالانقلاب والمماطلة بتسليم زعيم «الكيان الموازي» «فتح الله كولن» المقيم على الراضي الأمريكية، كما استثمرت العلاقات المتعافية مع موسكو وطهران لنسج شبكة أمان سياسية للعملية، التي سارت في خطواتها الأولى على ضوء الرضا الضمني من هذه المنظومة الإقليمية والدولية.
طرد «داعش»
بدأت المرحلة الأولى من العملية بطرد «داعش» من مدينة جرابلس الحدودية، وتميزت بالسرعة والدقة، سيما مع انسحاب التنظيم وتفضيله عدم المواجهة مع مجموعات الجيش السوري الحر المدعومة من قبل القوات المسلحة التركية براً وجواً، عسكرياً ولوجستياً.
أما المرحلة الثانية فشملت تعميق مناطق سيطرة الجيش الحر والقوات التركية، إضافة إلى إبعاد قوات الحماية الكردية إلى شرق الفرات، وشهدت بعض المواجهات بين القوات التركية والمليشيات الكردية قبل أن تتدخل واشنطن لمنع تطور الأحداث إلى مواجهة شاملة بينهما، الهدف الرئيس للمرحلة الثانية كانت بلدة الراعي؛ وبالتالي تأمين خط «جرابلس - أعزاز – الباب»؛ إعداداً للمرحلة الثالثة التي يبدو أن المرحلتين الأولى والثانية كانتا في جزء كبير منهما مجرد مقدمة لها.
مدينة الباب هي الهدف الكبير للمرحلة الثالثة من عملية «درع الفرات»، ولها أهميتها الإستراتيجية من حيث قربها من الحدود التركية ومدينة حلب، وكونها معقلاً مهماً لـ «تنظيم الدولة»، وقد بدأت الإرهاصات الأولى لهذه العملية خلال كتابة هذه السطور.
تتعدد الأهداف التركية من وراء هذه المرحلة/ المعركة، بين توسيع مناطق سيطرة الجيش الحر لتحقيق منطقة آمنة بفعل الأمر الواقع واستمرار المواجهة مع «تنظيم الدولة» وإبقاء الشرعية لتدخلها في سورية وسد الطريق على المليشيات الكردية وقوات سورية الديمقراطية وتثبيت الجيش الحر كلاعب محلي يمكنه أخذ مكانها في إستراتيجية التحالف الدولي وزيادة أوراق قوتها على طاولة التفاوض لصياغة مستقبل سورية، وغيرها من الأهداف.
بيد أن هذه المرحلة تختلف عن سابقتيها لأسباب ثلاثة رئيسة:
الأول: أنها أبعد من جرابلس ومحيطها عن الحدود التركية.
الثاني: كونها مركزاً رئيساً للتنظيم لن يسلمه بسهولة.
الثالث: عدد السكان الكبير مقارنة بجرابلس والبلدات الأخرى.
وبالتالي فالمعركة هناك ستكون أشرس وأصعب وخسائرها المحتملة – سيما من السكان المدنيين – أكبر، وهو ما سيفرض على تركيا إشراك عدد أكبر من القوات، وحرصاً أكثر في مسار العمليات، وبالتالي وقتاً زمنياً أطول حكماً، سيما في ظل التصريحات الأولية لوزير الدفاع التركي حول عدم رغبة أنقرة في إشراك قوات مشاتها في العمليات والاكتفاء بدعم الجيش السوري الحر.
ماذا بعد الباب؟
لا ينبغي فصل معركة الباب، أو المرحلة الثالثة من عملية «درع الفرات»، عن سياقاتها المتعلقة بمتغيرات السياسة الخارجية التركية والحل السياسي الذي تتفاوض حوله موسكو وواشنطن ومواجهة «تنظيم الدولة» التي بدأت تتسارع خطاها.
وبالتالي، يمكن بسهولة القول: إن «الباب» لن تكون آخر مراحل التدخل التركي العسكري في المشهد السوري أو في المنطقة، بل ستكون مجرد محطة في عملية متكاملة، سيكون الهدف الأول لأنقرة تثبيت سيطرة الجيش السوري الحر (المجموعات المشاركة منه في العملية) على المناطق المحررة من «تنظيم الدولة»، ومنع تواجد قوات سورية الديمقراطية عليها ولو جزئياً، وبالتالي تحقيق فكرة «المنطقة الآمنة» من النواحي العملية كأمر واقع، على أمل إقناع الثنائي الأمريكي – الروسي بإقرارها رسمياً من خلال فرض حظر الطيران فوقها.
وإلى جانب اهتمام تركيا بعملية تأهيل هذه المناطق وإعادة جزء من سكانها إليها - من خلال توفير الخدمات وإعادة الإعمار بشكل جزئي وعملي - يبدو من الإشارات الصادرة عن الساسة الأتراك أن الخط الموازي سيكون المشاركة في المعركة القادمة مع «تنظيم الدولة»؛ أي في الرقة معقله الرئيس وآخر قلاع وجوده في سورية، وهي عملية أكثر تعقيداً وستستغرق زمناً أطول بكثير على أي حال، فضلاً عن أن تركيا لن تدخلها منفردة بل مع التحالف الدولي وتحت لافتته.
أخيراً، وبتناغم واضح مع النظرة التركية المتغيرة للإقليم ودور أنقرة فيه ومع عنوان مواجهة التنظيم، ذكر الرئيس التركي «أردوغان» أن بلاده تنظر بجدية للخطر القادم من «تنظيم الدولة» من شمال العراق، وطلب من الحكومة المركزية في بغداد ومن مختلف الدول تفهم الموقف التركي، ودعم أي قرار تتخذه أنقرة لمواجهة التنظيم في الموصل، وهي تصريحات تذكرنا بـخط «حلب – الموصل»، أو «خط الدفاع الأول عن تركيا» وفق عدد من التقارير التركية التي صدرت مؤخراً.
تهجين السياسة الخارجية
في المحصلة، نحن أمام سياسة تركية خارجية مختلفة بشكل جذري عما تابعناه على مدى سنوات طويلة، ومظاهر ذلك تتجلى في النقاط التالية:
النقطة الأولى: تبدو تركيا اليوم إزاء الأخطار المحدقة وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة أكثر مبادرة وقدرة على إقناع الحلفاء والخصوم بحاجتها لتأمين حدودها وأمنها القومي، في سياق يمكن أن نطلق عليه مصطلح «تهجين السياسة الخارجية» لتصبح مزيجاً من القوتين الناعمة والخشنة بعد سنوات طويلة من الاكتفاء بالأولى دون الثانية.
النقطة الثانية الجديرة بالملاحظة هي قدرة أنقرة حتى الآن على التدخل دون التورط كثيراً في تفاصيل المشهد، بفضل الدبلوماسية التركية التي استطاعت أن تحظى بضوء أخضر روسي – أمريكي لتحركها ومحاولاتها التدخل المباشر بالحد الأدنى والاكتفاء بدعم الفصائل السورية قدر الإمكان، وهذا يعني أن أنقرة ما زالت متوجسة من سيناريوهات التوريط والغوص في «المستنقع السوري» وفق تصريح/ تهديد صالح مسلم، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي، ويعني أيضاً توجسها من المواقف الدولية التي يمكن أن تتبدل بين يوم وليلة لتنتقل من مربع التأييد أو الصمت إلى مربع التحفظ والضغط عليها.
النقطة الأخيرة تتعلق بمآلات بعيدة المدى لعملية «درع الفرات»، يجب أن نقول: إنها غير واضحة تماماً حتى الآن، فرغم إعلان أنقرة أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية أحد أهداف العملية الرئيسة، فإن التزامها بالسقف الأمريكي – الروسي وخطوط السيطرة الجغرافية في سورية سيعزز على المدى البعيد حدود هذه المناطق؛ وبالتالي تحقيق سيناريو التقسيم بالأمر الواقع وليس بالإعلان الرسمي عن التقسيم إلى دويلات أو الفيدرالية، وهذه ملحوظة تلقي بمسؤولية كبيرة على الفصائل السورية العسكرية والسياسية لتوضيح رؤيتها ومشروعها لمستقبل سورية كما على صانع القرار التركي ورؤيته لمستقبل المنطقة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل