العنوان تولستوي ونظرته للفكر الإسلامي (٢من٢)
الكاتب ابتهال محمد البار
تاريخ النشر السبت 28-فبراير-2004
مشاهدات 14
نشر في العدد 1590
نشر في الصفحة 52
السبت 28-فبراير-2004
أعجب تولستوي بدعوة الإسلام إلى التآزر ومساعدة المحتاجين ومد يد العون إلى كل ملهوف أو مكروب
والحق أن إهتمام تولستوي بالتعريف بالرسول ﷺ وأحاديثه يأتي منسقًا تمامًا مع الخطوط العريضة في فكره، ويشهد على ذلك إقتباسه من الأحاديث والآيات القرآنية لتأكيد صحة أفكاره التي كان يدعو إليها في السنوات الأخيرة من عمره، وهي الأفكار التي جاءت بمثابة محصلة وتتويج لتأملاته في الحياة والواقع والمستقبل. وفيما يلي أهم هذه الأفكار:
الإنسان والعمل: كان تولستوي يقدس العمل والعمل اليدوي بالذات وقد أعجب كثيرًا بحديث المصطفى: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».
ورغم إنتمائه إلى الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية فقد نزل إلى الأرض يعمل بيده جنبًا إلى جنب مع الفلاحين الذين يعملون في أرضه.. كان أحد أسباب اقترابه من حياة الفقراء الكادحة وتقديسه للعمل رفضه الحياة الرغد والدعة التي كان يرى فيها مصدرًا للحياة الطفيلية.
وقد كتب عام ۱۸۹۰م مقالًا بعنوان: «الخمر» يستنكر فيه تعاطي المشروبات الكحولية.
القناعة والزهد
يستوقف تولستوي تحذير الإسلام من الإغراق في شهوات الدنيا، والدعوة إلى الاعتدال والبعد عن الترف والتذكرة بالحياة الآخرة، فيجد في هذه المبادئ صدى لأفكاره وقناعاته الذاتية ورؤيته للحياة، فقد كان على اعتقاد بأن أحد مصادر غواية الإنسان انجذابه نحو مناع الدنيا ويستشهد بأحاديث الرسول ﷺ التي تدعو إلى الزهد والقناعة تأكيدًا منه لهذه المعاني التي كان يدعو إليها في كتاباته، ومن هذه الأحاديث:
«انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم».
زهد تولستوي في الدنيا الفانية وتنازل عن ممتلكاته الواسعة وأراضيه الشاسعة واكتفى منها بمنزل تحيطه حديقة وقطعة أرض يستغلها بنفسه، ويقضي سحابة يومه في الاشتغال بها ليستثمرها، ويتقوت من محصولها، وعدا ذلك فإنه يخيط ملابسه وحذاءه أنه يتحتم على الناس العمل الذي هو الوسيلة الوحيدة التي تبعدهم عن الشر وارتكاب الموبقات.
العدالة: تستوقف تولستوي دعوة الإسلام إلى العدل الذي يحقق الإنصاف بإعطاء كل إنسان ماله وأخذ ما عليه منه ويزخر الإسلام بالآيات القرآنية والأحاديث التي تدعو إلى تحقيق العدالة ومقاومة الظلم، ووجدت هذه النصوص صدى في نفسه لأنه كان يحلم بمجتمع المساواة الذي يجد فيه كل فرد حاجته ومن ثم راح يبحث عن أسباب الظلم الاجتماعي وترك العنان لأفكاره وتأملاته.
ولم تكن ملكية الأرض في رأيه السبب الوحيد وراء اللاعدالة، بل كان السبب يكمن أيضًا في حب الثروة والجاه، لذا هاجم بشدة عبودية المال، وقد ظهر هذا الاتجاه واضحًا في مقاله «إذن ما العمل»؟ ففي هذه الدراسة تصوير مؤثر للشقاء والفقر والرذيلة السائدة في المجتمع الروسي وهاجم في عنف النقود بصفتها أحد أشكال عنف القوي على الضعيف أسطورة تهديم الجحيم وإعادة بنائه، «يندد بالحكام ويتهمهم بالسرقة والنهب وسفك الدماء وبأنهم يسيرون بمشيئة الشيطان وليس بمشيئة الله فقلوبهم مليئة بالكبرياء والانتقام والبغضاء والكنيسة تدعم الحكام وتقف ضد الشعب البسيط وضد كل من يطلق صرخة الحق».
وللتغلب على سلطة المال أخذ يوزع ثروته يمينًا وشمالًا، معتقدًا أن ما يفعله ليس من سبيل صنع الخير، بل كي يصبح أقل ذنبًا، وقد قابلت زوجته تصرفاته هذه بالسخط، ولم تستطع فهم رغبته الشديدة في التخلص من ثروته وأملاكه، وحاولت أن تثنيه عن هذا العمل مؤكدة أنه من الضروري تنظيم عملية الإنفاق بشكل أو بآخر، وذلك عن طريق معرفة لمن ولما تعطى النقود؟ إلا أن تولستوي كان يجيبها تعطى لمن يطلب.
المحبة والتكافل الاجتماعي
أعجب تولستوي بدعوة الإسلام إلى المحبة والتآزر ومساعدة المحتاج، ومد يد العون للأقارب والجيران والأصحاب وإلى كل ملهوف أو مكروب، ويبدو أنه حاول على طريقته أن يطبق فكرة الصدقة والإنفاق الإسلامية حين قرر أن يتنازل عن ثروته وضياعه للفلاحين وهي الخطوة التي رآها حلًا لتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق المحاولة الشخصية الذاتية أو ثورة الربح كبديل لأسلوب الثورة الذي كان يرفضه كحلًا للمشكلات الاجتماعية إيمانًا منه بأن التغير الحقيقي يبدأ من داخل النفس الإنسانية أولًا.
السماحة في الإسلام
كان تولستوي يعتقد بإمكانية حل مشكلة التناقضات الاجتماعية من خلال دعوة الظالم إلى التخلي عن ظلمهم وثرائهم، أما المظلوم فقد كان يدعوهم إلى عدم الرد على العنف بالقوة ويستوقف إهتمامه الآيات وأحاديث الرسول ﷺ التي تدعو إلى التسامح وعدم الإساءة بمثلها:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ( فصلت: 34-35).
ويعتبر موضوع التسامح الديني من أهم الموضوعات التي شغل بها تولستوي المفكر وبها برهن بشخصيته على هذه السماحة وقدم القدوة الحسنة في التسامح، حين أنبرى يعرّف قوته بالفكر الإسلامي وبسيرة الرسول ﷺ.
وربما تكون سماحة الإسلام نقطة البداية التي بدأ منها تولستوي التعرّف على الإسلام والدعاية له، ففي كتاباته عن الإسلام توقف بشكل خاص عند سماحة الإسلام بقوله: «لم يكن محمد يعتبر نفسه نبي الله الوحيد، بل كان يعترف بموسى والمسيح، ودعا قومه إلى هذا الإعتقاد أيضًا، وقال إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم»، ويستشهد بالآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) كي يؤكد دعوته للتسامح والتعايش السلمي، وهي الفكرة التي ميزت كتاباته.
وفي عام ١٩٠١م صدر قرار المجمع المقدس بحرمان تولستوي من الكنيسة ونشر القرار في جريدة «أخبار الكنيسة»، وجاء فيه:
«وفي أيامنا هذه ظهر معلم كاذب هو تولستوي وقد أنكر علانية أمام الجميع أمه الكنيسة الأرثوذكسية التي هذبته وثقفته، وكرس جميع مواهبه وقواه العلمية لنشر التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة ليزيل من عقول الناس وقلوبهم إيمان آبائهم وهو ينكر الله الحي في الثالوث الأقدس ويذكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان».
الرحيل
لم تكن السنوات الأخيرة من حياة تولستوي سنوات راحة وهدوء فقد آلمه سوء الأحوال في بلاده ودفعه ذلك إلى أن يذيع في الأوروبية رسالته الحزينة التي بدأها بقوله:
«لا أستطيع التزام الصمت أكثر من ذلك»، ونصح فيها القوم في روسيا باتباع طريق الخلاص، بالامتناع عن الكراهية وحب الانتقام، ولم يكن كذلك راضيًا عن حياة أسرته وإسراف زوجته وتاق إلى الفرار من الدار، ولكنه كان يتحاشى الإساءة إلى زوجته، ورأى أخيرًا أنه لا بد له من فترة هدوء قبل أن يواجه مصيره المحتوم، ففر من داره في إحدى ليالي الخريف في صحبة أحد أصدقائه المخلصين، ولم تتحمل شيخوخته برودة الجو الممتلئ بالثلوج ووعثاء السفر، فاضطر إلى التوقف عن السير في منزل ناظر إحدى محطات السكة الحديدية، وقضى نحبه في ذلك المنزل المتواضع عام ۱۹۱۰م، وكان لنعية دوي هائل في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، فقد كان الرجل من أوفى أصدقاء الإنسانية، ومن أقدر الكتاب والمؤلفين من الناحية الفنية.
------------------------------------
المراجع
تراث الإنسانية، دار الرشاد الحديث.
تولستوي مقدمة نقدية كريستيان، ترجمة عبد الحميد الحسن.
الرواية الروسية في القرن التاسع عشر، مكارم الغمري.
مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي، مكارم الغمري.