العنوان ثورة حقيقية... نحتاجها
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-1972
مشاهدات 17
نشر في العدد 111
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 01-أغسطس-1972
أنطلق دائمًا في آرائي من إیمان مطلق بانحطاط النعرات الجنسية التعصبية، لكنني -مع ذلك- أؤمن إيمانًا كاملًا بأن دورًا هامًا ينتظر ما يعرف بالأمة العربية، وأؤمن بأن أي حركة إحياء للحضارة الإسلامية تتجاهل الأمة العربية هي حركة مبتورة تفتقد أبرز أسلحتها..
هي قضية منطقية أثبت التاريخ صحة نتائجها..
«في عزة الإسلام عزة للعرب، وعند سقوط العرب لا يبقى لهم من طريق نجاة غير الإسلام».
فقط أن تظهر القيادة الحضارية التي تستوعب حضارة الإسلام، وفقط ان تنجح هذه القيادة في لم شعث الأمة العربية.
لكن هذه الأمة العربية -في تاريخها الحديث- أمة تائهة بيقين، أمة مغزوة فكريًا وعسكريًا واقتصاديًا، منطقة فراغ يتسابق عليها كل شذاذ الآفاق في الأرض، أمة تتسنم ذروة آخر درجات السلم الحضاري وهي مكبلة لا تستطيع عنه حولا، فكيف لهذه الأمة التي كانت قائدة الأرض، والتي صارت هوانًا على التاريخ أن تعود من جديد -أمام إفلاس الحضارات المعاصرة- لتقود ركب البشرية إلى الطريق القويم؟
• هل تحتاج هذه الأمة إلى ثورة علمية؟ . . . . نعم.
• هل تحتاج هذه الأمة إلى ثورة اقتصادية؟ . . . نعم.
• هل تحتاج هذه الأمة إلى ثورة اجتماعية ؟ . . . نعم.
. . . لكن قبل ذلك وبعده . . .
تحتاج هذه الأمة إلى «ثورة فكرية» تحدد بها أبعادها التاريخية واستشرافاتها المستقبلية . . . نعم تحتاج هذه الأمة إلى «ثورة فكرية» تستعيد بها بناء كيان الفرد الحضاري الذي تهدم، وبناء الكيان الاجتماعي الذي أصبح لبنات متناثرة لا تنسجم كل منها مع الأخرى.
ثلاث عشرة سنة كان لا بد من أن يقضيها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يبني بها الإنسان العقائدي . . . حتى إذا ما انتقل الرسول إلى مرحلة «بناء الدولة» في المدينة؛ التحمت اللبنات الإسلامية المعدة عقائديًا في أروع وأسرع عملية التحام أو «إخاء» عرفها التاريخ . . .
من غير مرحلة بناء الإنسان العقائدي لا يمكن أن تبدأ الأمة العربية مسيرتها التاريخية، وهذا يتطلب تحديدًا جديدًا لمصطلح «الثورية» و«الإنسان الثوري».. كما يتطلب نظرة جديدة إلى «الفرد» وإلى «العلاقة» التي تربطه بالمجتمع.
إن هناك فرقًا كبيرًا يلزم إيضاحه هنا بين الإعداد للانتصار في معركة وبين الإعداد لبناء أمة، وربما اندفعت الجماهير تحت راية كلمات حماسية نحو عمل مؤقت لكن إرساء دعائم حضارة يحتاج إلى تغيير في النفسية من الداخل؛ لكي تنمو البذور الحضارية في مناخ سليم، ولكي تضطرد عملية الإثراء وتزدهر.
لقد حاولت حكومة أمريكا منع الخمر في غضون العشرينات من هذا القرن، واستعملت جميع الوسائل الحديثة الدعائية، وأنفقت في ذلك ما يزيد على ٢٥٠ مليون دولار، ونشرت من الكتب والنشرات ما يزيد على ۱۰ ملايين صفحة، وأعدمت مئات، وسجنت عشرات الألوف، ومع كل ذلك فقد فشلت كل هذه المحاولات واضطرت الحكومة سنة ۱۹۳۳ إلى سحب القانون..
وبالطبع فالخمر، إحدى سمات المدنية الحديثة وإحدى عوامل هدمها، وحقيقة فإن التفوق المادي والعلمي يستر كثيرًا من أعمال السقوط الأخلاقي، ويبطئ مفعولها في انهيار المجتمع الأوروبي والأمريكي لكنها ـفي النهاية- لا بد من أن تؤدي دورها في هدم هذه الحضارة المنحلة...
أطرح إلى جانب هذه الصورة التي حدثت في القرن العشرين والتي فشلت فيها أرقى حكومات المدنية الحديثة صورة أحرى حدثت في غضون القرن الأول للهجرة: «القرن السابع الميلادي»؛ حين نزل القرار الأخير بتحريم الخمر كليه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ – إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾( المائدة ٩٠ـ٩١)
فدوت في أرجاء المدينة أصداء كلمات الصحابة «انتهينا يا رب».
ولقد نزل التحريم وإن الكؤوس لتقترب من شفاه بعضهم فحال أمر الله بينهم وبينها، فسالت بها طرقات المدينة، وكسروا بأيديهم دنان الخمر، نعم سالت طرقات المدينة بالخمر، وانتهى المسلمون عنها دون ۱۰ بلايين صفحة، و ٢٥٠ مليون دولار وإعدام المئات وسجن عشرات الألوف..
أي منهج إذن يليق بالأمة العربية ؟..
لا شك في أن الأمة العربية والأمة الإسلامية قد جربت الطريق الجزئي في الإصلاح، وبالطبع لا مراء في أن الفشل كان خاتمة المطاف في كثير من الإصلاحات الجزئية التي قامت بها، ولا مراء في أن طريقًا واحدًا لا يزال هو الأقدر على بناء حضارة..
لندع الخمر.. الزنا، السرقة، البطالة، الرشوة، البخل والإسراف، الأنانية، الجهل والأمية، الفقر والركود والتخلف، لندع عشرات الأمراض التي تعج بها المجتمعات العربية والإسلامية، ولنسأل: كم من السنوات والإمكانات والجهود يحتاجها إصلاح كل عيب من هذه العيوب؟ لكن عندما ننطلق من: «أيديولوجية إسلامية نزاعة إلى التغيير» سوف لا نحتاج إلى كل هذه الإمكانات والجهود والسنوات، وفقط سنبني فردًا ومجتمعًا يرسم بعرقه ودمه صورة حضارة مادية روحية جديدة.
الرجل الذي سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، فلم يملك إلا أن قال: «وكيف أنصره ظالمًا»؛ فقال له عليه السلام: «تمنعه من الظلم فهذا نصرك إياه».. هذا رجل اشتعلت في أعماقه «ثورة فكرية».
الأعرابي الذي أسلم، فلما كانت خيبر قسم له الرسول من المال؛ فرفضه وذهب إلى الرسول يقول له: ما هذا؟ قال الرسول: قسم قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرم ها هنا «وأشار إلى حلقه بسهم» فأموت فأدخل الجنة.
هذا رجل اشتعلت في أعماقه ثورة فكرية.
«ماعز» الذي ذهب إلى الرسول ثلاث مرات يطلب الموت لأنه زنا و«الغامدية» التي فعلت كما فعل ماعز... هذان كذلك اشتعلت في أعماقهما ثورة فكرية.
الرجل الذي قال لعمر وهو على المنبر «لا سمع ولا طاعة»، هذا أيضًا تشتعل في أعماقه ثورة فكرية.
«ربعي بن عامر» الذي داس بفرسه طرف بساط رستم، ثم نزل وربط فرسه ببعض الوسائد، ورفض أن يضع سلاحه أمام رستم، ودوت كلماته في وجه رستم: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سمعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»، ربعي كذلك رجل اشتعلت في أعماقه «ثورة فكرية».
ومرة ثانية: أي قالب حضاري أجدر بالأمة العربية والإسلامية؟ وأيها كذلك مضمون الفعالية والتأثير متفق مع ظروفها التاريخية ووضعياتها الحياتية ونفسية الجماهير؟
وحين نختار طريقًا آخر: أین الضمانات الكفيلة بالنجاح؟ ولماذا لم تنجح الطرق الأخرى سلفًا؟ لربما استطاعت الطرق الأخرى أن تجد بعض الناعقين، وأن تجد نفسها متمركزة في أدمغة بعض أدعياء الفكر، لكن أبدًا لم تنجح قشرة جديدة تريد أن تفرض نفسها على جسم هي غريبة عنه، وأبدًا من كل أعماق أعمق الهزائم انطلق ضمير الأمة الإسلامية يبحث عن الإسلام.
إن كثيرين يخطئون إذ يحسبون أن المعركة في العالم الآن تنحصر في دائرة الاقتصاد والسلاح، أبدًا، فالمعركة معركة حضارية وروسيا وأمريكا تعولان شعوبًا كاملة -الآن- من أجل غزو «حضاري»، والصهيونية التي نحاربها هي عقيدة متعصبة طائفية، هاجرت من أرقى بلاد العالم؛ حيث كانت تمتلك أكثر ثروات العالم لتعيش في بلاد بدائية متخلفة وتصنع منها -من جديد باسم العقيدة- حضارة يهودية عصرية.
ليس هناك إلا حل واحد للأزمة العربية، نعم.. ليس هناك إلا الإسلام..
لقد طفت على سطح الواقع العربي مناهج حياة كثيرة سطحية، لكن الذين استطاعوا أن ينظروا إلى الأعماق قد وجدوا المنهج الوحيد القادر على الابتعاث، إنه المنهج الذي وحد الأمة العربية، وأخرجها من العدم إلى الوجود الحقيقي، الوجود الذي انبنى على الفكر وقدرته على خلق الثورة في جميع الأبعاد وعلى مختلف المستويات..
ونحن في حاجة إلى البحث عن العناصر السليمة في تاريخنا الطويل بما فيه من هزائم وانتصارات، وما فيه من أيام لنا وأيام علينا، وما فيه من معتقدات كانت ملجأنا وقت الشدة، وما فيه من تقاليد صالحة؛ لنستخلص من جميع ذلك القاعدة الأساسية التي انبنى عليها فكرنا، ومن هذا الفكر الضارب في أعماق التاريخ؛ تنطلق ثورتنا لتفتح الآفاق الواسعة عبر الزمان والمكان اللذين تملكهما الأمة العربية الحية، الأمة العربية التي بعثها القرآن في فترة من فترات التاريخ، والتي علينا أن نعيدها وأن نعمل للحياة من أجلها إذا أردنا أن ننتصر في هذه المعركة التي نخوضها؛ دفاعًا عن أبسط قواعد الحياة وأبسط أصول الشرف، وأبسط مبادئ الرجولة والكرامة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل