العنوان جابر رزق.. شمائل لا تنسى ومواقف لا تغيب
الكاتب السيد نزيلي
تاريخ النشر السبت 21-يونيو-2008
مشاهدات 14
نشر في العدد 1807
نشر في الصفحة 34
السبت 21-يونيو-2008
كان مدرسة خاصة في الصحافة الإسلامية.. ومثقفا ملتزمًا بدعوته... قاسى الأهوال في سجون عبد الناصر
كتب صحفي نجيب في أثناء انتخابات نقابة الصحفيين الأخيرة يقول، وهو يقدم الأخ الفاضل أحمد عز الدين: إنه تعلم الصحافة في مدرسة جابر رزق (*) الصحفية في مجلة «الدعوة»، أحسست بفرح شديد، وسعدت بهذا الوفاء النادر الذي ما زال يسكن جوانح جيل كبير تربى في هذه المدرسة الإسلامية، رغم مضي عشرين عاما على وفاة جابر رزق.
نعم جابر رزق كان مدرسة خاصة في الحياة الصحفية في مجال الكتابة الإسلامية، يسير على درب عبد المنعم سليم، وأنور الجندي، والجميع كانوا تلامذة في مدرسة الإمام الشهيد حسن البناء.
ولد جابر رزق في قرية كرداسة عام ١٩٣٦م، في بيئة ريفية، ولم يكن كأقرانه إنما كان طرازًا آخر، كان عنده أفق واسع. وخيال خصب، ونزعة أدبية بادية في كلامه وأحاديثه وكتاباته منذ صغره كان مشروع أديب عظيم ومثقفًا موهوبًا، ونضج المشروع واستوى على سوقه بعدما كبرت سنه، وشارك في الحياة العامة، وساهم بقلمه وفكره في القضايا الأدبية والثقافية التي كانت تحتدم في ذلك الحين، فكان نعم الكاتب والمثقف الملتزم بدعوته المعبر عن مرجعيته وهويته.
جمع- يرحمه الله- منذ صغره بين الدراسة في التعليم الأولي وبين حفظ القرآن الكريم في الكتاب مما انعكس على سلامة لسانه وصحة لغته العربية ونضج تعبيره وبيانه، وكانت آماله وطموحاته لا حدود لها، ولا تقف عند سقف معين فلم يكن خاملاً مستكينا، يرضى بالواقع المحدود الضيق الذي يعيشه أهل الريف إنما كان يحلق في آفاق رحبة وساحات شاسعة من الخيال الواسع والطموح الوثاب وكان يجاهر دائما بأنه يريد أن يكون كاتبًا صحفيًا، يكتب ويحاور، ويناقش، وأبعد من ذلك يجوب الدنيا كلها بلدًا بلدًا ومدينة مدينة، كنا نحن أحبابه وأقرانه وإخوانه نستغرب منه هذا الانطلاق، وهذا التحرر من الواقع الراهن المحدود إلى أفق أوسع وحياة أفضل وأمال أعرض، ولقد تحقق له ما أراد، ووقع ما تمنى إذ بمجرد أن تخرج في معهد المعلمين بحلمية الزيتون، وكان نظامه سبع سنوات بعد الابتدائية، حيث تخصص في دراسة اللغة الفرنسية ليصبح مدرسا لهذه اللغة فور تخرجه في المدارس الثانوية، ما إن تخرج في هذا المعهد حتى شرع في الحصول على الثانوية العامة بسرعة التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم صحافة، وتخرج بفضل الله عام ١٩٦٤م، وتم تعيينه صحفيا بمجلة الإذاعة والتليفزيون، وهنا تحقق له ما أراد ووصل إلى ما يطلب ويريد.
ومع بداية الخمسينيات من القرن العشرين تعرف على دعوة الإخوان المسلمين في شعبة «كرداسة» تفاعل مع مبادئ هذه الدعوة، ووجد فيها ضالته وأشربت نفسه تعاليمها، وأهدافها، وتمثلها في واقع حياته وكأنه وجد نفسه فيها وبها، يقول- يرحمه الله- في كتابه القيم مذابح الإخوان في سجون «ناصر» ص ٤١ «ولكن ربنا سبحانه وتعالى نفع هذه القرية بدعوة الإخوان المسلمين، فقد زارها في الأربعينيات الإمام الشهيد حسن البنا، وأقيمت بها دار الإخوان الشعبة، وضمت خيرة أبناء القرية، وعلى رأسهم الشيخ عثمان عبد الرحمن عثمان- يرحمه الله- نائب الشعبة وعالم القرية الفذ العالم المجاهد المبتلى الصابر جزاه الله عن القرية خيرًا».
ولقد كان لدعوة الإخوان بصماتها الطيبة على كل شباب مصر الإسلامي يقول جابر في كتابه: «لقد جاء الوقت في أوائل الخمسينيات كان كل شباب القرية- بصفة خاصة الطلاب- من الإخوان المسلمين وصبغتهم الدعوة جميعا بصبغة إسلامية واحدة، كانت دعوة الإخوان وما بثته من قيم أخلاقية إسلامية حصنا للطلاب وللشباب في القرية من التردي في الانحراف، ولا يزال الجيل الذي تربى في شعبة الإخوان بقرية كرداسة يتميز بأخلاقه وعلمه ورجولته عن الأجيال اللاحقة، عن أجيال ما بعد انقلاب يوليو!! والفضل في ذلك للمنهج التربوي لجماعة الإخوان المسلمين والذي كانت تربي عليه الشباب».
وينقشع ظلام السجون والاضطهاد عن فجر جديد وصبح مشرق للدعوة بإذن الله فقد تتابعت المحن والاعتقالات.. صحيح أنه قد أنقذه الله- ونحن معه- من محنة عام ١٩٥٤م، لكن إرادة الله عز وجل نفذت واستمسك بدعوته عاملًا مجاهدًا، حتى شاء الله له أن يكون أحد الكرام الأطهار الذين نالهم حظ وافر من الظلم والاستبداد والقهر والتعذيب الوحشي في محنة ١٩٦٥م. وهنا يذكر جابر في كتابه، وهو يتحدث عن أحداث كرداسة بلده ص ٥٤: «كانت كلمة كرداسة داخل السجن الحربي كاللعنة، تجلب العذاب الرهيب إلى أبنائها، كان المحققون مع أحمد عبد المجيد، وهو من أبناء كرداسة يصرفون له عشرين سوطا عن كل مرة يذكر فيها كرداسة، وأنكرت أنا أنني من كرداسة عندما دخل على الزنزانة حمزة البسيوني وسأل كل من في الزنزانة عن أسمائهم وأسماء قراهم، وكان قد قبض علي صباح يوم الأحد، وهو ثاني أيام الحادث، ولم أكن أعلم، ولكن عندما أدخلت على بعض الإخوان وعرفوا أنني من كرداسة رووا لي ما حدث لأبناء قريتي داخل وخارج السجن الحربي، وأقنعوني ألا أذكر أنني من كرداسة فلما دخل «حمزة البسيوني»، وكان أشهر جلاد في عهد عبد الناصر، وسألني عن اسمي، وعن قريتي قلت له: أنا ساكن في شبرا !! وربما أنا الشخص الوحيد الذي لم يصبه أي أذى بسبب قريتي «كرداسة».
في محنة السجن كانت روحانيات جابر عالية شفافة رقيقة وصلته بالله عز وجل- قوية متينة دائم الذكر دائم التسبيح والاستغفار، لا يقضي وقته إلا فيما يفيد وينفع، فالعبادة وتلاوة القرآن وحفظه وتجويده، كل ذلك وما إليه لم يترك له وقتاً يقضيه في غير فائدة ولا طائل من ورائه وكان يتميز بذلك طوال مدة العقوبة المحكوم عليه بها والتي وصلت إلى تسع سنوات.. انظر إليه وهو يحكي في ص ٩٠ من كتابه كيف أنه حصل على بعض أجزاء من المصحف من الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، أمد الله في عمره وبارك للدعوة فيه فهو ما زال يعيش لدعوته واعيًا ناصحًا، رغم أنه قارب التسعين من العمر، يقول جابر: «أعطاني أكرمه الله من سورة الفاتحة حتى آية ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ (التوبة: ٤٦). وكان ما يقرب من ثلث القرآن كنت بعد أن أفرغ من الخلاء، أعود وقد توضأت فأجلس لأتلو هذه الأجزاء، وكنت أقرأ هذا القدر كله كل يوم، وأحسست أن القرآن بحق كما وصفه ربنا رحمة ونور وهدى وحياة للقلب كان جليسي في وحدتي... إلخ».
كان جابر- يرحمه الله- ذا حس إيماني مرهف، وسمو روحي شفاف، طاهرًا قلبه زكية نفسه، انظر إليه في ص ٩٥ من كتابه وهو يقول: «وقبل أن أترك الحديث عن زنزانتي الأولى أقول: إنني في هذه الزنزانة تلقيت درسين مهمين الأول هو أن باب الإيمان، هو الطاعة لله، وكلما ازدادت الطاعة لله ازداد إيمانك، وهذه حقيقة كانت خافية عني خارج السجن، لقد كنت أظن أن الإيمان هو الاقتناع العقلي، ولكن تبين لي أن حقيقة الإيمان ليست مجرد الاقتناع العقلي، فالاقتناع العقلي جزء من الإيمان، ولكن الإيمان الحق أمر أكبر من مجرد عمل العقل فالإيمان أمر يحسه قلب الإنسان بل أقول كينونة الإنسان بما فيها العقل، أما الدرس الثاني فهو الاستسلام لأمر الله، والتوكل عليه والركون إليه والثقة فيه، والأمان إلى جواره، كل هذا ما تعلمته من عمي حسب النبي خير الدين، وكان من إخوان المحلة الكبرى عامل نسيج أميا ولكن كان فهمه وإيمانه وحبه لدعوته يعدل أعدادًا كبيرة من الرجال».
كان يتألم بألم إخوانه، إحساسه مرهف تجاههم يشفق عليهم فهو يتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وحدة مشاعر المسلمين والمشاركة الوجدانية في أفراحهم وأحزانهم وأنهم كالجسد الواحد، يقول- يرحمه الله في ص ٩٨ من كتابه «واذكر أنني وقفت يوما أنظر من نظارة زنزانتي وقت خروج المعذبين للغيار على جراحاتهم، فلما رأيت سيد نزيلي، وكمال الفرماوي، وهما من قريتي كرداسة، وكان قد عذبا عذابا شديدا. انفجرت في بكاء حاد وبصوت عال حتى خاف من معي في الزنزانة فطلبوا مني خفض صوتي حتى لا يسمعني الحارس وتكون مصيبة!!».
وبعد ...
فهذا جزء يسير جدًا من أخلاق وشمائل جابر رزق، ولا أستطيع أن استقصي كل ما تميز به من صفات ومآثر في هذه العجالة السريعة، وحسبي أن أقول: إنه عاش لدعوته وأعطاها وقته وعمره، وأنه كان راضيا بذلك سعيداً به، وأسأل الله أن ينزله منازل الصالحين، ويتقبل صيره وجهاده، وأن يلحقنا به في الجنة على سرر متقابلين، في مقعد صدق أمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل