; جريمة الغرب الكبرى ضد مسلمي "البوسنة والهرسك".. الدور الأمريكي | مجلة المجتمع

العنوان جريمة الغرب الكبرى ضد مسلمي "البوسنة والهرسك".. الدور الأمريكي

الكاتب د. أحمد يوسف

تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993

مشاهدات 13

نشر في العدد 1053

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 15-يونيو-1993

في كتابه القيم الذي صدر حديثًا بعنوان «الانفلات: الهيجان العالمي في مطلع القرن الحادي والعشرون» كتب "بريجنسكي" المستشار السابق للأمن القومي، يقول: «في العقد الأخير من القرن العشرين يبدو الموقف الأمريكي في القضايا الدولية ظاهر التناقض..  فمن ناحية تقف الولايات المتحدة على القمة في عالم اليوم، لا تجرؤ على مواجهتها قوة، ولا تحاكي قدراتها العالمية الشاملة دولة أخرى. هذه العالمية المتفردة بها تجسدت في أربعة أبعاد هي: 

  1. القدرة العسكرية الواسعة الانتشار. 
  2. التأثير الاقتصادي الدولي. 
  3. سيادة المفاهيم الثقافية والأيديولوجية. 
  4. النفوذ السياسي القوي. 

إلا أننا إذا نظرنا إلى المسألة من ناحية أخرى وجدنا أن المحتوى القيمي للرسالة الأمريكية للعالم باتت تهدد بإضعاف هذا الدور الخاص الذي اكتسبته أمريكا في قيادتها العالم». 

وإذا حاولنا بالقراءة المثانية للكتاب استخلاص ما يرمى إليه "بريجنسكي" من ذلك، فإننا يمكننا الإشارة إلى المعاني التالية، وهي: أن مصداقية الخطاب الأمريكي الأخلاقي في شجب العدوان، والوقوف إلى جهة الحق الإنساني العادل قد أصابتها بعض الطعون، وخاصة فيما يتعلق بمحنة المسلمين في "البوسنة"، بالإضافة إلى أن حسابات المصالح تطغى دائمًا على أي اعتبارات أخلاقية أخرى.  وهذا في حد ذاته عامل تحجيم لمستويات الثقة بالأخلاقية الدولية، وبالتالي بمصداقية أي نظام دولي تتواضع البشرية على احترامه.  والنظام الدولي الجديد لا يبعد كثيرًا عن دائرة الطعن والاتهام، وإن كانت وفاته لم تتكامل فيها بعد إجراءات الطرد والنفي والغياب، وإن الحديث الذي غلب على ألسنة السياسيين بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة كان نظام دولي جديد تسود فيه قيم العدالة ورد العدوان، واحترام هيبة المنظمة الدولية، ومنها صلاحيات القوة لفض النزاعات واحتواء الصراعات وإحقاق معايير الشرعية الدولية، وإذا كانت لحرب الخليج الثانية فرصة ناجحة للاختبار، إلا أن ما يجري في البوسنة هو انتكاسة تعكس حالة التداعي والسقوط لهذا النظام، ورما تكشف عن خبث النوايا وتبادلية المصالح التي تربط شبكات «الاستعمارية» الدولية التي بيدها ترسم الخرائط وتحريك أقدار الشعوب. 

ولعل فيما قاله "يوسف بارين"، وهو عضو كبير في لجنة العلاقات الخارجية الأمريكية بتاريخ «١١مايو» ما يتم عن شيء مما نقوله؛ حين اتهم موقف الحكومات الأوروبية بشأن العدوان الصربي باللامبالاة والجبن، وخداع النفس والرياء. 

وأقوال أخرى مشابهة صدرت عن رسميين أمريكيين تشجب سلبية الموقف الأوروبي وغلبة المصالح والأحقاد التاريخية فيه، فقد أكد الرئيس «كلينتون» بأن الغرب قد أضاع خلال العامين الماضيين فرصًا عديدةً للقيام بخطوات مبكرة وفعالة، كان يمكن أن تمنع النزاع من أن يزداد سوءًا وأن إشارة مبكرة وقوية كان من الممكن أن تكون قد منعت الكثير من العدوان وإراقة الدماء والتطهير العرقي، إلا أن واقع تحالفات وحسابات مرحلة الحرب الباردة كانت غالبة؛ حيث اطمأن الصرب إلى نصرة ودعم حليفتهم السابقة روسيا في ردع الموقف الأمريكي باتخاذ خطوات عسكرية جادة ضدهم. 

الموقف الأمريكي: الحزم ثم التراجع: 

 شهدت حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية الكثير من الوعود القوية لما يتوجب عمله لوقف عمليات الإبادة والتهجير العرقي وردع الصرب في "البوسنة والهرسك"، وقد كان موقف الرئيس «بيل كلينتون» مع سياسة التسليح الجزئي لمسلمي البوسنة، والقيام بغارات جوية محددة على مدفعية الصرب الثقيلة، وكذلك مع تأمين نظام فرض الحظر الجوي في البوسنة، وهو الموقف الذي كان ينادي به الرئيس السابق «جورج بوش» إن هذه المواقف الأمريكية سرعان ما بدأت في التراجع تحت ضغوط السياسية الداخلية، وتخلي حلفاء "الولايات المتحدة" عن المشاركة في أي خطوات يمكن أن تقدُمَ عليها إدارة الرئيس «بيل كلينتون». إذا ما حاولنا أن ندرس الموقف الأمريكي من خلال التصريحات الرسمية، فإننا نجد أنه يتصف بالأخلاقية والمسؤولية وخاصة في الشهور الأربعة الأولى من بداية رئاسة بيل كلينتون، إلا أن هذا الموقف أخذ في التراجع تدريجيًّا بسبب تخلي الأوروبيين عن المشاركة في تحمل تبعيات التدخل الأمريكي المباشر، ويبدأ السياسيون في ابتلاع سيوفهم بعدما أطالوا التلويح بها في وجه زعيم الصرب «كاراد جيتش»، وأعرب بيل كلينتون بأن «هناك مهام أخرى تنتظر بلادنا تتطلب أن نكون جاهزين للدفاع عن مصالحنا عاملين مع الآخرين حيثما كان ذلك ممكنًا، واعتمادًا على أنفسنا حيثما كان ذلك ضروريًّا وسنحتاج - في هذا العصر- بصورة متزايدة إلى العمل مع عدد كبير من الشركاء المتعددي الجنسيات، وأضاف أننا لن ننفرد باتخاذ إجراءات في "يوغسلافيا" سابقًا، فالمشكلة متعددة الأطراف، وينبغي أن تكون معالجتها متعددة الأطراف، وأن هناك مصالح معنوية وسياسية وإستراتيجية لعدد من البلدان وإن هذه المشكلة هي في صميمها مشكلة أوروبية، وأن "الولايات المتحدة" لن ترسل قوات برية إلى "البوسنة" للاشتراك في عمل عسكري، وإن المشكلة تتطلب التحلي بالحكمة، والتحلي بالحكمة -كما عبر عنها كريستوفر في بيانه أمام الشؤون الخارجية بمجلس النواب في ١٨مايو الماضي- معاناة السير وفق الرؤية الأوروبية للحل وتعبئة «القوة الكاملة للدبلوماسية الأمريكية في محاولة التواصل إلى تسوية لا تعاقب الضحايا ولا تكافئ المعتدين» على حد قول مادلين البرايت ممثلة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة، وفي لقاء له مع الصحفيين أكد كلينتون أن الولايات المتحدة مصممة على العمل عبر الأمم المتحد، وأنه لا يرى فرصة للنجاح خارج هذا الإطار. 

وأشار إلى أن المحادثات التي جرت مع الأوروبيين بصدد اعتماد نهج مشترك ما زالت مستمرة، وأن واشنطن «لم تزعم -أبدًا- أنها سوف تعمل أو أن عليها أن تعمل وحدها، وهذه في النهاية مشكلة موجودة في ساحة أوروبا الخلفية». 

لقد اعترف الرئيس بيل كلينتون أنه كان مستعد لأن يذهب إلى مدى أبعد، وأن يعمل أكثر مما كانت الأمم المتحدة، أو حلفاء واشنطن على استعداد لأن يؤيدوه لكبح العدوان الصربي، وأضاف أن «الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها إيجاد حل للمشكلة، وأعتقد أن لا أحد يتوقع منا أن نعمل ذلك.  لقد كنا في حالات كثيرة أكثر جراءة وإقدامًا من الدول الأوروبية -جارات يوغسلافيا السابقة- فيما كنا على استعداد لأن نعمله» وفي رد غير مباشر على منتقدي سياسته المتعلقة بالبوسنة، أشار الرئيس "كلينتون" إلى أن على "الولايات المتحدة" أن تحتفظ بالجهاز العسكري المتفوق عالميًا في فترة ما بعد الحرب الباردة؛ لأنه «ما زلت لدينا مصالح، وما زلنا نواجه تهديدات، وما زلنا نتحمل مسؤوليات. إن العالم لم يشهد نهاية الشر» وحين استبعد القيام بدور «رجل شرطة العالم» أصر "كلينتون" -مع ذلك- على أن "الولايات المتحدة" هي زعيمة العالم، وينبغي أن تبقى، تلك هي وظيفة "الولايات المتحدة الأمريكية". 

وقد أعاد تكرار هذه اللهجة وزير الخارجية "كريستوفر" قائلًا: «إن مسؤوليات "الولايات المتحدة" في قيادة العالم لا تنازع أن مسؤوليتنا القيادية ربما هي الآن أكبر من أي وقت آخر، لأننا القوة العظمى العالمية الوحيدة». 

تعقيبات وتوقعات:

إن خلاصات الموقف الأمريكي تجاه البوسنة لا تمنحها هذه الأهلية للقيادة، فالقيادة تتطلب المبادرة والفصل وخوض الموقف؛ إلا أن محاذير انفراط عقد التحالف الغربي، والعودة إلى سياسة بناء تحالفات جديدة في "أوروبا" بعيدًا عن المشاركة الأمريكية، جعلت الأمريكيين يراجعون مواقفهم ويتأدبون في خطابهم الاستغلالي.  وهذا معناه أن الأحقاد العريقة القديمة في "أوروبا" ستظل تغلي وتشتعل حتى يسقط غطاء المرجل، وتنفلت الأقليات في صراعات لا تنتهي إلا بهالكة عظمى ما حدث خلال الحرب الكونية الأولى. إن الأحداث في يوغسلافيا -سابقًا- تثير تساؤلًا حول ما إذا كان باستطاعة دولة أن تعالج مسألة حقوق أقلياتها بالقضاء على تلك الأقليات من أجل تحقيق «النقاء العرقي». إن التوجس القائم في العالم -وخاصة بين الأقليات - هو إذا ما كان التطهير العرقي سيصبح السياسية التي ستسود مرحلة ما بعد الحرب الباردة. 

لا شك أن الولايات المتحدة حسابات ومصالح استراتيجية مع دول ذات علاقة بالمنطقة، وإن التخوفات أن تمتد جذوة الصراع إلى تلك المناطق والبلدان وعندها ستتجاوز حسابات المصالح أي أبعاد أخلاقية أخرى، وستجد الولايات المتحدة نفسها في أتون الحرب لا يمكنها الابتعاد عنها.  وهو ما عبر عنه "كريستوفر" أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بالقول: «إن الاعتبار الاستراتيجي بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو الخطر الشديد جدًّا المتمثل في احتمال أن يمتد عدوان الصرب إلى خارج حدود "البوسنة" ما لم نجد سبيلًا إلى كبحه، وأردف قائلًا: إن هناك خطرًا حقيقيًّا بأن يتسع نطاق العدوان؛ بحيث يشمل "مقدونيا" الجمهورية في "يوغسلافيا" - سابقًا - ويشمل أيضًا "كوسوفو" الجيب الاثنى من "ألبانيا"، وإن "للولايات المتحدة" التزامات إزاء حليفاتها "تركيا واليونان"، أي الدول التي يمكن أن يطالها سعار الحرب المشتعلة في "البوسنة" والمؤهلة للتوسع والانتشار في كامل منطقة "البلقان"».

الرابط المختصر :