; جلسة مع ابن القيم.. إیثار رضی الله علی رضی خلقه | مجلة المجتمع

العنوان جلسة مع ابن القيم.. إیثار رضی الله علی رضی خلقه

الكاتب أبو عبد الله

تاريخ النشر الثلاثاء 02-ديسمبر-1975

مشاهدات 12

نشر في العدد 277

نشر في الصفحة 43

الثلاثاء 02-ديسمبر-1975

أخي المجاهد في سبيل الله 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

إن أعلى مراتب الإيثار: إیثار رضي الله- عز وجل- على رضى غيره وهو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق. وهي درجة الأنبياء. وأعلاها للرسل- عليهم صلوات الله تعالى وسلامه- وأعلاها لأولي العزم منهم وأعلاها لنبينا- صلى الله عليه وسلم- فإنه قاوم العالم كله. وتجرد للدعوة إلى الله واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى. وآثر رضى الله على رضى الخلق من كل وجه. ولم يأخذه في إيثار مرضاة الله، وتبلیغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه. حتى ظهر دین الله على كل دين وقامت حجته على العالمين وتمت نعمته على المؤمنين فبلغ الرسالة وأدى الامانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال. صلوات الله وسلامه عليه.

أخي يا من تؤثر رضی الله على رضی غيره.

إن المحنة تعظم على المجاهد أولًا، ليتأخر من لبى من أهله. فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحًا. وصارت تلك المؤن عونًا. وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة. فإنه ما آثر عبد مرضاة الله- عز وجل- على مرضاة الخلق، وتحمل ثقل ذلك ومؤنته، وصبر على محنته: إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمه ومسره ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته فانقلبت مخاوفه أمانًا ومظان عطبه نجاة، وتعبه راحة، ومؤنته معونة، وبليته نعمة، ومحنته منحة، وسخطه رضى فيا خيبة المتخلفين ويا ذلة المنهيين. هذا وقد جرت سنة الله- أخي الداعية- أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته. ويجعل محنته على يديه. فيعود حامده ذامًّا. ومن آثر مرضاته ساخطًا. فلا على مقصوده منهم حصل ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل. وهذا أعجز الخلق وأحمقهم.

هذا مع أن رضى الخلق: لا مقدور، ولا مأمور، ولا مأثور. فهو مستحيل بل لا بد من سخطهم عليك. فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضى الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخطوا عليك والله عنك غير راض. فإذا كان سخطهم لا بد منه فآثر سخطهم الذي ينال به رضى الله. فإن هم رضوا عنك بعد هذا وإلا فأهون شيء رضى من لا ينفعك رضاه، ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك فإن ضرك في أمر يسير في الدنيا فمضرة سخط الله أعظم وأعظم. وخاصة العقل: احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما فوازن بعقلك. ثم أنظر أي الأمرين خير فآثره، وأيهما شر فابعد عنه فهذا برهان قطعي ضروري في إيثار رضی الله على رضى الخلق. هذا مع أنه إذا آثر رضى الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق. واذا آثر رضى الخلق لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه. قال بعض السلف: لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة. إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها. وقال الشافعي- رضي الله عنه: رضى الناس غاية لا تدرك. فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه .

أخي الحبيب: 

من المعلوم أن المؤثر لرضى الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولا بد. هذه سنة الله في خلقه. وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس والقائمين بدين الله، الذابين عن كتابه وسنة رسوله عندهم؟ فمن آثر رضی الله فلا بد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم، وغرثاهم وجهالهم وأهل البدع والفجور منهم، وأهل الرياسات الباطلة، وكل من يخالف هديه فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله، عامل على سماع خطاب.

أخوكم في الله ابن قيم الجوزية

مدارج السالكين 2/ 299- 302

الرابط المختصر :