; حياة طويلة خاضها ... حسان بن ثابت | مجلة المجتمع

العنوان حياة طويلة خاضها ... حسان بن ثابت

الكاتب أحمد محمد عبد الله

تاريخ النشر الثلاثاء 12-ديسمبر-1972

مشاهدات 24

نشر في العدد 129

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 12-ديسمبر-1972

الأدب

تقديم : أحمد محمد عبد الله

حياة طويلة خاضها ...

حسان بن ثابت

جنديًا من جنود الحق، وعلماً بارزاً من أعلام الإسلام .. دافع ما شاء له أن يدافع، ونصر الدعوة الداعية

المطي تسيل أعناقها على بطاح الصحراء الممتدة... والركب يتملى الأفق البعيد المختفي خلف الكثبان الرملية حيث تغيب الشمس عند انصرام أجلها بعد نهار كان لها فيه نصيب أو تطلع من جديد لتكون في ظهر الركب مرة أخرى . وأذن مؤذن في الجزيرة أن جبريل عليه السلام يحمل رسالة السماء إلى أهل الأرض.. فيها هدى ونور.. ومحمد بن عبد الله مبشر بهذه الدعوة وحامل لها.. وتعالت صيحات العرب من كل جانب.. هذا يدافع عن الدعوة ويصدق بها وذا ينكر ويزمجر ويحمله الغضب أن يركب المراكب الوعرة ..

ولكن دين الله بعناية الله يدخل القلوب فينيرها.. ويدخل الناس في دين الله أفواجًا ...

ولكل داع نصير.. أو أنصار من البشر ونصير القوم هنا في أرض البلاغة ومنبت الفصاحة شاعر يحرث في أرض الهجاء والمديح فيرفع أو يضع .

ويصنع الإسلام رجالًا يشيع ذكرهم في الآفاق .. ويسجل لهم الدهر في غرر صفحاته المجد والخلود.. كان خالقًا لتلك الشخصيات التي حملته لنبشر به الدنيا .. أئمة هدى .. وأعوان حق . رجال عاهدوا الله على نصرة دينه .. فكان وعد الله لهم بالنصر والتثبيت.. ووعد في جنة لا يبلى نعيمها أكلها دائم وظلها . وواجهت الدعوة المصاعب كعهد الناس الذين لا يكون لفكرهم مكان إنما تكون نفوسهم تبعًا لأهوائهم وكان الواجب المواجهة والمجابهة .. فالحق يحتاج إلى دفاع عنه .. والله بالغ أمره .. وهنا في هذه الظروف التي تحدى بها هذا الدين غرور قريش .. وتشدق البلغاء منهم .. وما يظنون بأنفسهم من تفوق ومقدرة .. كانت المعركة .. معركة الشعر في الدفاع كسلاح يعتمده المتخاصمون .. وأني للإسلام ان يكون مخاصمًا إلا لمن كان عدوًا لله ورسوله .. وهو الدين الذي يود لو دخل الناس جميعًا إلى رحابه لينالوا عزة الدنيا .. وحسن ثواب الآخرة.

وفي معركة الشعر .. كان جنود الدعوة الإسلامية يستعدون لأن يكونوا في الصف الأول لمجابهة .. وبرز من هؤلاء الشعراء كثيرون .. وخط التاريخ لهم أسماء من ذهب .. من هؤلاء من سيكون مجال حديث عنهم على هذه الصفحات .. ومنهم شاعر النبي .. وشاعر الدعوة حسـان بن ثابت.

فهو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام من بني النجار .. وأمه الضريعة بنت خالد بن قيس من الخزرج كما أن أباه خزرجي أيضًا فهو نجاري أصيل وإلى هذه الدوحة العالية ينتسب وهو من سادة قومه وأشرافهم .. أما أنه كما يعد من المعمرين ذلك لأنه كما قيل إنه عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين أخرى وهي سن تقريبية .. وحسان من أعرق قوم كانوا في الشعر فإنهم يعتدون ستة في نسق كلهم شاعر .

وحسان على ذلك ينقسم بحكم ما عاش من حياة إلى قسمين: القسم الذي أدركه من الجاهلية والقسم الذي أدركه به الإسلام فلا شك أن حياته اختلف عما كانت عليه بعد أن نقله الإسلام تلك النقلة البعيدة جنبًا إياه مزالق الجاهلية .. مبصرًا له عثرات الطريق .

فصورة حسان في الجاهلية تتجلى من شعره كما أورده الرواة وكما وضع له في ديوانه .. تلك الصورة التي نطلع عليها من خلال هذه الأشعار التي تصور حياة مليئة بما كان عليه المجتمع الجاهلي . والجاهلية التي عاشها باطلاع بسيط نجد ما كان يدور آنذاك بين الأوس والخزرج في المدينة من حروب تكاد تكون متصلة الحلقات ولهم أيام مشهورة ووقائع مأثورة وقد تجلى كل ذلك في شعر حسان فكان نصيبه نصيب وافر .. نصيب العبقري المفتن الموهوب الذي ملك الفن عليه حسه .. وقد شهد كثيرًا من حروب الجاهلية ولذلك جاء شعره عنها صادقًا ومعبرًا وكان في هذه الحروب يمثل اللسان بما له من قوة عند العرب . فهو السلاح الثاني وقيل عنه أنه تكسب بشعره في الجاهلية ووصل حبله بحبال آل جفنة ملوك الشام وكان يقيم بالمدينة عامًا ويصمد إلى آل جفنة ما لم يبلغ شعره إليه في غيرهم مدحًا كقوله يمدح جبلة بن الأيهم:

 أولاد جفنة عند قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم

بردی يصفق بالرحيق السلسل

يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الاول

وكان إلى جانب المدح شديد الهجاء حتى قيل لو مزج البحر بشعره لمزجه قال أبو عبيدة «فضل حسان الشعراء بثلاثة : كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي في النبوة وشاعر اليمن كلها في الإسلام» وتتعدد أغراض الشعر عند حسان ففي ديوانه نجد له شعرًا في الفخر والحماسة والغزل وغيره من الأغراض .

ولم يعرف عن صبا حسان وشبابه شيء من الأخبار لأنه لم يرد في كتب من سجلوا عن الأقدمين مما يفيد شيئًا عن حياته، ولكن يعاني من قاموا بدراسات حول قالوا وبحذر شديد أنه مما هو معروف لشاب في زمانه يعايش ذلك المجتمع لا بد له من أن يكون قد اتصل بلذائذ الصبا وشارك صحبه في لهوهم وجالسهم في منتدياتهم يشرب الخمر وتغني ويسمع العزف من بيض نواعم في الرياط في ندامى كرام يشتكون من سديف . ويقال إن حسانًا لم يشترك في حرب أبدًا وإنما كان لسانه سلاحه ولعل هذا من التحامل الكثير على حسان أما من يرجع إلى شعر حسان يجد الإشارات التي تدل على قرنية يقرنها بين سيفه ولسانه دائمًا وإن كان يفخر بشاعريته ويرى أن شعره ميسم على أعدائه . فهو يقول :

لساني وسيفي صارمان کلاهما

ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي

وإني ليدعوني الندى فأجيبه

وأضرب بيض العارض المتوقد

هذه خطرات من حياة حسان في الجاهلية وسنلقي ظلالًا عبارة عن حياته في ظل الإسلام بعد أن استيقن قلبه وأصبح من جنود الاسلام يدافع عن عقيدة وعن رسوله .. ينافح عن العقيدة التي آمن بما والتي أصبحت حياته الجديدة يستدفئ بها ويتلذذ بالنور الذي يغمرها .. ويقف شعراء قريش يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسان علم من أعلام الإسلام يملك السلاح المواجه فأمره رسول الله أن يرد عليهم ويقول له «اللهم أيده بروح القدس» هذا الدعاء والتوجه يدعوه رسول الله لحسان . واستمع إلى بعض هجائه لهم فقال : «لهذا أشد عليهم من وقع النبل» وكعادة حسان في هجائه لقريش ما كان يهجوه بالكفر وإنما كان يعيرها بالمثالب والأنساب وذلك لأنهم كانوا مشركين ولو هجاهم بالكفر والشرك ما بلغ منهم مبلغًا .

وديوان حسان يحفل بما له من قصائد في مدح الرسول ويتبين منها ذبه عن الرسالة والرسول وما بلغه بشعره في الدفاع عن دين الله وكم دعا له رسول الله بخير في مواطن كثيرة .

وهذه صورة من صور الهجاء والدفاع ذلك لما ضاق المسلمون ذرعا بهجاء قريش قال قائل منهم لعلي بن أبي طالب نهج عنا القوم الذين يهجوننا فقال : إن أذن لي النبي عليه السلام فعلت، فقالوا يا رسول الله ائذن له فقال المصطفى عليه السلام أن عليا ليس هناك وليس عنده ما يراد في ذلك منه .. ثم قال صلوات الله عليه : ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم فقال حسان أنا لها وأخذ بطرف لسانه وقال : والله ما يسرني به مقول بين بصري وصنعاء . قال رسول الله كيف تهجوهم وأنا منهم وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال : والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين فقال له : أئت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك فكان يمضي إلى أبي بكر ليقف على أنسابهم فكان يقول له كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة فلما سمعت قریش شعر حسان قالوا : إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة .

ولحسان بعد ذلك قصائد كثيرة يطالعها القارئ في ديوانه منها رد على قريش وجاء لها ومنها مدح للأمين إلى جانب شعره الجاهلي ... وقصيدته التي يمدح فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك قبل فتح مكة و يهجو أبا سفيان «بن الحارث بن عبد المطلب» ابن عم رسول الله وكان هجا النبي قبل إسلامه معروفة مشهورة :

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخير كما الفداء

إلى أن يأتي إلى ختامها فيقول :

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدره الدلاء

وله في مدح الرسول عليه السلام أيضًا:

وأحسن منك لم تر قط عيني

وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرءا من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

ومن أمثلة دفاعه عن النبي أن وفدًا من تميم جاءوا الرسول وفيهم خيرة الشعراء ومن ضمنهم الزبر قان بن بدر فأنشد الزبر قان قصيدة فخر فأمر الرسول شاعره أن يجيبهم فقال :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله الأمر الذي شرعوا

إلى أن يقول :

أكرم بقوم رسول الله قائدهم

إذا تفرقت الأهواء والشيع

وحسان من أصحاب المذهبين وله

في ذلك مذهبه التي مطلعها :

 لعمر أبيك الخير حقا لما نبا

على لساني في الخطوب ولا يدي وبعد وله مراث في الرسول الكريم تتضح فيها المعاني الاسلامية اتضاحًا على نحو ما يلقانا في مرثيته التي يقول فيها:

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يفقد

كما أن له مرات كذلك في الصديق

والفاروق وهي من بدائع شعره .

 بعد هذه الحياة الطويلة المليئة التي خاضها حسان جاهليا نصف عمره ومسلمًا نظيفًا نصفه الثاني .. جنديًا من جنود الحق وعلمًا بارزًا من اعلام الاسلام .. دافع ما شاء له أن يدافع ونصر الدعوة والداعية وأخلص ما وسعه جهد الإخلاص وحمل الأوسمة التي تقلدها إياه رسول الله وكفاه فخرا دعاء الرسول له .. عهد علي رضي الله عنه الذي مات فيه وقيل بل تأخر عن ذلك ولكن لم يختلفوا أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة .. رحم الله حسانًا فقد أدى واجبه وجزاه الله خير الجزاء ..

أحمد محمد عبد الله

الرابط المختصر :