العنوان حروب اليمن (حرب ١٩٩٤ م) (٥ من ٥ ) الطريق إلى عدن
الكاتب ناصر يحيي
تاريخ النشر الثلاثاء 22-أغسطس-1995
مشاهدات 39
نشر في العدد 1163
نشر في الصفحة 46
الثلاثاء 22-أغسطس-1995
للمرة الأولى تحكم اليمن إرادة سياسية واحدة وتنتهي عملية الازدواجية في السلطة
بعد مرور أقل من ثلاثة أسابيع على انفجار الحرب الأهلية في اليمن «حرب ١٩٩٤م» كان الوضع العسكري يميل بشدة لصالح القوات الوحدوية التي تمكنت خلال تلك الفترة من تشديد الخناق على قوات الحزب الاشتراكي على جميع الجبهات، حيث تم طرد الاشتراكيين وحلفائهم الجدد من محافظة «شبوة»، فيما بدأت القوات الحكومية في الزحف –ولكن ببطء– نحو «عدن» بعد أن سيطرت على عاصمة «لحج» الهامة والمجاورة لمدينة «عدن»، فيما بدأ جزء من القوات من «أبين» و«شبوه» بالزحف المشترك نحو «المكلا» عاصمة «حضرموت» التي كانت «صنعاء» تتوقع إعلان قيام دولة ثالثة فيها بعد أن تأكدت بوادر انهيار الجيش الاشتراكي في جبهة «عدن».
أما الاشتراكيون فقد ظلوا –حتى اللحظة الأخيرة– يراهنون على حل سياسي خارجي يحفظ لهم كيانهم الجديد، وكانت الأمم المتحدة هي أملهم الكبير، بعد أن تحفظت الجامعة العربية على الاعتراف بالدولة الجديدة خشية انفجار الجامعة من داخلها، وتعرضها لأزمة جديدة شبيهة بتلك التي
أعقبت الاحتلال العراقي للكويت.
سباق نحو الحسم
مع اقتراب وصول «الأخضر الإبراهيمي» - مبعوث الأمم المتحدة الخاص بالأزمة اليمنية.. اتضحت إستراتيجية طرفي الحرب، فصنعاء كانت تستعجل تقدم قواتها حتى تفرض واقعًا، يجعل الانفصال المعلن عملية غير واقعية، بينما كان الاشتراكيون يستعجلون بدء أية مبادرة سياسية تعطيهم نوعًا من الاعتراف ولو كان ضمنيا، أو –على الأقل– إيقاف إطلاق النار لمنع تقدم الجيوش الزاحفة من كل جهة نحو عدن، ولذلك ركز الاشتراكيون طوال فترة الحرب لاستثمار العلاقات الجيدة –التي أقاموها مع كثير من الدول العربية ودول العالم– ولكن دون جدوى، فقد كانت حقائق أرض المعارك تعطي إشارات واضحة عن حدوث انهيار متسارع في كل الجهات لصالح قوات الوحدة، وبد ت قيادة الدولة الجديدة –التي لم يعترف بها أحد– غير قادرة على إدارة الحرب: عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا، بينما كان أفراد تلك القيادة قد توزعوا خارج اليمن نفسها أو في حضرموت البعيدة، مما أعطى انطباعًا سيئًا عنها، وعن مصداقيتها أمام الجنود والمواطنين، ولاسيما بعد انكشاف أكاذيب الإعلام الاشتراكي عن الانتصارات المزعومة والمعارك الوهمية التي كانت إذاعة «عدن» تردد أخبارها.
وبعد شهر واحد فقط من الحرب لم يبق أمام «صنعاء» إلا استعجال جيوشها لمزيد من التقدم، بعد أن اتضح فقدان الخصم لإرادة القتال والصمود والدفاع، وللمرة الأولى يظهر جيشها قادرًا على إدارة حرب بصورة أفضل من الطرف الآخر المشهور بحسن الإعداد والتدريب
والحق أن الحرب الثالثة (١٩٩٤م) شهدت تغييرًا حقيقيًا في الموازين والظواهر الشعبية، فقد أيد اليمنيون بقوة مسعى الدولة للحفاظ على وحدة بلادهم، وتدفقت قوافل العون الشعبي بصورة لا مثيل لها.
بينما كان الاشتراكيون يعانون من هشاشة التأييد الشعبي أو اقتصاره على التمنيات فقط، رغم أنهم نجحوا إعلاميًا قبل الحرب في كسب عواطف قطاعات من المواطنين كانت معادية لهم تاريخيًّا.
وعلى مستوى النشاط الدبلوماسي، فقد تمكنت «صنعاء» من التعامل السياسي مع الضغوط العربية والدولية بذكاء مكنها من تحقيق أهدافها على أرض المعركة، وتفادي حدوث موقف دولي معارض لها.. فلم ترفض أي قرار دولي، وإن كانت قد سعت حثيثًا لفرض واقع يسمح لها بتحقيق كامل أهدافها.
كان وجود «البيض» وأبرز مساعديه في حضرموت يعني لدى «صنعاء» أن الدولة المعلنة في «عدن» ليست هي الهدف الحقيقي، فحلم الدولة الحضرمية ربما يكون أقرب إلى التحقيق، ولذلك تم تخصيص حملة خاصة
اتجهت نحو حضرموت الواسعة المساحة ومن أكثر من جهة.. بينما استمر الزحف البطيء نحو «عدن»، بعد أن وصلت قوات الحكومة إلى المناطق ذات الكثافة البشرية التي وفرت فرصًا كبيرة للتحصن والقنص، وليس سرًا أن أشد المعاناة التي لقيها الجيش الزاحف إلى عدن لم تكن في منطقة «الضالع» الحصينة ولا عند قاعدة «العند» الاستراتيجية.. بل كانت في منطقة «صيد» بوابة «عدن»، حيث استمر الزحف حوالي الشهر، وسقط فيه المئات من القتلى والجرحى والمشوهين، أما جبهة «أبين» حيث لواء «العمالقة» فقد توقفت القوات أمام حقول واسعة من الألغام ومقاومة شرسة من البر والبحر والجو.
كان الوصول إلى «عدن» –نصف مليون نسمة– يثير مخاوف من حدوث حروب عصابات في الشوارع، ولذلك غيرت القوات الزاحفة خططها، وبدأت في اعتماد الأساليب العسكرية الغربية في التطويق والاختراق من عدة جهات لتحقيق مفاجأة تشل قوات الخصم.
نجاح الزحف في حضر موت
ففي «حضرموت» نجح الزحف في تجاوز ممر ضيق كان يعيق تقدمه، فيما نجحت قوات أخرى في الالتفاف حول مدينة «المكلا» من جهة أخرى، أدى كل ذلك إلى انهيار المقاومة الشرسة للاشتراكيين، وتم دخول «المدينة» بمساعدة هامة من سكانها الذين سهلوا للداخلين دخولهم.
ولاشك أن انتزاع «المكلا» من قبضة الاشتراكيين قد أحدث سقوطًا نهائيًا لهم، فقد كان الأمر مفاجأة لم يتوقعها أحد، وخاصة أن «البيض» كان يتخذها مقرًا له.
وفي «عدن» تم الاتفاق على الزحف نحو المدينة من عدة جهات في وقت واحد، واختراقها من أكثر من جهة، وعزل مناطقها عن بعضها لتجنب حرب الشوارع.
وفيما كان الاشتراكيون يوجهون جهودهم لصد «العمالقة» القادمين من «أبين» والقوات الزاحفة من «لحج»، نجحت قوات أخرى في اختراق الخطوط الدفاعية حول عدن، واندفعت تخترق المناطق وتلتف حولها في حركات مفاجئة شلت تفكير المدافعين.
وبدأت مناطق «عدن» تسقط الواحدة تلو الأخرى.. ونجحت خطة الاختراقات والالتفاف في تحقيق أهدافها.. وفوجئ المدافعون عن مطار عدن المرهقون من القتال طوال الليل بقوات جديدة تلتف حولهم وتقتحم أسوار المطار.. فيما كانت قوات أخرى تنجح في دخول مناطق الكثافة البشرية في المدينة، وتفصلها عن المدينة القديمة التي بقيت معزولة بين الجبال السوداء العالية.
كان سقوط مطار «عدن» بداية استسلام الانفصاليين الذين ظلوا يقاتلون لمدة شهرين متواصلين بأمل أن يتعاطف المجتمع الدولي مع دولتهم الجديدة، فيما كانت «صنعاء» ترسل حتى آخر لحظة المزيد من الألوية والكتائب لحسم المعركة بعد تصاعد الانتقادات العربية والدولية لعملية دخول «عدن».
وعلى العكس مما كان متوقعًا، امتطى القادة العسكريون والمدنيون الانفصاليون كل وسيلة ممكنة، ورحلوا عن «عدن» في ليلة الخميس ٧ يوليو، فيما كانت القوات حول المدينة القديمة تعيد تجميع قواتها ترقبًا لمعركة دامية جديدة، لكن زمن الأوهام كان قد ولّى، ودخل الجيش «عدن» في عصر الخميس منهيًا بذلك أسوأ الحروب التي شهدها اليمن في العصر الحديث.
وللمرة الأولى منذ قرون تحكم اليمن إرادة سياسية واحدة، وتنتهي عملية الازدواجية في السلطة التي حكمت اليمن منذ توحيدها عام ١٩٩٠م.
وللمرة الأولى منذ عام ١٩٦٧م تستفيق عدن، فلا تجد فوقها راية للحزب الاشتراكي.
وللمرة الأولى تنتهي حرب في اليمن بتحقيق هدف توحيد البلاد، مهما كان عند البعض من تحفظات أو اعتراضات على الأساليب، فقد بقي اليمن موحدًا واحدًا... وهو الهدف الذي رفعه كل تيار سياسي شعارًا له وهو يعلن الانفصال، فقد كان المبرر أن الانفصال خطوة لإعادة الوحدة اليمنية بصورة أخرى..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل