العنوان دروس من الهجرة: التخطيط والالتزام.. وإحباط التفسير المادي للتاريخ
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 06-ديسمبر-1977
مشاهدات 154
نشر في العدد 377
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 06-ديسمبر-1977
▪ وللمرأة دورها المرموق في الهجرة العظيمة..
تطل علينا مناسبة الهجرة من مكة للمدينة، والمسلمون بأمس الحاجة لهذه الذكرى العطرة، وما حوته من دروس نافعة، وعمل دائب وتجربة رائدة، تهز المشاعر، وتحرك الأشجان، تذكرنا بما كان عليه المسلمون وما هم عليه اليوم من فرقة وتناحر، وبعد عن هدي الرسول- صلى الله عليه وسلم- بلادهم مفككة يسيطر عليها أنذال أمم الأرض، وفي كل يوم يفجعون بكارثة.. وتهتف ذكرى الهجرة في وجه المخلصين من المسلمين:
هذا هو الطريق، طريق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، دعا فأوذي، ودأب على دعوته يواصل الليل مع النهار، ويجمع بين السر والإعلان، ولا يدع مناسبة تمر إلا ويعرض فيها ما أنزله الله إليه.
ورفض المال وهو أفقر أهل مكة مالًا، ورفض الجاه ولو شاء لكان ملكًا عليهم، ومضى في طريقه ينتقل من دور لآخر، والمشركون يسيمونه وأصحابه الخسف والاضطهاد، رموه بالحجارة، طردوه من الطائف أدخلوه شعب أبي طالب، قتلوا أصحابه وهموا به لولا أن نجاه الله ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).
وبعد صراع دام ثلاثة عشر عامًا ثبت فيه المسلمون ثباتًا مشرفًا، استعلوا على كل الرغبات والمطامع لم تكن أموالهم وأجسادهم شيئًا ذا بال أمام الدعوة، وأخلصوا لله حق الإخلاص، وتجردوا له حق التجرد.
عندئذ أكرمهم الله بالنصر، وهيأ لهم إخوة في الله، وأرضًا يحكمون فيها شريعته، فجاء التمكين والنصر بعد الصبر والثبات ولا شيء بدون ثمن، ومن ظن أنه يصنع خيرًا للإسلام بدون تضحية فهو إما جاهل أو مخادع.
وهذا الدرس الأول الذي نستفيده من الهجرة.
ولنعش مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هجرته، لنتخطى هذا الواقع المادي الذي أغرق الناس ببحر الشهوات والمكاسب، فلقد صار الواحد منا مطوقًا بأعمال ومشاغل تكاد لا تترك له وقتًا يصحو فيه من هذه الغفلة، لنفر إلى الله سبحانه وتعالى، ونأخذ بعض الدروس والعبر من هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ولا نستطيع في مقال واحد أن نسجل هذا الحدث العظيم ودلالاته الواسعة.
▪ فمن هذه الدروس:
1- التخطيط والالتزام:
جاءت الهجرة بأمر من الله، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ملتزم بتنفيذه، فهي لم تكن ارتجالية، إنما خطط لها تخطيطًا بعيد المدى، وتجلى هذا التخطيط في:
- رد الودائع لأصحابها- وهم كفار معتدون- وأوكلت هذا المهمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونام في فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لإيهام المشركين أنه ما زال في البيت.
- تحديد الوقت، وتنسيق ذلك مع أبي بكر- رضي الله عنه، وكتم الأمر عن الناس، والذين على علم بالأمر لم يبوحوا بكلمة واحدة، وبعد ذلك تهيئة الزاد والراحلة.
- الاتفاق مع عامر بن فهرة أن يرعى الغنم في الطريق المؤدي للغار حتى لا يبقى أثر للأقدام.
- تهيئة الدليل الماهر عبد الله بن أريقط الليثي، وسلما إليه رحلتيهما على أن يأتيهما إلى غار ثور بعد ثلاث.
- الالتجاء للغار حتى يهدأ الطلب، ولو أن تفتيشهم وصل لباب الغار.
2- رابطة العقيدة:
الناس اليوم يتحدثون أنهم إخوان في القومية والوطنية وأنهم يقاتلون في سبيل التراب «المقدس!!» فالمهاجرون والمشركون كلهم عرب، وعروبتهم أصيلة فهم من قريش، ولم يكن المشركون أعاجم من حثالة الحملات الصليبية، فأنسابهم معروفة بينة، ولقد كانت آمالهم وآلامهم ومصالحهم وعاداتهم و..- قبل الإسلام- واحدة.
فانهارت رابطة التراب والطين أمام رابطة العقيدة والدين، وفرقت العقيدة بينهم، والتقى الأنصار مع المهاجرين في وحدة ما عرف التاريخ لها نظيرًا.
ذكر ابن إسحاق أن «أبو عزيز بن عمر» كان عند رجل من الأنصار، فقال له أخوه مصعب: شد يدك به، فإن أخته ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي، هذه وصيتك بي؟
فقال مصعب: إنه أخي دونك، وصار الأخ يقاتل أخاه والأب ابنه، وتهاوت جميع الروابط والأواصر أمام رابطة العقيدة.
3- الهجرة رد على أصحاب التفسير المادي للتاريخ:
لا يخجل ناس من قومنا أن يرددوا ترهات ماركس وأباطيله، في أن الحروب والفتوحات كلها كانت بدافع مادي، وليس الأفكار- عندهم- إلا انعكاس المادة على الدماغ.
والذين هاجروا من مكة- رضوان الله عليهم- تركوا ديارهم وأموالهم وكل ما يملكون وخرجوا يحملون أثمن ما في الوجود «الإيمان»، ليصفعوا بعملهم هؤلاء الذين يرون الحياة كما تراها البهائم، قال المشركون لصهيب بن سنان: أتيتنا ها هنا صعلوكًا حقيرًا فكثر مالك عندنا وبلغت ما بلغت ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك. فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم؛ فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب».
ولم يكن صهيب وحده الذي تخلى عن ماله، بل جميع المهاجرين فعل ذلك، فمن أخذ ماله فلقد ترك داره وأرضه وأهله، وهو الرابح بعمله لأنه فر بعقيدته.
ويتكرر الحدث في عصرنا الحاضر فالمسلمون الذين فروا من تركستان وألبانيا ويوغسلافيا- من شدة الطغيان الشيوعي- تركوا أموالهم وأرضهم وجميع ما يملكون، والحمر البشرية وحدها هي التي تقدم المادة على الدين وترى الحياة صراعًا من أجل الطعام والشراب.
4- دور المرأة:
كانت المرأة شريكة للرجل منذ بزوغ فجر الإسلام- وهكذا كانت خديجة مع الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وفي كل حادث إسلامي سجل التاريخ للمرأة صفحات ناصعة وفي حادث الهجرة نرى عائشة وأسماء يكتمان خبر الرسول وصاحبه عن المشركين، ويعجز أبو جهل أن ينتزع من أسماء كلمة واحدة فيلطمها على وجهها ويولي خائبًا.
ويصنعان لهما الطعام والشراب، حتى أن أسماء قطعت قطعة من نطاقها، فأوكت به فم الجراب، وقطعت الأخرى عصامًا للقربة، فبذلك لقبت «ذات النطاقين»، ثم تقوم عائشة وأسماء بترصد أخبار المشركين ثم نقلها للرسول- صلى الله عليه وسلم- في غار ثور بالطرق المأمونة، وهي مهمة شاقة لا ينهض بها إلا من امتلأ قلبها بالإيمان والعمل الصالح.
ولا بد للمسلمات- اليوم- أن يشاركن الرجال وعورة الطريق وصعوبة التبليغ، والخير باق في أمة الإسلام، فلقد حملت زينب الغزالي وحميدة قطب أصعب المهمات، وصبرن على ما عجز عنه كثير من الرجال.
5- إخوة الإسلام:
لقد كانت إخوة المهاجرين والأنصار إخوة ليس لها نظير عند غير المسلمين، كان ينزل المهاجر على الأنصاري فيشاطره الأخير ماله وداره، وبلغ بهم الحد أن يطلق الأنصاري زوجة من زوجاته ليتزوجها أخوه المهاجر الذي لا زوجة له، وبقي المسلمون في المدينة يتوارثون بإخوة الدين حتى أبطلها الإسلام، ذابت بينهم الفوارق، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهذبهم الإسلام فلا إخوة إلا في ظله.
ويسجل القرآن سورة كاملة في قصة «حاطب بن أبي بلتعة» تبين أن لا محبة ولا ولاء لغير المسلمين، والله يفصل- يوم القيامة- بين المسلمين والكافرين ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الممتحنة: 3).
وكان حسان بن ثابت- رضي الله عنه- خير معبر عن شعور الأنصار إذ يقول:
أهلًا وسهلًا ففي أمن وفي سعة *** نعم النبي ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها *** من كان جارهمو دار هي الدار
وقاسموه بها الأموال إذ قدموا *** مهاجرين وقسم الجاحد النار
وهذه الإخوة باقية بقاء الإسلام، ويشعر بها الذين قد اجتمعوا على مرضاة الله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10).
6- التمييز:
عندما توسعت رقعة الدولة الإسلامية، وجدت أمور جديدة في خلافة عمر- رضي الله عنه، نظر المسلمون في رسائل الخليفة للولاة وبالعكس، والمعاهدات التي يعقدونها.
▪ ورفضوا التاريخ الميلادي لأكثر من سبب:
1- لأنه تاريخ لغير المسلمين، وأسماء الأشهر فيه هي أسماء لأصنام كان الرومان واليونان يتخذونها آلهة من دون الله.
2- الأمة الإسلامية أمة متميزة عن غيرها وكان- صلى الله عليه وسلم- يكرر دائمًا: «خالفوا اليهود والنصارى»، وينكر تقليدهم، ويريد للصحابة الاستقلال في كل شيء، في طعامهم وشرابهم ولباسهم ومظهرهم.
نظر المسلمون أيام عمر فبعضهم قال: نبدأ بميلاد الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وآخرون قالوا بالهجرة واستقر الرأي على البدء بالهجرة، ومع الأسف الكثير منا لا يعرف الشهور الهجرية إلا في ذي الحجة ورمضان.
أما عن التمييز، فلقد أصبحنا لا نستطيع التفريق بين الرجال والنساء لتشابه المظاهر بينهما، ولانسلاخنا عن مظاهرنا الإسلامية، والخارجون على هذه المظاهر فقدوا الحياء والخجل.
7- المعجزات:
أكرم الله نبيه بعدد من خوارق الأمور أثناء الهجرة منها:
1- ليلة الهجرة- والمشركون على بابه- أخذ حفنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم، وهو يتلو ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (ياسين: 9)، فما أبصروه وقد خرج من بينهم وقاموا ينفضون التراب من على رؤوسهم.
2- وصلوا غار ثور ولو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرهما، ولكن الله أعمى أبصارهم أيضًا.
3- حادث سراقة بن مالك وكيف ساخت قدما فرسه في الأرض عندما لحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم طلب الدعاء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعا له، وخلصت قدما فرسه وانطلق عائدًا بعد أن كتب له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتابًا بسواري كسرى.
4- شاة أم معبد الخزاعية، وهي شاة خلفها الجهد عن الغنم، فحلبها وشرب هو وأبو بكر وترك لهم إناء مملوءًا بالحليب، والكرامات تتكرر لعباد الله المؤمنين عندما يلمس الله صدق النية، والصبر على البلاء.
▪ وأخيرًا:
هذا غيض من فيض، ونقطة من بحر الهجرة الزاخر وعلينا بهذه المناسبة أن نتأسى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- المجاهد الذي طاف القبائل والأحياء، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي خرج مضطهدًا من مكة لا يأمن على نفسه، كان مطمئنًا لنصر الله اطمئنانًا يجعله يعد سراقة بسواري كسرى.
وإن واقع المسلمين اليوم، وما يعانونه من نكسات سببه البعد عن منهج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلنجدد العهد في ذكرى الهجرة، ولنعد إلى الله بقلوبنا عودة صادقة كاملة.. وعندئذ يتغير هذا الواقع المريض ويبارك الله للغرباء الذين يصلحون إن فسد الناس وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل