العنوان دعوة الإسلام بين الحرية والجبرية
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الجمعة 18-أغسطس-1978
مشاهدات 18
نشر في العدد 408
نشر في الصفحة 28
الجمعة 18-أغسطس-1978
يروي التاريخ عن النصرانية أيام الدولة الرومانية أنها فرضت فرضًا بالحديد والنار ووسائل التعذيب على كل مواطن أن يدخل في دين النصارى، وكان هذا الموقف يقابل تاريخيًا موقف الدولة نفسها من الذين اعتنقوا النصرانية قبل دخول قسطنطين بها، حيث عذبوا وشردوا وقهروا، وهذا يضعنا أمام حقيقة يذكرها التاريخ دائمًا مبينًا موقف أصحاب الملل والديانات غير الإسلامية من رعايا دولتهم التي يحكمون، ذلك الموقف الجبري القهري على اعتناق ملة الحاكم، سواء أكان نصرانيًا أم وثنيًا أم غير ذلك.
ولما جاء الإسلام وضع مبدأ الدعوة بعيدًا عن الجبرية والقهرية التي عرفتها المجتمعات القديمة، ووضع تصورًا اعتقاديًا جديدًا للدعوة إلى الله يقوم على أساس قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)، فالعقيدة في تصور ديننا الإسلامي الحنيف قناعة لا تحصل بالجبر، إنها اقتناع لا إكراه فيه، وفي هذا المبدأ الدعوي يتجلى تكريم الإسلام للإنسان، وتبرز قضية احترام إرادة الناس وحرية تفكيرهم، وهذا من أخص خصائص التحرر الإنساني الذي ما زالت تنكره في عصرنا مذاهب القرن العشرين ونظمها، تلك النظم التي تقهر الإنسان وتجبره على اتباع مناهجها والإيمان بها، ولا يغيب على المسلم مواقف النظم الاشتراكية والحكومات الشيوعية من حرية التفكير والعقيدة.
إن حرية الاعتقاد هي أول حق من حقوق الإنسان، وسلب هذه الحرية إنما هو بمثابة سلب إنسانية الإنسان، لأن الإنسان كائن متميز بفكره واعتقاده وحرية اختياره لمعتقده.
ولم يقف مفهوم الاختيار في الإسلام على المدعو، فقد حرص الإسلام على أن يكون الدعاة مبلغين لدين الله، ومنعهم من استخدام السيف مسلطًا على رؤوس العالمين لتغيير القناعة الاعتقادية، وعلى هذا فالمسلم ممنوع من إكراه الناس على اعتناق عقيدة الإسلام، والدعوة مقتصرة على التبليغ وتحبيب الإسلام إلى قلوب المدعوين.
ومقابل هذا المفهوم النزيه الذي يلائم الفطرة البشرية، نجد الإسلام حرص على كسب الناس إليه والدخول فيه، فعرض الخير وعرض الشر، وعرض السبل المؤدية إلى كل من الطريقين، ثم عرض عاقبة كل منهما، الجنة أو النار، وعندما نزل قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256) اتصل بكلام مشوق إلى الإيمان، منفر من الضلال، يلامس شغاف القلوب ويحس الفطرة البشرية بحيث يوقظها ويقودها إلى الهداية ويرشدها إلى طريق النور، ويضعها أمام الحقيقة البينة في قوله تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، والرشد هنا هو الإيمان، يقابله الغي الذي هو الكفر بعينه، الكفر المنفر المخيف بطبيعته وعاقبته.
لقد خالف الإسلام أساليب الملل السابقة في أساليب جذب الناس إليه، فالتعذيب الذي كان يلقاه كل من لم يلتحق بالنصرانية في أوروبا، كفيل بتكريه النصرانية إلى كل من كان في تلك البلاد، إن العذاب والقهر لا يزيدان المدعو إلا بعدًا عما يدعى إليه، ولو أنه أظهر اعتقاده بما يطلب منه، فهذا لا يعني أن القناعة استقرت في ذهنه بصحة ما يدعى إليه.
أما طريقة الإسلام فهي طريقة الدعوة التي استخدمت الفكر وسيلة لها، فعقيدة المسلمين تطلب من المدعو إلى الإسلام أن يتدبر في خلق الله وأن يفكر في ملكوته وعظمة الوجود الذي يدل على عظمة الله، لقد اعتمد الإسلام في الدعوة على الإدراك البشري والفطرة التي تطمح إلى السلامة والطمأنينة، لذلك فهو يثير في نفس البشرية مشاعر رفيعة وأحاسيس نظيفة، ويعرض لها المنهج الحياتي القويم الذي يصلح شأنها وشأن الناس معها، كما يعرض لها النظام القويم الذي يدفع إلى تنمية الحياة البشرية جمعاء، ولا شك في أن الإنسان إذا تدبر بما يثيره الإسلام في وجدانه وأحاسيسه، فإنه يجد فيه الرشاد والهداية، فيقبله ويقبل عليه، ويعتنق مبادئه لا خوفًا من سلطان ولا رغبة في مكاسب الدنيا، وإنما يقبل عليه معتقدًا أنه بكل قناعة واعتقاد، وبهذا نرى أن الإسلام الذي تجنب العسف والجبرية في فرض الدين والمعتقد على الناس، كان يملك من الوسائل السامية الكفيلة بجذب الناس إلى الإيمان بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل