; رحلة الحج لنعط لله عهدًا أن نسير على نفس الطريق | مجلة المجتمع

العنوان رحلة الحج لنعط لله عهدًا أن نسير على نفس الطريق

الكاتب الشيخ حسن أيوب

تاريخ النشر الثلاثاء 26-يناير-1971

مشاهدات 24

نشر في العدد 45

نشر في الصفحة 3

الثلاثاء 26-يناير-1971

لنعطي لله عهدًا أن نسير على نفس الطريق

رحلة الحج
الشيخ حسن أيوب

 

يتناول الكلام في الحج عدة نقاط: حكمته، حكمه، فضله، على من يجب؟ أركانه، كيفيته، حكمته.

 إن إدراك جميع جوانب الحكمة لأي أمر تعبدنا الله به هو تكلف لم يشرعه الله لعباده، ولم يقم عليه أي ركن من أركان الإسلام، ولا أي تشريع من تشريعاته فنحن -المسلمين- مكلفون أن نسمع لله ونطيع، وأن نخضع لأمره ونصحه سواء فهمنا الحكمة أم لم نفهمها، لأن قاعدة الإيمان في قلب المسلم تقوم أصلًا على الثقة الكاملة في علم الله، وحكمته، ولطفه بعباده، ورحمته، ولا تكون هذه القاعدة سليمة إلا بالاستسلام الكامل لدين الله وأحكامه والشعور الصادق بالاطمئنان والرضى لكل ما شرعه الله تعالى لعباده: قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.(النساء:65) هذا إذًا هو الإسلام، استسلام لأحكام الله، ورضاء بشرعه، ونقاء من الشعور بالضيق منها: وفقد شيء من هذه الثلاثة يخرج المسلم عن الخط الصحيح ويضعه في عداد المنافقين وصفهم.

وموضوع الحج بالذات كثر الكلام حول حكمه والغايات من أعماله الكثيرة كالطواف بالبيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات ورمي الجمار، إلخ.

والذين يُلحّون في معرفة الحكم والغايات من هذه الأعمال يقلدون بدون روية أقوال المستشرقين والطاعنين في كل شيء من أمور الإسلام وتشريعاته حتى لم يسلم القرآن نفسه من أكاذيبهم كما لم يسلم الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- من افتراءاتهم وسخريتهم ولیست محاولة معرفة الحكم خطأً أو ذنبًا، فقد ذكر القرآن الكريم كثيرًا من الحكم لكثير من تشريعاته ولكن الخطأ والذنب أن يزن الإنسان الشرع،  مميزًا من فهمه للحكم كما يصنع في تشريعات البشر، فإن عرف الحكمة واقتنع بها فعل ما أمر به، وكان التشريع في نظره صوابًا ومفيدًا ومقبولًا، وإن لم يعرف الحكمة ويقتنع بها فتشريع الله في نظره ناقص أو عابث وغير مفيد.

فهو إذا وضع نفسه في منزلة ومكانة تسامي منزلة الله، فجعل من نفسه إلهًا أو أنزل الله جل جلاله إلى منزلة البشر فجعل منه إنسانًا يصيب ويخطئ، ويؤخذ من قوله ويرد.

وليس هذا من الإيمان في شيء، ولا هو مما يقبل في أي دين سماوي.

والله تعالى يعلم أن الغايات من أعمال الحج ستثار حولها الأقاويل التي قد تؤثر في نفس المؤمن نوع تأثير، لذلك أنزل بين آيات الحج وفي سورته آيتين ترشدان المسلم إلى الواجب عليه نحو أوامر ربه وتشريعاته، سواء استبان له وجه الحكمة فيها أم لم يستبن، فقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ (الحج:30) وقال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج: 32).

فمقتضى الإيمان السليم تعظيم حرمات الله وشعائره، وتنفيذ أوامره وتشريعاته هذا هو الأصل والواجب على كل مؤمن بعد إيمانه بالله وتسليمه له.

وقد يتفضل الله تعالى على عباده فيرشدهم إلى بعض الغايات من أوامره وتشريعاته ليشبع فيهم غريزة البحث وحب المعرفة كما فعل في الحج وغيره.

فقال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج: 27).

لماذا؟ قال تعالى: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ (الحج: 28). كلمة «منافع» هنا عامة تشمل المنافع الروحية والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها.

فالحج تجرد لله وتلبية لندائه، وتصفية للنفس، وتزكية للروح وتجاوب مع مجتمع العقيدة الواحدة، والتحام في صفوف أمة التوحيد «خير أمة أخرجت للناس».

وفي الحج يتحد النشيد الإسلامي وينساب من أفواه المؤمنين صادقًا صافيًا في عذوبة ونغم، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.

وفي الحج صور متحركة ترسم ملامح الأمة المسلمة، وتُعطيها أصول الحركة مع الوحدة.
فالكل هناك يطوف حول البيت من جميع جهاته، ولكنهم مع تفرقهم حول البيت متصلون ومتلاحمون، وكذلك يجب أن يكونوا مهما طافوا في جميع جهات الدنيا، والكل يسعى، ولكن في حدود لو تعداها لكان آثمًا، وكذلك السعي في الحياة والكل يقف في عرفات في جمع لا مثيل له في أمة من الأمم، قلوبهم مشدودة إلى ربهم، وألسنتهم تردد ذكره ودعاءه، ورجاؤهم في الله وحده ودموعهم الغزيرة تتساقط خوفًا وطمعًا. ويغمرهم بفيض رحماته التي وسعت كل شيء وهكذا يشعر المسلمون أن سعادتهم الحقة في أن يعيشوا مع الله، ويسلموا أنفسهم له، ليعطيهم ما يصبون إليه من عزة، ونصر، وسيادة وحرية، وحياة كريمة، وسعادة الأبد، ومئات الألوف يرمون الجمار متزاحمين ليفرغوا بعد ذلك للراحة، والمتعة وشكرًا لله. ولو تزاحموا على حرب أعدائهم مجتمعين لصفوا حسابهم معهم وعاشوا في نشوة النصر ومتعة الحرية والكرامة الإسلامية السامية.

وهنالك في رحاب مكة والمدينة وأرض الحجاز تاريخ أمتنا الإسلامية تحكيه الأبنية والمشاهد والبقاع. والمدافن والأرض الطيبة كلها.

 فما أروع أن يملأ المسلم عينه من أول بيت وُضِع لعبادة الله في الأرض وما أجمل أن يتذكر الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- وهما يبنيان بيت الله ويسألانه أن يمتد أثرهما حتى يتسلّم أمر الرسالة نبي أمي يتلو على الناس آياته ويُزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويُنقذهم من ضلال مبين.

وأي مشاعر يمكن أن يتصورها الإنسان وهو يتذكر إبراهيم يقود ابنه في تلك البقاع إلى مكان آخر آمن ليذبحه فيه بعد أن جرت بينهما أروع محادثة في تاريخ الإنسانية. ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات: 102).

ولا بد من التمادي في التصور إلى نهاية المشهد حيث يُلقي إبراهيم ابنه على جبينه ليذبحه، وبينما هو يعالج السكين والسكين يستعصي عليه بأمر الله سمع نداء يقول له: ﴿يَا إِبْرَاهِيْم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الصافات: 105).

فالمهم أن يظهر صدق إبراهيم مع ربه، وألّا تأخذه الشفقة على ابنه في تنفيذ أمر الله، فإذا ثبت ذلك فالذبح نفسه ليس هدفًا.

سبحان الله، أليس هذا هو نفس المعنى الذي ذكره الله تعالى في شأن جميع الذابحين لله في هذه البقاع؟ كأنها بقاع امتحان واختبار للإيمان، قال تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ (الحج: 37). نفس المعنى وإن اختلف الذبيح.

ومن فضل الله تعالى أن ادّخر هذا البيت الحرام لأمة الإسلام واختار حرم هذا البيت والربوع من حوله لتكون مهد خاتم المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومرباه ومراحه ومغداه هنالك نشأ وشب، وسار في شوارع مكة، ورعى الغنم، وتاجر، وتزوج ونزل عليه الوحـي في غار حراء، واختفى بمن آمنوا في دار الأرقم ودعا من حول الكعبة قريشًا إلى التوحيد، واعتقل في شعب أبي طالب ثم هاجر بمن معه إلى المدينة فأسّس دولة، وأقام دينًا، وثبت دستورًا وقانونًا وكوّن جيشًا ضمن به الدعوة والدولة، ورد به المكيدة، وانتصر للذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

تصور كل ذلك مفصلًا بأناة وروية وأنت تحج بيت الله وتزور مسجد رسوله -صلى الله عليه وسلم- فستجد نفسك أمام تاريخ أمتك الإسلامية المشرف وسترى الآثار شاخصة، والبقاع باقية شاهدة، وشهداء الإسلام يسمعونك لو قلت: السلام علیكم یا صحابة رسول الله.

 ومن ذلك التاريخ تأخذ العبرة، وتعطي الله عهدًا أن تسير على نفس الخط، الذي اختاره الله لنبيه والصحابة معه. ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21).

 

الرابط المختصر :