; صفحات من دفتر الذكريات (69).. رحلــة خطــــيرة ١٩٦٢م | مجلة المجتمع

العنوان صفحات من دفتر الذكريات (69).. رحلــة خطــــيرة ١٩٦٢م

الكاتب الدكتور توفيق الشاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

مشاهدات 11

نشر في العدد 1171

نشر في الصفحة 48

الثلاثاء 17-أكتوبر-1995

رحلة سرية لمحمد خيضر إلى السفارة المصرية في الجزائر تغير كل شيء

الإعلام العالمي الذي توجهه مصالح القوى الكبرى مهد بحملة ضخمة لاستيلاء بن بيلا على الحكم

كان محمد خيضر يحب المغامرة ويُقبل عليها، ويأخذ على صديقه أحمد أنه يؤثر السلامة، ولما عاد من زيارته للعاصمة الجزائرية بعد يومين أخبرني أنه أتم مهمته في العاصمة، وأقنع يوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة التي تسيطر على العاصمة بألا يعارض وصول المكتب السياسي، وأن مكانه محفوظ فيه كغيره من قواد الولايات، وأنه اختار مكانًا للمكتب السياسي وهو بناية مستقلة سيكون فيها مكتبه، كما أنه سوف يقيم فيها هو وأحمد لأنها عمارة مكونة من أربعة طوابق تسمى فيلا جولي، وأنه سيعد لي مكانًا بها عند وصولنا هناك، وأننا سنتحرك بالسيارة في اليوم التالي عن طريق وهران ومنها إلى العاصمة وكنت معهم، وما زلت كالأطرش في الزفة.

ولما سألته أين كان يقيم هذه المدة أسر إليّ بأنه نزل في السفارة المصرية قائلا هذه سفارتنا، وفهمت منه أن بعض أعضاء المكتب السياسي ما زال مترددًا في الانتقال إلى العاصمة بهذه السرعة، وأن جماعة بومدين كانوا يعتقدون أنه لا بد من أن تتولى قوة عسكرية تابعة له تأمين العاصمة وتحتلها أولا؛ لأنهم لا يأمنون جانب يوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة، ولكنه أقنع بن بيلا بضرورة الإسراع بهذه المخاطرة، وأنه مطمئن إلى عدم وجود أية معارضة في دخولهم وبالعكس ستكون هناك معارضة لو دخلت أية قوة مسلحة.

رغم الصدمة التي أحسستها فيما بعد نتيجة اكتشافي معالم هذه المسرحية الانقلابية تدريجيًّا، وعرفت أنها بدأت في تلمسان، فإن الانتقال إلى العاصمة قد انشرح له صدري في ذلك الوقت لعدم إدراكي أعماق المغامرة والمؤامرة؛ لأن هذا الانتقال تم سلميًّا، وكنت واثقًا أنه سيكون هناك مجال للتفاهم أو المصالحة مع من نلتقي به من قواد الولايات الأخرى التي لم تتخذ موقفًا ينحاز علنًا لجماعة بن بيلا وغيرهم من قادة جبهة التحرير، بل وأعضاء الحكومة المؤقتة بعد وصولهم، وسيكون هناك وسطاء قادرون على فرض صيغة للتوفيق بين المجموعتين، لكن هذا الأمل قد تلاشى.

لقد كانت رحلة خطرة بلا شك، وقد سعدت بها لأنني كنت وعدت صديقي بن بيلا بأن أشاركه في دخول الجزائر في أي وقت -أثناء الاحتلال الفرنسي- وأتحمل معه كل المخاطر طوال الرحلة التي توقعت أن يقاومها الفرنسيون وأعوانهم، لكنني بكل أسف عرفت أن هذه الرحلة كما اكتشفت فيما بعد لم يكن الفرنسيون كارهين ولا معارضين لها، بل قد يكونون هم الذين رتبوا لها أسباب النجاح...بمعاونة جهات أخرى.

الإبراهيمي يرفض الاشتراك في الانقلاب

بعد ثلاثين عامًا كاملة التقيت بصديق لي كان مرافقًا للشيخ البشير الإبراهيمي الذي استدعي من دمشق إلى مصر في تلك الفترة - وذكر لي أنه حضر لقاء له مع مبعوثين من المخابرات المصرية - عرفوه بأن بن بيلا وخيضر سوف يتجهون إلى الجزائر قادمين من المغرب - ليتولوا الأمور هناك - وأنهم يرحبون به إذا رغب مشاركتهم في هذه الرحلة، وأنهم مستعدون لتخصيص طائرة عسكرية تحمله فورًا للمغرب للانضمام لهم - وفهم الرجل أن غرضهم تجاهل زعماء الجبهة الآخرين وأعضاء الحكومة الموجودين بالشرق فأجاب بأنه يفضل أن يذهب إلى الجزائر مع الجميع . لأنهم كلهم أبناؤه ولا يريد التفرقة بينهم... أو الانحياز لفريق ضد فريق في حالة حدوث خلافات بينهم.

إن هذا الحديث العارض ذكرني بأنني عندما دعيت لمرافقة صديقي محمد خيضر وبن بيلا في هذه "الرحلة" - فإن هذه الدعوة إنما وجهت إليّ ليلة استعدادهم للسفر في الصباح - لكي أشغل المحل الذي رفض الشيخ البشير الإبراهيمي أن يشغله؛ لأنه أدرك في ذلك الوقت ما لم يدر بخاطري ولم أكن أتوقعه عن دور بعض الدول في هذا الموضوع الذي شاركت أنا فيه - عن غير قصد ودون علم بأهدافه الانقلابية.

في الطريق إلى العاصمة

في طريقنا إلى الجزائر العاصمة كان محمد خيضر متفائلاً ومنشرح الصدر، وقد ركبت معه هو وزوجته، وكانت سيارتنا تتقدم رتلاً من السيارات في إحداها بن بيلا وبعض رفاقه.

لم يشغلني ذلك عن تأمل المزارع الكبيرة التي يملكها المعمرون الفرنسيون تحف بالطريق من حين لآخر، وخاصة قرب وهران وفي الطريق منها للجزائر قصور وسيارات وحركة دائبة، وقال خيضر وهو يتأملها هذه هي أول مشكلة نواجهها، فإن فرنسا أعطت أراضي الجزائر الخصبة لمن سمتهم المعمرين الفرنسيين أو المتفرنسين، فكل أوروبي كان من حقه أن يحظى بالجنسية الفرنسية؛ لأن هدفهم هو زيادة عدد المعمرين الفرنسيين، ولذلك كانت تعطي لكل منهم مزرعة منهوبة من أبناء الجزائر المضطهدين، وخاصة أولئك الذين كانوا يغادرون البلاد طلبا للأمان، وخوفًا من البطش والطغيان الفرنسي، أو من يستشهدون، أو يلقى بهم في السجن، وقد آن الأوان لكي نرد الجميل لهؤلاء المغتصبين وأن نعيد أرض الجزائر للجزائريين.

فيـــــلا «جـــولـي»

عندما اقتربنا من فيلا جولي، أشار محمد خيضر إلى قصر كبير يواجهها وقال إن هذا كان مقرًا للحاكم العام الفرنسي، وسوف يكون قصر الشعب، ونتخذه مقرًا للرئاسة.

ولما وقفت السيارات أمام فيلا "جولي" وجدتها بناية ذات طوابق أربعة وليست فيلا كما يفهم من اسمها، ودخلنا الطابق الأول المخصص للمكتب السياسي، ثم صعد بن بيلا إلى شقته في الدور الرابع، وعائلة خيضر في الدور الذي يليه، وقال لي محمد خيضر أنك ستقيم في شقة الضيافة فوق هذا المكتب، وكانت الشقق كلها مؤثثة ومجهزة، ويظهر أنها كانت مقرًا للعاملين في قصر «الرئاسة»، والميزة الوحيدة لها أننا كنا نرى حديقة كبيرة مواجهة، بها أشجار عتيقة، وكنت أقف في الفراندة في الصباح الباكر أستمع لموسيقى الطيور التي تتخد هذه الأشجار مسكنًا لها، وتصحو مبكرة تستعد لرحيلها المبكر بحثا عن الغذاء، وكثيرًا ما حدثت محمد خيضر بذلك حتى تعود أن يرقبها ويستمتع بغنائها كما أستمتع كل صباح.

كانت الصحافة المحلية والعالمية تقوم بحملة ضخمة تمهد لاستيلاء بن بيلا والمكتب السياسي على قيادة جبهة التحرير حتى نسي كثيرون وجود الحكومة المؤقتة في المنفى التي تأخر وصولها، وأعتقد أن هذا التأخير لم يكن اختياريًّا، وأن جهات معينة كانت تعطل عملية انتقالها لإعطاء المكتب السياسي الوقت الكافي لترتيب أموره وتنفيذ خطته.

في هذه الأثناء أصبحت الشقة المخصصة للمكتب السياسي كعبة للزوار من جميع الطوائف والطبقات التي أدركت اتجاه الرياح السياسية لصالح بن بيلا وجماعته التي يمثلها المكتب السياسي، وربما كان للأموال التي بحوزتهم دور كبير في اجتذاب الزوار، وحرصت على ألا أغادر شقة الضيافة التي أقيم بها إلا للضرورة تفاديا لمقابلة هؤلاء الطامعين أو التعرف عليهم.

من حسن الحظ أن أحد الشبان النابهين الدارسين في مصر قد قابل محمد خيضر واختاره ليكون مدير مكتبه، وهو الأخ مولود قاسم الذي سعدت كثيرًا بالحديث معه وأعجبني منه اندفاعه الثوري في اتجاه العروبة والتعريب، وبقي طوال حياته يقود مسيرة التعريب حتى في عهد بومدين، وبعد ذلك حتى وفاته رحمه الله.

الرابط المختصر :