; رفض الآخر .. رفض للحياة والنفي السياسي أشد من المعتقلات | مجلة المجتمع

العنوان رفض الآخر .. رفض للحياة والنفي السياسي أشد من المعتقلات

الكاتب محمد السيد

تاريخ النشر الثلاثاء 27-فبراير-2001

مشاهدات 11

نشر في العدد 1440

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 27-فبراير-2001

إن رفض الآخر.. رفض للحياة بالذات، ففي حين خلق الله الأكوان أزواجًا متناغمة متحاورة من أجل الترقي بنوعية الحياة، يقبل البعض ممن يدعون أنهم ديمقراطيون ليبراليون علمانيون على أسلوب بغيض في رفض الآخر خصوصًا الإسلامي، يحاولون به إثبات الحرية لأنفسهم وحسب، وأنهم هم المستحقون لها من دون الناس، فهم «التنويريون» الذين أوجدهم الله من أجل إنقاذ الناس جميعًا من الظلام والظلامية التي يرسفون في قيودها الماضوية، والتي تعيش خارج العصر. وقد عبر عن المرارة التي يحدثها هذا الأسلوب في نفوس المواطنين أحد المثقفين السوريين عندما قال في محاضرة ألقاها في أحد منتديات الحوار الدمشقية: أحس أنني مغترب في وطني هناك رأي واحد، لم نتعود على رأيين، الكل يجب أن يكون له خط واحد الكل يؤيد.

إن هذا الإحساس الذي يناوش نفوس معظم الناس كان نتيجة أن الأمور سارت وتسير في أوطانهم- إلا من رحم ربي- بالطريقة التالية سلطات تريد من المواطن أن يمشي كالدابة التي توضع كمامات على جانبي وجهها، كيلا ترى إلا خطًّا واحدًا رسم لها السير فيه بلا حيدة ولا توقف ولا نظر آخر، ومجموعات من فلول مدعي الثقافة والتنوير، وأخرى من مدعي الليبرالية جمعتها السلطات حولها، من أجل أن تمهد هذه المجموعات الطريق لعمليات السلطة التي تستهدف استئصال أي رأي آخر أو استبعاده وعزله، ثم لتترجى المسوغات والمبررات بين يدي عمليات الاستئصال والاستبعاد والعزل والقهر والتهجير فضلًا عن اتباع ذلك كله بضجيج مفتعل ممل عن الإرهاب والإرهابيين، وإضرارهم بالأوطان، واعتدائهم على الأبرياء والأحرار من المثقفين والمتنورين غير عابئين بما يقوله المواطن العادي الذي لديه من الوعي ما يمكنه من الرؤية الحقيقية للأمور حاكمًا بالبوار على هؤلاء وعلى السلطة التي تدفعهم لاتهام الآخر على طريقة رمتني بدائها وانسلت»، فهم يسقطون ما يسكن في دواخلهم على الإسلاميين ابتداء من الإرهاب الفكري والممارسات القمعية للرأي الآخر، ومرورًا بالظلامية الاتباعية لكل ما هو وارد عند الغرب، وانتهاء بالتقليدية الببغاوية لمرجعيات الآخرين التي انتهى مفعولها وتجاوزها أصحابها.

واحد من هؤلاء أراد في معرض حديثه عن الحراك الجاري في سورية أن يستبق الأحداث، ويحول أمنياته بشأن إبعاد الإسلاميين عن هذا الحراك إلى حقائق فأكد أنه لا توجد معطيات على إمكانية أن يحقق الإسلاميون انتشارًا أساسيًّا في سورية وهو في هذا يقلب المعادلة رأسًا على عقب إما لأنه لا يمتلك المعلومة الصحيحة أو لأنه يمتلكها ولكنه يفضل أن يواجه الواقع بالأمنيات المختزنة في لا شعوره ضد الإسلام وحركته.. فهو في اعتماده الترسيخ باطله وتطويع الحقائق له على مقولة: «إن سورية بلد متعدد الأديان والطوائف»، وجزمه بناء على ذلك- أن الأصولية التي ستعمل في هذه الأجواء لابد أن تكون ذات طابع طائفي نسي أن من الشعب السوري ينتمي إلى الإسلام السني، وأن هؤلاء يحبون الإسلام ويقدمونه حتى على أرواحهم كل على طريقته وعلى قدر طاقته، وقد ثبتت هذه الحقيقة تاريخيًّا وعصريًّا، إذ لا يمكن أن ينسى صاحب نية طيبة انطلاقة هذا الشعب من خلال حميته الدينية والوطنية ضد الفرنسيين وكيف كانت كتائب الجهاد في الغوطة وحماة وحوران وحلب وحمص تصدر حركتها بـ الله أكبر.. الله أكبر .. كما لا يمكن أن ينسى صاحب هذه النية: كيف وقف الشعب السوري بأكمله أفرادًا ونقابات وحركات وأحزابًا مع الإخوان في محنتهم التي جرت في مصر عام ١٩٥٤م، وكيف خرجت الجماهير بمن فيهم البعثيون ضد الإجراءات والأحكام التي طالت الإخوان هناك؟.

ولو أن هذا الكاتب أتيحت له الفرصة لزيارة المساجد في سورية هذه الأيام وشاهد إقبال الجيل الجديد عليها لغير كثيرًا من مقولاته، هذا إذا أحسنا الظن واعتبرنا أن مقولاته نابعة من جهل، وليس بعيدًا عن هذا السياق ما شاهده الناس جميعًا من تفاعل الشعب السوري الرائع بكل انتماءاته مع الإضراب العام الذي دعت إليه الحركة الإسلامية عام ۱۹۸۰م تضامنًا مع الحريات وحقوق الإنسان والتعددية، إذ أغلقت المدن أبوابها ووقفت النقابات جميعًا مع هذا الطلب، فكان التجاوب مع الحركة الإسلامية "الأصولية" أكثر من رائع، خصوصًا أن الحركة الإسلامية في سورية انطلقت منذ البداية من وحدة الطوائف والأعراق المتعددة في البلد، فالجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا المعنى هو ما أكد عليه الدكتور مصطفى السباعي- يرحمه الله- أثناء عمله السياسي في البرلمان عام ١٩٥٠م، فقد نادى بضرورة العناية بالعلويين وبقراهم ومناطقهم، وبكل المناطق الريفية التي توجد فيها طوائف همشها الحكم آنذاك، مبينًا- يرحمه الله- : أن الإلحاد والعلمانية والقومية الجاهلية والاشتراكية الماركسية ليست أكثر من مرحلة من المراحل، وأن الدائرة العربية الإسلامية في نهاية المطاف هي الدائرة الحضارية لكل الطوائف المذهبية والعرقية.

نفايات الحداثة

فهل الحركة التي يكون هذا شعارها ومسار حركتها يمكن وصفها بأنها ذات طابع طائفي..؟! إن من يتحرك ضمن غالبية ساحقة من شعبه يتكلم بلغتهم ويدين بدينهم ومذهبهم ويحمل همهم ويقف على رأس المطالبين بحقهم وحريتهم، معتبرًا نفسه واحدًا منهم ليس إلا وطنيًّا عامًّا ذا مرجعية عربية إسلامية محافظًا على الهوية والخصوصية، وليس تائهًا كذرة رمل في مهب نفايات وادعاءات الحداثة وتفجير الشخصية، وخفايا الطائفية التي تعبث بكلماته وفكره وتمحو انتماءه وتاريخه.

ولقد جرب الناس في سورية على مدى خمسة عقود من الزمان «القوى الوطنية والعلمانية القومية الديمقراطية البعيدة عن الإسلام»- على حد تعبير الكاتب الذي نناقشه القول- وشاهدنا التجربة التي خاضتها هذه القوى بعد تسلمهم زمام الأمور والحكم، وكانت النتيجة هي ما نشاهده اليوم من بوار وتراجع في كل المجالات باعتراف الحاكمين والمحكومين، وذلك بدءًا من «استبدال الشرعية الثورية الانقلابية بالشرعية الدستورية الشعبية... وما أحدثه هذا الاستبدال من خراب سياسي واقتصادي، وأخلاقي وفساد مالي وترهل إداري خلال ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمان وانتهاء بما نشاهده اليوم من حراك يحاول تلمس طريق الانفراج مترددًا بين صورتين.

الأولى: تسعى إلى انتهاج الخطاب الحداثي الماركسي من جديد ولكن بصيغة ليبرالية بعدما انمحى بريق الماركسية.

والثاني: يسعى إلى التمسك بكل ما هو استثنائي وعرفي، محاولًا تغطية عورة الاستمرار بوجه من ليبرالية مزعومة.

وبين هاتين الصورتين تلوح في الأفق صورة قوية متماسكة ولكنها مبعدة حتى اللحظة عن مشهد الحراك السياسي، هذه الصورة هي التي تمثل المرجعية العربية الإسلامية المتمسكة بالمواطنة الحقة للجميع وبالحرية التي تباشر حياة المواطن مباشرة ملموسة مهما كان اتجاهه دون إقصاء ولا استثناء ولا إبعاد .. وهي الصيغة التي طرحتها الحركة الإسلامية في كثير من بياناتها المتداولة مبتغية تجاوز كل العورات التي تقف حاجزًا دون بناء الوطن بناء حرًّا قويًّا متقدمًا عصريًّا متمسكًا بمرجعيات هويته وخصوصيته التي تجمع الكل في صيغة تاخ وطني من خلال ميثاق شرف يحدد معالم العمل الوطني العام المتبني للحوار أولًا وآخرًا كصيغة للوصول إلى جبهة داخلية حرة وقوية، معولة في الوصول إلى ذلك على ما طرحه الرئيس بشار من معالم الديمقراطية ذات الاتجاهين في الحركة، وإذا كانت القوى الحية في المجتمع السوري تميل إلى استبعاد قوى الماضي التي منها- الحركات الأصولية- كما يدعى الكاتب المعني.. فهذا شأنه، وهذه أمنياته- كما سبق وقلت ... ولكن الذي يجري على أرض الواقع، لا ينبئ بذلك. فجميع من تحرك حتى الآن على الأرض السورية نادي بالحرية للجميع دون استثناء هذا أولًا .. أما ثانيًّا وهو الأهم فإن هذه الأمنيات باستبعاد الإسلام وحركته سوف تبقى دفينة في صدور أصحابها حتى تقتلهم كمدًا.. لأن حركة الإسلام رقم صعب لا يستطيع أحد- كائنًا من كان- أن يهمشها أو يقصيها، وذلك لأنها حركة ملتحمة التحامًا عضويًّا مع الشعب تعيش في قلبه ورؤاه وأمانيه، وتمثل مستقبله، ولينظر كيف استطاعت الحركة الإسلامية إثبات التحامها بالشعب وأمانيه وتطلعاته في أكثر من بلد عربي وإسلامي.

تخرصات لا أساس لها

وفي حين يحاول هذا الكاتب أن يقوِّل الفكر والحراك السياسي الجديد في سورية ما لم يقله. فيؤكد أن الفكر الجديد يحمل الحركات الأصولية بالقدر نفسه المسؤولية عن غياب الديمقراطية في البلاد، يذهب هذا الفكر الموجود في بيان الألف مثقف سوري إلى تحميل هذه المسؤولية برمتها إلى قضية استبدال المشروعية الانقلابية العسكرية بالمشروعية الدستورية، مما أحدث قطعًا في سيرورة الاندماج الوطني والاجتماعي التي كانت قائمة وقد حدث ذلك بسبب تماهي السلطة والدولة، «الذي أدى إلى تغييب الدولة بسبب تغييب المجتمع المدني».

إن هذا التحليل عن تغييب المجتمع المدني والدولة والديمقراطية يرد ردَّا مفحمًا على تخرصات لا أساس لها ولا مرجعية فكرية أو واقعية تدعمها. اللهم إلا ما حاك في صدر البعض من إثم كره الإسلام وحركته، وما يتمناه من استثناء الحركة الإسلامية من الحراك المجتمعي السوري المتجه إلى الانفتاح والانفراج الديمقراطي، وهذا هو المستحيل بعينه، إذ كيف يكون انفتاح وديمقراطية وتيار كبير وغني بالأفكار والأعمال والتاريخ مثل التيار الإسلامي مهمش ومبعد ؟! إن الأمر يجري على عكس ما يريد أن يضلل به البعض، فلقد دعت الحركة الإسلامية في أدبياتها القديمة والجديدة إلى اندماج وطني عام من أجل بناء الوحدة الوطنية التي تحدوها صيغة بالتراضي للعمل السياسي والوطني تحكمها الشفافية. ويضبطها الحوار، وتسري فيها روح الاعتراف بالندية والمشاركة للجميع.

فمن قبل قال الدكتور السباعي- يرحمه الله-.. إن الوحدة في العاطفة والشعور بين أبناء سورية قاطبة على اختلاف أديانهم وآمالهم مطلب وطني كما قال: لا يكون اختلاف الناس في الأديان أداة من أدوات التفرقة "د. عدنان زرزور کتاب مصطفی السباعي الداعية المجدد ص ١٥٩ ١٦٠".

وقد تحملت الحركة في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اليوم التضحيات الجسام، دفاعًا عن الحرية والتعددية لكل أبناء الوطن، أما اليوم فقد امتلأت الصحافة ببيانات الحركة الإسلامية المؤيدة للحراك الانفتاحي الجديد في سورية، ودعت في كثير مما نشرته إلى الوحدة الوطنية وإلى وضع میثاق شرف لعمل وطني لا يستثني أحدًا بسبب من رأي أو فكر أو دين أو عرق إن جذور الإسلام في سورية عميقة عمق التاريخ، وعمق التضحيات وعمق الشمول، بينما جاء الفكر القومي العلماني المنبت عن الإسلام فكرًا طارئًا حاول على مدى عقود زعزعة الثقة بهذا الدين وحركته إلا أنه كان يحاول المستحيل وكان كناطح صخرة يومًا أو بعض فما إن طلعت شمس اليوم الثاني حتى تجلت حقيقة أن الشعب السوري شعب لا يمكن إلا أن يكون كما كان دومًا قلعة حصينة للإسلام .

الرابط المختصر :