العنوان رياض المؤمنين «٢» - الظبي الجفول
الكاتب محمد أحمد الراشد
تاريخ النشر الثلاثاء 06-يونيو-1972
مشاهدات 39
نشر في العدد 103
نشر في الصفحة 27
الثلاثاء 06-يونيو-1972
رياض المؤمنين
«٢»
الظبي الجفول
يكتبها: محمد أحمد الراشد
كان الناس أمة واحدة، يحكمهم القرآن.
ثم انتهى الأمر إلى ما نرى من تحكيم الهوى، والتفرق، والفساد.
فكيف تم هذا التحول، والهبوط من مستوى قيادة الأمم الأخرى إلى هذا المستوى الواطئ؟ وكيف افتقد أبناء المسلمين تلك الحساسية البالغة إزاء معاني العدل والظلم، والاتباع والابتداع، حتى ركبتهم الشهوة والغفلة؟
نعم، لم يكفر المغفلون كما قررنا، ولكن كيف نزلوا إلى الدون، وتركوا منزل العز، ورضوا بالاستكانة، وأخلدوا إلى الأرض أخلادهم الذي نراهم فيه؟
يكمن الجواب في أنهم ضحية تربية!
فالكافر المستعمر استعمل المؤسسات السياسية والاجتماعية التي نصبها في العالم الإسلامي، ومن انتسب إليه من أدعياء الفكر والأدب والفن، لإفساد ذراريّ المسلمين، ومن ثم يضمن للطواغيت التي ترأس هذه المؤسسات سيطرتها وهيمنتها، فلما فسدوا ثنوا بالتجويع، ليذلوا.
وإنها خطة قديمة، يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى تصل أصولها إلى فرعون، «وذلك كما يقول الله سبحانه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الزخرف:54)
فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله، فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرًا.» (۱)
وهكذا أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون؛ فتواصوا بالإفساد، وأخذوا «يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى أو يفيء إلى دين.» (۲)
وصارت تلك سياستهم.
«سياسة محاربة المساجد بالمراقص. ومحاربة الزوجات بالمومسات ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر. ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة» (۳) «وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل في وداعته كما يقال إقبال.
إنه الأدب والترويض الذي استعمله أئمة الضلالة.
أدب، تعرفه في أنه:
يسلب السرو جميل الميل
ويرد الصقر مثل الحجل
يسحر الركبان باللحن المبين
ولقاع البحر يهوي بالسفين
نومت ألحانه يقظتنا
أطفأت أنفاسه وقدتنا (٤)
وأشرب الناس الذل....
إن «الإنسان بفطرته نفور من الذل، آب على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حينًا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالًا بعد حال، حتى يدربوا عليه، كما يستأنس السبع، ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في النفس ذرات من الكرامة، وفي الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعا الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرك الشعور الهاجد: نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد، وأفاقت في الإنسان إنسانيته، فأبی وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية.
كل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره: قريب شفاؤه، ويسير إزالته.
فإذا تبع الذل من النفس، وانبثق من القلب فهو الداء الدوي، والموت الخفي.
ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل، بالتعليم الذليل والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى، ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية، وإذا بيدهم العصا والزمام.» (٥)
وكان من تمام ما يلزمه هذا الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام؛ ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحافي أدعياء العلم والشعر والحكمة، الذين موهوا أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة، وطفقوا يزينون للجيل الجديد سليل المجاهدين وشبل الأسود أن يكون رقيقًا للشهوات والجنس والعيش الرغيد، وبدأوا يمحون تراث الأمة الذي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء، حذرًا من أن تكون نبراسًا للجيل يستدل بها على طريق العمل..
فذلك قول شاعر الإسلام إقبال- رحمه الله-:
ليس يخلو زمان شعب ذليل
من عليم وشاعر وحكيم!
فرقتهم مذاهب القول لكن
جمع الآراء مقصد في الصميم:
علموا الليث جفلة الظبي وامحوا
قصص الأسد في الحديث القديم
همهم غبطة الرقيق برق
كل تأويلهم خداع عليم (٦)
وقد كان... هذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي.
إنه تعليم الليث الإسلامي جفلة الظبي.
ومحو قصص أسد الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة.
وأنتجت خطط التربية ذاك الظبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالتلفت، والمسارعة إلى الهرب.
إنهم هذا الجيل تحول من أبناء المسلمين. شبل أسد تحول إلى ظبي وديع.
وحر استرقوه ففرح.
ومرت الخطة، حتى أن ما نلحظه اليوم لدى بعض المخلصين من ميل إلى العزلة والخوف من التعاون مع بقية المسلمين ليس إلا من آثار هذه التربية، ودليل على نفادها، وليس ذلك بمستغرب، فإنها إذ نجحت في إبعاد الكثيرين عن الإسلام، فمن باب أقرب أن تبعدهم عن بعض الإسلام، وتقنعهم بترديد الكلام، والاعتزال، والتماس الحذر من عمل يعرض للمتاعب.
وعندئذ بدأت المرحلة الثانية بعد أن أمنوا، وصارت عملية التحول السريع إلى الجاهلية....
ويرفض الداعية المسلم أن ينصاع، ويستعلي أن تمر خطة الكيد، ويقف يؤذن في الناس...
ولكن أكثر الناس نيام.
ویری جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأی الأمين المسلم سادرًا غافلًا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم.
ويعود ليفرغ حزنه، في خطاب مع نفسه...
تبلد في الناس حس الكفاح
ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي
سدور الأمين، وعزم المريب (۷)
ويتهم نفسه إنه لم يكن بليغًا في ندائه، ولكن سرعان ما يحس أنه قد حاز البلاغة من أقطارها، فيعود يسلي نفسه ويجمل عزاءه...
ومن حر شدوى يرى في الخريف
طروبًا بصحبتي العندليب
ولكن خلقت بأرض بهـا
نفوس العبيد برق تطيب (۸)
لقد تبدلت موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار كما يقول الرافعي -: «تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها.» (٩).
فماذا يفعل الداعية؟ أيترك المحاولة؟ أم يؤجل إلى حين؟
كلا.
ليس من ترك، فإنه ليس في منهجه شيء من زيف ولا نقص، وآية كما له هؤلاء الشباب الأحرار الذين يتغنون بالقرآن في عصر المادة والشهوات، والقليل يؤدي إلى الكثير، والصبر مفتاح ما انغلق.
وليس من تأجيل، فإن مرور الزمن ليس من صالحه، وإن الطغيان كلما طال آمده كلما تأصلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولا بد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة.
إنه «ليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد:
استخذاء تحت سوط الجلاد.
وتمردًا حين يرفع عنها السوط.
وتبصرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.» (١٠)
وإذن، فليس من المصلحة الانتظار.
ففكر في طريق لضم جدد إلى قافلة الأحرار.
(١) الظلال ٤٥/٩
(۲) الظلال ۱۲۲/۹
(٣) وحي القلم للرافعي ٢٥٨/٢
(٤) كتاب «محمد إقبال لعزام» /١٦٢
(٥) الشوارد لعبد الوهاب عزام /٣١٨
(٦) دیوان ضرب الكليم لإقبال /١٠٢
(٧) مع الله للأميري / ١١٠
(٨) ضرب الكليم /١٤
(٩) وحي القلم ١٠٣/١
(۱۰) الظلال ٩٠/١
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل