العنوان سنن الله التي لا تغيب
الكاتب أحمد منصور
تاريخ النشر الثلاثاء 14-يناير-1997
مشاهدات 11
نشر في العدد 1234
نشر في الصفحة 27
الثلاثاء 14-يناير-1997
بلا حدود
شهدت بداية الموجة الباردة التي تجتاح أوروبا حينما كنت في إيطاليا قبيل أيام من انتهاء العام ١٩٩٦م، وتحديدًا بدأت اشعر بها في مدينة ريمني الساحلية المطلة على البحر الأدرياتيكي أثناء حضوري المؤتمر السابع والعشرين لاتحاد الجاليات والهيئات الإسلامية في إيطاليا، فقد كانت العواصف والأمطار هي السمة البارزة لليل والنهار خلال الأيام الأربعة التي قضيتها هناك، وكانت درجات الحرارة دون الصفر معظم الوقت ولا سيما في الليل، أما البحر الأدرياتيكي المعروف بهدوئه وصفائه، فقد كانت أمواجه هادرة، والرياح من قبله عاصفة قارسة، لا تخترق الملابس على سماكتها، وإنما تخترق لحم الإنسان إلى عظامه، ولم تكن هذه الأجواء إلا بداية لموجة برد عاتية عصفت بالنصف الشمالي من الكرة الأرضية؛ فقتلت خلال أسبوع واحد ما يزيد على ثلاثمائة شخص، فيما لجأ عشرات الآلاف من المشردين إلى الملاجئ ومحطات مترو الأنفاق للاحتماء بها من الصقيع القاتل هنا في أوروبا.
أما الولايات المتحدة، فعلاوة على الصقيع والثلوج التي تغمر أجزاء واسعة منها، غمرت مياه الفيضانات مساحات شاسعة من غربها، وأغرقت آلاف المنازل، وأجبرت عشرات الآلاف على النزوح ضمن سلسلة متواصلة من الفيضانات والأعاصير والحرائق التي تجتاح هذه المناطق بشكل منتظم، لتدرجها وسائل الإعلام والتقارير الرسمية الغربية ضمن ما يسمى بالكوارث الطبيعية.
لكن نظرة المسلم لهذه الكوارث يجب أن تختلف عن نظرة غير المسلم لها، ولا سيما أن العامين الماضيين ١٩٩٥م، و ١٩٩٦م قد شهدا من الكوارث- بأنواعها وفي مناطق مختلفة من العالم- ما يدعو المسلم أن يتوقف عند هذه الكوارث وحجمها الهائل، باعتبارها ليست كوارث طبيعية كما يقال؛ لكنها من سنن الله التي يأخذ بها الناس؛ ليذكرهم- سبحانه- بدينونة الكون له، وخضوعه لمشيئته، وأن التقدم التقني الهائل الذي وصل إليه الغرب، والأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء لترصد كل حركة وسكنة- على سطح البسيطة- قد عجزت- وستظل عاجزة- عن مواجهة هذه السنن التي تدخل ضمن القدرة المطلقة والحصر الكامل لما قدره الله- سبحانه وتعالى- لما خلق ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام:59).
ولا أستطيع هنا أن أقف على عدد وحجم الأعاصير والبراكين والزلازل والفيضانات والعواصف والزوابع التي تضرب جوانب الأرض كلما شاء الخالق- سبحانه وتعالى- أن يأخذ بعض الناس ﴿بِعَذَابٍ بَـئيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف:165)، أو لحكمة يعلمها وحده، ولكن لنأخذ بعض الأمثلة البسيطة.
ففي الولايات المتحدة التي تعتبر أقوى دول العالم وأكثرها تقدمًا، نجد أن وكالة الطيران والفضاء الأمريكية ناسا، قد خصصت أكثر من قمر صناعي لرصد كتل الغيوم وتحركات الرياح التي تجوب الولايات المتحدة؛ حيث تقوم آلات التصوير الفضائية التابعة لهذه الأقمار بالنقاط ٥٠٠ صورة في الثانية الواحدة لرصد أدق الشرارات الكهربائية الصغيرة والمفاجئة التي تتولد منها الأعاصير والزوابع، ومع ذلك عجز العلماء الأمريكيون عن رصد كيفية وأسباب تشكل الأعاصير والزوابع التي تضرب جوانب الولايات المتحدة على مدار العام.
ويقول البروفيسور هاوارد بلوستين الباحث في جامعة أوكلاهوما، والذي يدرس منذ عام ١٩٧٧م ظاهرة أعاصير التوريندو الشهيرة التي تضرب الولايات المتحدة: إن أحدًا لا يعرف بالتحديد لماذا يتشكل العديد منها هذا اليوم، في حين لا يظهر لها أي أثر في يوم آخر يتصف بنفس الشروط اللازمة لولادتها، وتضرب مناطق الولايات المتحدة ۸۰۰ زوبعة وإعصار قوي كل عام تدمر في طريقها الأخضر واليابس، وتشرد مئات الآلاف، وتكلف الخزينة الأمريكية عشرات المليارات من الدولارات، وتقذف الرعب في قلوب ملايين الأمريكيين، ورغم أن الولايات المتحدة خصصت فرقًا علمية ليس لرصد هذه الأعاصير، وإنما لملاحقتها، إلا أنها عجزت حتى الآن عن معرفة ساعة وقوعها، أو حتى مواجهتها.
وحتى ندرك حجم الخسائر الهائلة التي تسببها هذه الكوارث لميزانية الولايات المتحدة، فقد كلف زلزال واحد ضرب كاليفورنيا في عام ١٩٩٥م الخزينة الفيدرالية ١١.٥ مليار دولار، أما اليابان التي تعتبر أكبر دول العالم تقدمًا في التكنولوجيا، فلم تستطع مواجهة الزلزال الذي ضرب مدينة كوبي في ١٧ يناير ١٩٩٥م، وخلف وراءه ما يقرب من ستة آلاف قتيل و ٢٧ ألف جريح، ودمر ما يقرب من مائة وعشرة آلاف مبنى ومسكنًا، وبلغ مجمل الخسائر المادية التي خلفها الزلزال مائة مليار دولار أمريكي.
أما فيضان القرن الذي ضرب أوروبا في نفس الفترة التي وقع فيها زلزال اليابان في يناير ١٩٩٥م، فقد أدى في هولندا إلى إجلاء ما يقرب من مائتين وخمسين ألف شخص عن منازلهم بعدما أغرقها الفيضان، وقدرت غرفة التجارة في إقليم غلدرلاند الهولندي خسائر الفيضانات وعمليات الإجلاء بما يتجاوز ٥٦٠ مليون دولار.
أما فرنسا فقد انقطعت مياه الشرب فيها عن ٢٤٠ ألف شخص، وألحقت الفيضانات أضرارًا بأربعين ألف منزل، وحرمت ٢٥٠ ألف شخص من الكهرباء.
أما في ألمانيا فقد تعرضت مدينة كولون القديمة لأضرار فادحة، وتم ترحيل ١٥ ألف شخص عن منازلهم.
وفي لوكسمبورج تم إجلاء المئات أيضًا، فيما أظهرت الصور التلفزيونية مئات القرى والمدن في أوروبا، ولم يعد يرى فيها إلا بيوت خاوية تغمرها مياه الفيضانات.
وقد رصدت منظمة التعاون والتنمية حجم الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الفيضانات بأنها بلغت من عام ۱۹۷۰م حتى عام ۱۹۹۰م حوالي ٥٠ مليار دولار، وهو مبلغ تقديري لصعوبة الحصر الدقيق لما تسببه الفيضانات التي تجتاح العالم من خسائر سواء أكانت اقتصادية أم بشرية، ورغم التقدم الصناعي والتكنولوجي الهائل في الغرب، إلا أن أوروبا وقفت عاجزة أمام مياه فيضان القرن الذي اجتاحها في يناير ١٩٩٥م تمامًا، كما وقفت اليابان عاجزة أمام زلزال القرن الذي ضرب إحدى مدنها في نفس الفترة، كما تقف الولايات المتحدة عاجزة أمام ۸۰۰ إعصار وزوبعة تضربها كل عام، فلا تملك حتى الآن- بكل ما لديها من قوة- أن تكتشف أسرارها أو مواعيد حدوثها وولادتها بدقة.
ولا تقف تلك السنن عند هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أهل العالم الأول، وإن كانوا هم أكثر الناس تعرضًا لها على مدار العام، وإنما تضرب أيضًا أهل ما يسمى بالعالمين الثاني والثالث، ففي روسيا قتل أربعة آلاف شخص في الكوارث التي وقعت بها في عام ١٩٩٥م، منهم ألفان في الزلزال الذي ضرب جزيرة سخالين.
أما في الصين فقد قتلت الفيضانات في عام ١٩٩٤م خمسة آلاف شخص، وفي عام ۱۹۹٥م قتلت أربعة آلاف شخص، كما خلفت الفيضانات في ذلك الوقت خسائر اقتصادية بلغت أكثر من ٢٥ مليار دولار، أما فيضانات العام ١٩٩٦م، فقد خلفت وراءها أكثر من ١٢ ألف قتيل وأربعة ملايين مشرد، وتدمير ما يقرب من مليون منزل، وإلحاق الضرر بما يقرب من ثلاثة ملايين منزل آخرين، مما أعاد إلى الصين المخاوف من فيضانات أعوام ۱۹۳۱م و ١٩٣٥م و ١٩٥٤م، التي خلفت وراءها حسب الإحصاءات الرسمية ما يزيد على ٣٠٠ ألف قتيل.
ولم تنج بنجلاديش أكثر دول العالم فقرًا من الفيضانات هي الأخرى، حيث بلغ عدد المشردين فيها من جراء الفيضانات التي ضربتها في يوليو ١٩٩٦م أربعة ملايين مشرد، وعلاوة على ذلك، فقد ضربت الزلازل والكوارث- ولازالت تضرب كل يوم- أنحاء متفرقة من العالم، دون أن تكون هناك رؤية حقيقية لدى معظم البشرية لأسباب هذه الكوارث التي هي في حقيقتها من جند الله وسنته التي لم تغب منذ أخذ الله- سبحانه وتعالى- قرى الأولين ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود:102).
ومع أن البشر أصبحوا يشاهدون هذه الكوارث عبر شاشات التلفزة ووسائل الإعلام العالمية بشكل يومي، إلا أن جحودهم ونكرانهم لذات الله يزداد يومًا بعد يوم، ويغيبون عن أنفسهم حقيقة التفكر في هذه الكوارث، ويظنون أنهم أصبحوا قادرين على الأرض بالتكنولوجيا التي أوصلهم الله إليها، فيما الحقائق تؤكد أنهم لا يملكون دفع أدنى الضر عنهم، ولكن إذا ضلت البشرية كلها، فإن المؤمن لا يضل، وإذا ظلت وسائل الإعلام تدعي أن ما يحدث هو كوارث طبيعية، فإن معتقدات المسلم توجب عليه أن يوقن أن ما يحدث هو سنن إلهية، وعليه أن يتعوذ بالله من أن يأخذه بها،﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود:102)..
تنويه: سوف أعود للقراء- إن شاء الله- بعد إجازة قصيرة تنتهي مع نهاية شهر رمضان المبارك، وكل عام وأنت بخير.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل