; التدهور الأخلاقي وفضائح الكنيسة في بريطانيا تثير التساؤل عن: موقع الدين في حياة الإنجليز | مجلة المجتمع

العنوان التدهور الأخلاقي وفضائح الكنيسة في بريطانيا تثير التساؤل عن: موقع الدين في حياة الإنجليز

الكاتب هشام العوضي

تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996

مشاهدات 35

نشر في العدد 1197

نشر في الصفحة 42

الثلاثاء 23-أبريل-1996

• الكاتب بول جونسون يقول: الشباب لا يجد من الكنيسة سوى التنازل عن مبادئ الدين نفسه.. حيث تصور لهم الدنيا على أنها عبارة عن رقص وتصفيق، وأن الآخرة ستكون حفلًا موسيقيًا كبيرًا 

«الإيمان عندكم أنتم - المسلمين- يزيد وينقص، أما عندنا نحن -الإنجليز- فينقص باستمرار»، هذه الكلمة التي قالها رجل إنجليزي تلخص موقع الدين في المجتمع البريطاني، وتبرهن على أن مساحته في انكماش متنام، فالإحصائيات تشير إلى أن ٧,٧٪ فقط من الشعب البريطاني يواظبون على حضور الأنشطة التعبدية، ٢٪ من هذه النسبة كاثوليك و١,٢٪ مسلمون، أما الغالبية المتبقية فليس لها توجه ديني أو أيديولوجي محدد، ومن هنا فبريطانيا - كما تقول الكاتبة ليندا جرانت - بلد نصراني بالاسم فقط.

وهذه النصرانية الضامرة هي التي جعلت الإنجليز لا يقدرون غور الجرح الذي أحدثه سلمان رشدي في مشاعر المسلمين في العالم، ويستنكر قيام المظاهرات التي تطالب فيها الجالية المسلمة بمعاقبة الكاتب وسحب كتابه «آيات شيطانية» من الأسواق، لا لمجرد إساءته إلى الإسلام، ولكن إلى الذات الإلهية وجميع الأديان أيضًا، ولكن الإرث العلماني لم يقبل أن يكون التعرض إلى الذات الإلهية مبررًا لمنع الكتاب.

فالتعريض بالدين من السلوكيات المقبولة في المجتمع الإنجليزي ولا يلقى مرتكبها استنكارًا، وفي وسائل الإعلام المختلفة يتخذ من الدين ومن رجاله ومؤسساته مادة للسخرية والضحك في البرامج الكوميدية الشهيرة، هذا الواقع المتدني هو الذي تشير إليه الكاتبة ليندا جرانت من صحيفة «الجاردیان».

وكتب نيكولاس والتر في إحدى المجلات الأسبوعية ينعى حظ الدين في وسائل الإعلام البريطانية مشيرًا إلى أنه أخذ في التردي والانتكاس، ويفتقر إلى المعالجة الجادة كما في المواضيع السياسية والاقتصادية، ويشير والتر في مقالته الطويلة في الـ New Staesman إلى أن الإعلام في وادٍ والدين في وادٍ آخر، فقد راقبت الإذاعة والتليفزيون والمجلات والصحف في عيد الفصح فلم أجد أي اعتبار لهذه المناسبة الدينية»، الطريف أن والتر نفسه ليس نصرانيًا أو متدينًا، ويكتب في مجلة معروفة بخطها اليساري، ولكنه يشير إلى «اللادينية» كظاهرة تلف المجتمع البريطاني بأكمله، وتسيطر على اهتماماته العامة، وأن المناسبات الدينية يؤبه لها فقط لما فيها من مواضيع جدلية أو منافع تجارية.

قبل أيام قليلة عاش العالم النصراني مناسبة عيد الفصح، ويسميه الإنجليز الـEaster، والمفروض نظريًا على الأقل أن يتذكر الناس دلائل هذه المناسبة: قيام المسيح عليه السلام - في المعتقد النصراني - من تابوته وصعوده إلى السماء، ولكن

الإعلام ينتهز الفرصة لإثارة مواضيع أخرى مثل: هل «الكتاب المقدس» كلام الله؟

(مجلة التايم أثارت الموضوع مطولا وفي تسع صفحات كاملة) وهل قام المسيح عليه السلام من تابوته أم لا؟ وما هي المدارس القائلة بالإيجاب من عدمه؟ (فتحت جميع الصحف الإنجليزية فوجدت صفحاتها لمختلف الآراء حول الموضوع). وقد يقول القارئ المسلم: إن في هذه التساؤلات خير دليل على نقلة في التفكير النصراني، ولكن الحقيقة هي أن الإعلام يريد أسوأ من ذلك، فهو يود نقل الناس من الإيمان النسبي إلى الإلحاد المطلق وإلى التشكيك في جميع المعتقدات الدينية - ومنها الإسلام - ما لم يؤيدها الدليل العلمي والبرهان المختبري الملموس، وهذا انعكاس آخر لانحطاط مستوى التدين في حسِّ المجتمع بكافة مؤسساته الفاعلة.

هذا بالنسبة للمواضيع الجدلية، فكيف تكون المنافع التجارية؟ فعلًا.. لقد خرجت المناسبات الدينية عن نطاق الدين نفسه، ودخلت في دائرة الاستغلال والكسب غير المشروع، ففي المجتمع البريطاني الرأسمالي تتحول المناسبات الدينية إلى مناسبات استهلاكية أو إلى مجرد سلع وبضائع، فالمفروض أن تكون رأس السنة أو ما يسمِّيه الإنجليز بالكريسماس احتفالًا دينيًا بولادة المسيح - عليه السلام - غير أنه في الواقع يتحول إلى مناسبة لشراء الهدايا الثمينة واستهلاك كمية كبيرة من اللحوم والخمور مصحوبًا بتدهور أخلاقي واضح، والصنف الواعي من الشعب يدرك أنَّ المناسبات الدينية لا يُحتفل بها بهذه الطريقة، ولكنها الأعراف من أجل زيادة الأرباح وتكثير الزبائن، كما كانت هناك محاولات من البعض للتعرف على عادات المسلمين في الاحتفال بأعيادهم الإسلامية كعيدي الأضحى والفطر، وكيف يمكن للعالم النصراني أن يتخلى عن ماديته الجارفة ويتعلم من جيرانه المسلمين.

هل الشباب الإنجليزي متدين؟

إذا كان التدين غريزة فطرية، فالحاجة إلى هذه الغريزة تكون أقوى ما تكون في فترة الشباب، ومن هنا فالسؤال عن تدين الشباب الإنجليزي سؤال شائك، وليس له جواب بسيط، وقد أجرت إحدى الكنائس الكبرى مؤخرًا دراسة استغرقت ثلاث سنوات من البحث حول الفئة العمرية التي ترتاد الكنائس في بريطانيا، فكانت النتائج غير سارة، تشير الدراسة إلى أن عدد الذين يذهبون إلى الكنيسة قد انخفض إلى الثلث في السنوات السبع الماضية، فمنذ ١٩٨٧م وسن ما بين ١٤ -١٧ قد انخفض بنسبة ٣٥٪، وسن ما بين ١٨ -٢١ انخفض بنسبة 34.1٪ من حضور الكنائس، وأضاف التقرير الصادر بعنوان Youth A Part أن الشباب لم يعد يشعر بالراحة في الذهاب إلى الكنيسة التي ترتبط في حسِّه بالملل وعدم الراحة، وتحاول بعض الكنائس حاليًا إدخال بعض عناصر الجذب في برامجها الدينية كالغناء والرقص، ولكن يبدو أن مثل هذه المحاولات تبوء بالفشل، ويقول أحد رجال الكنيسة «أيون هارلاند» معلقًا على نتائج التقرير: إن مجرد الغناء والرقص لن يرغب الشباب في الدين، والمفترض على الكنيسة نفسها أن تطور وسائلها وتكون أكثر تحديثًا، بمعنى أن تقترب أكثر من هموم الشباب ومشاكلهم، فتتناول مواضيع حساسة مثل البطالة والمخدرات والتفكك الأسري والمسائل الأخلاقية، ويكشف التقرير الذي استجوب ٦٠ ألف شاب أن الشباب يريد أن يرى دورًا ملموسًا للكنيسة في المشاكل العالقة والظواهر غير العادلة كالنوم في الشوارع، وليس مجرد إصدار التقارير، ويستنتج التقرير أن النتائج لا تثبت أن الشباب لا ينزع إلى الدين، ولكن تبين أن الكنيسة نفسها فشلت في احتوائهم واستيعاب عالمهم.

وحول نفس الموضوع كتب بول جونسون في الديلي تلجراف «٧ من إبريل الحالي» مقالًا مطولًا انتقد فيه أداء الكنيسة في علاقتها مع الشباب، قائلًا: إن الشباب بطبيعته ثوري وبحاجة إلى إشباع غريزة التدين فيه، ولكن لا يجد من الكنيسة سوى التنازل عن مبادئ الدين نفسه من أجل جنبه، وهذا لا يجلب احترامه، بل يولد سخطه على الكنيسة، وتتمثل تنازلات الكنيسة في أنَّها تقول للشاب ما تظن أنه يريده «بدلًا من أن تقول له: إن الطريق شاق وأبواب الجنة صعبة، تجذبه بقولها: إن الطريق واسع ومفروش بالورود، وجهنم مجرد أسطورة، والكلام عن المعصية كلام غير عصري والأوامر العشرة (لا تسرق، لا تقتل، لا تزن .. إلخ) أوامر اختيارية. وتبين لهم أن الحياة في هذه الدنيا عبارة عن رقص وتصفيق، وتعدهم أن الحياة الآخرة ستكون حفلًا موسيقيًا كبيرًا!»، والشباب لا يرغب في هذا مطلقًا- فقد جاء إلى الكنيسة هربًا من هذه السلوكيات - ولكنه يريد أن يسمع من يقول له العكس تمامًا، من يقول له - كما يصف جونسون: «كن صادقًا دومًا وأمينا في كل تعاملاتكـ ولا تفكر بنفسك فقط ولكن في الآخرين أيضًا، أطع أبويك أو أولياء أمورك، واعمل بجد حتى تكون نافعًا وفي خدمة مشيئة الله، وتذكّر أن الله قريب من قلبك، ومطلع على جميع خفاياك، فكن طاهرا في قلبك وعقلك حتى يرضى عنك».

كيف ينظر الشعب إلى الكنيسة؟

كلام بول جونسون خطير جدًا وصريح؛ لأنه يعطينا صورة واضحة عن المستوى الذي وصلت إليه الكنائس في بريطانيا، وفشل بعضها في جذب الناس إليها، هذا المستوى لا يشجع قطاعًا كبيرًا من الناس على النظر إلى الكنيسة - المؤسسة الدينية الأولى في بريطانيا - نظرة احترام وتقدير، خاصة وأن رجال الكنيسة محل سخرية الكثير من البرامج الإعلامية كما أسلفنا القول، ومما يزيد في فقدان الاحترام الانقسام الذي يراه الإنجليز في الكنائس، وقد أشار إلى ذلك بوضوح ستيفن جلوفر عندما كتب عن الانقسام الطائفي في الكنيسة الإنجليزية يقول: «هناك كنائس الغناء والتصفيق، وهناك كنائس للعزف على الجيتار، وهناك كنائس تسمح بوجود قسيسات وأخرى لا تسمح بوجودهن، وهناك كنائس تصلي باللغة الحديثة، وأخرى باللغة القديمة من سنة ١٦٦٢م، وهناك قساوسة يؤمنون بقيام المسيح – عليه السلام – (بعد الصلب) وواحد أو اثنان لا يؤمنون بذلك» «الديلي تلجراف ٥ إبريل الحالي».

ولا يقف الانقسام الكنسي عند حد الآراء الدينية فقط فهذه حالة قديمة قدم الكنيسة نفسها، وإنما يشمل التدني في المستوى الأخلاقي أيضًا، فقد انتشرت في بريطانيا ظاهرة القساوسة الذين يكشفون عن شذوذهم الجنسي ويتكلمون في ذلك إلى الصحافة بصراحة، ويعلنون عن دعمهم للوبيات الشواذ الآخذة في التنامي في بريطانيا مؤكدين على أن النصرانية لا تدين الشذوذ وأن كلام الكتاب المقدس عن قوم لوط ينبغي إعادة النظر في تفسيره، وظهرت تصاريح أخرى من الكنيسة تقول: إن الشذوذ شيء طبيعي؛ لأنه وراثي في الچينات كما تقوم بعض الكنائس «بعقد القران» بين الشواذ على الملأ وبمباركة الدين، وبين آونة وأخرى تظهر فضائح أخلاقية أخرى تكشف عن حالة التدني التي وصلت إليها الكنائس، فقبل فترة قصيرة قدم أحد القساوسة استقالته بعد أن كشفت الكنيسة أنه يقوم بالتحرش الجنسي بمن يحضرون كنيسته للصلاة معه، وقامت وسائل الإعلام بتغطية الفضيحة كاملة، مثل هذه الأحداث وأحداث أخرى لم يكشف عنها الإعلام بعد تشوه سمعة الكنيسة وتدفع بالناس تحت وطأة المادية إلى مزيد من العلمانية. وفي حالات كثيرة إلى الإلحاد، وقد يكون البديل هو الإسلام، ولكن الهجمة الشرسة على الإسلام- إضافة إلى تصرفات بعض المسلمين غير المسؤولة - تعرقل هي الأخرى قبول الناس الإسلام بسهولة، فيكون البديل في الغالب هو القبول بالأمر الواقع أو الانخراط في البوذية أو أية طائفة من الطوائف الدينية الأخرى.

موقع الدين في السياسة البريطانية

بريطانيا تشهد انحدارًا أخلاقيًا في مختلف ميادينها. والمقارنة هنا ليست بين بريطانيا وبقية الدول الأوروبية كفرنسا وهولندا، فبريطانيا تظل أكثر الدول محافظة، ولكن المقارنة بينها وبين عهدها الفكتوري السابق والحقبة الفكتورية - نسبة إلي الملكة فكتوريا - هي أشد فترات بريطانيا اهتمامًا بالأخلاق والآداب العامة، الانحدار الأخلاقي الحالي بانت معالمه في السياسة البريطانية كذلك، فقبل عامين رفع رئيس الوزراء جون ميجور شعاره الإصلاحي «العودة إلى الأوليات» بعد أن زادت حالات التجاوز الأخلاقي في تصرفات الكثير من وزراته، ولكن دعوة ميجور لم تكن دعوة صريحة للعودة إلى الدين بقدر ما كانت دعوة عامة للتحلي بالأخلاق الكريمة، ففي المجتمع البريطاني العلماني يعتبر الحديث عن «الدين في السياسة» حديثًا حساسًا لا يتطرق إليه أحد. 

توني بلير يحطم القاعدة

وهذا الكلام ليس صحيحًا في مطلقه، ففي ٧ إبريل الحالي استطاع رجل المعارضة توني بلير تحطيم هذه القاعد عندما تكلم في الدين بصراحة منذ أن صار رئيسًا لحزب العمال، ففي حوار أجرته معه جريدة الديلي تلجراف الصادرة يوم ٧ أبريل الحالي، انتقد بلير حزب المحافظين وسياستهم المفرطة في «الفردية، في إيحاء منه إلى النصراني الحق لا ينبغي أن يعطي صوته إلى حزب المحافظين ولكن إلى حزب العمال؛ لأن هذا الحزب يؤمن بالجماعة أولًا ثم بالفرد ثانيًا، وعلى الرغم من بساطة هذا الكلام إلا أنه أثار ضجة استمر صداها لعدة أيام في الصحافة البريطانية وكتب حولها تنديدًا وتأييدًا الكثير من الكتاب والسياسيون المعروفون، ويصرف النظر عن تفاصيل التعليقات إلا أن الحدث في مجمله كان اختبارًا لموقع الدين من الخطاب السياسي، وكان التعليق العام بأن الدين لا ينبغي أن يستخدم لأغراض سياسية أو من أجل الوصول إلى السلطة «وهو تمامًا نفس خطاب بعض الأنظمة العربية حول مشاركة الإسلاميين في البرلمان».

وبلير ليس أول من «يستخدم الدين لأغراض سياسية» فقد حاولت رئيسة الوزراء الكاثوليكية مارجريت تاتشر ذلك من قبله مرارًا، واستشهدت بآيات من الكتاب المقدس؛ كي تبرر سياستها في بعض النواحي، ويقال: إن أكثر رؤساء بريطانيا تدينًا كان هارولد ويلسون «من حزب العمال» الذي بنى في مجلس البرلمان قاعة للصلاة وضمت حكومته في سنة ١٩٦٤م عشرة وزراء «متدينين».

ويرغب توني بلير - وتسميه الصحافة: رئيس الوزراء مع وقف التنفيذ - أن يزيل من الأفهام الصورة السلبية المأخوذة عن حزب العمال، من أنه حزب اشتراكي موالٍ لروسيا الشيوعية، ولهذا حرص بلير في حواره على انتقاد الماركسية بشدة والتأكيد على تدينه الشخصي، وقد كذبه البعض قائلًا: إن من بين أعضاء حزبه الكثير من الملحدين، بينما قال مؤيدوه: إن فيهم المتدين النصراني والمتدين اليهودي!.

وسبب الضجة أن الحديث عن الدين غير مرغوب فيه، وهو نفس السبب الذي أثار الناس علي الأمير تشارلز عندما صرح أنه إذا ما صار ملكًا فسيكون حامي جميع الأديان بما فيها الإسلام، وليس فقط البروتستانتية، وقال: إن بريطانيا صارت مجتمعًا متعدد الأديان، ولا ينبغي التفريق فيه بين مواطنيه.

هذه نظرة مجملة عن الدور الذي يلعبه الدين في حياة الإنجليز، وهو دور ضعيف جدًا وعلى الهامش، ويحتاج إلى جهود دعوية من المسلمين جبارة لو يفعلون.

الكنيسة الكاثوليكية في مونتريال تبحث عن موقعها في حياة الناس

تياران بارزان يتنازعان المجتمع في كيباك.. أحدهما يعمل على إنهاء دور المؤسسات الدينية والآخر يدافع عن التعدد الديني

مونتريال: جمال الطاهر.

أعلن كاردينال مدينة مونتريال في الفترة الأخيرة عن انطلاق الكنيسة الكاثوليكية في مرحلة تفكير شعبية تستغرق السنوات الثلاث القادمة بكاملها، وذلك في إطار محاولة الكنيسة معرفة موقعها في حياة الناس وتحسس ميولات هؤلاء فيما يتعلق بنوعية وحجم العبادات والطقوس، وطريقة عيشهم الجديدة، وليست هذه هي المرة الأولى التي تنظم فيها الكنيسة الكاثوليكية مثل هذه الاستشارة الشعبية الواسعة، بل إن دفاتر الكنيسة تشير إلى المرات العديدة السابقة التي انتظمت فيها مثل هذه الاستشارات في كل مرة يشعر فيها القائمون على الكنيسة بأتساع الهوة بينهم وبين مواطنيهم الذين تفتر علاقتهم بالكنيسة ويتراجع شهودهم وممارستهم للطقوس لسبب أو لآخر يتعلق برغباتهم وظروف عيشهم.

ولم يخف كاردينال مدينة مونتريال مشاعر القلق التي تسيطر على القائمين على الكنيسة الكاثوليكية في مثل هذا الزمن الصعب الذي تستقبل فيه البشرية تحولات عميقة قد تمس حياتهم الفردية والجماعية، وكذلك معتقداتهم وعلاقتهم بالدين، ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية في مقاطعة كيباك «الفرنسية» قد عرفت طوال العقود الأخيرة تراجعًا كبيرًا في إشعاعها الديني والاجتماعي، وخاصة بعد الثورة الهادئة التي عرفها المجتمع في مطلع الستينيات والتي كان من نتائجها تحجيم دور الكنيسة وتقليص تأثيرها في الحياة الاجتماعية والمجتمعية من خلال تجريدها من أهم مصادر قوتها التي كانت تتمثل في إشرافها وإدارتها للعديد من المصالح الحيوية في المجتمع كقطاعات التعليم والتربية والصحة والتوجيه الاجتماعي وحتى الاقتصادي.. فقد كان لقيام هذه الثورة الهادئة على مبدأ أساسي هو تكريس لائكية الدولة وعلمانية المجتمع أثره البالغ في محاصرة الاعتبار الديني في حدوده الفردية والشخصية وتهميش الكنيسة وابتعاد الناس عن الدين.

أما اليوم، فإن القائمين على الكنيسة يرون في الحصيلة السلبية للعقود الثلاثة الأخيرة التي هيمنت فيها أفكار ومبادئ الثورة الهادئة مبررًا هامًا لتجديد الكنيسة سعيها نحو إعادة التموقع الإيجابي في قلب المجتمع وضمن مختلف أبنيته وأنسجته لإصلاح ما أفسدته الثورة الهادئة على المستويات الأخلاقية والقيمية والاجتماعية والثقافية واستعادة ما أمكن من أتباعها الذين انفضوا عنها في المراحل السابقة مستفيدين في ذلك من الدور الإيجابي الذي ما فتنت تقوم به المؤسسة البابوية في الفاتيكان في السنوات الأخيرة في الدفاع بصلابة ومبدئية عن بعض القيم الإيجابية التي تتهددها المخاطر الكبرى من الثقافات المادية والانحلالية المعاصرة (الإجهاض، المخدرات، الفقر..).

ونظرًا لتمكن العلمانية واللائكية من المجتمع ونخبه، فإن مثل هذه المراجعات والمبادرات الإيجابية للكنيسة ورغبتها في إعادة مكانتها في المجتمع كطرف فاعل وليس هامشيًا، قد أثارت جدلًا وسجالات وخلافات كبيرة داخل أوساط النخبة في كيباك التي يشقها تياران بارزان، الأول لائكي يعمل من أجل تكريس اللائكية المطلقة للدولة والمجتمع وإنهاء ما تبقى من اهتمامات الدولة ومؤسسات المجتمع بالمسألة الدينية ومن ارتباط ولو شكليًّا بين الدولة والكنيسة أو المجتمع الديني، أما التيار الثاني فإنه وإن كان علمانيًا هو الآخر إلا أنه يقدم نفسه مدافعًا مبدئيًا عن التعدد الديني في المجتمع معتبرًا أن الهوية الدينية لهذا المجتمع إنما تكمن في تعدده وتسامحه الديني.. فلا يزال هذا التيار ينظر إلى الدين على أنه مسألة شخصية، ومن منطلق أنه حق للأفراد والمجموعات على الدولة احترامه وحفظه ورعايته، وهو لهذا عنصر هام في توازن الشخصية الفردية والجماعية، كما أن هذا التيار لا يزال ينظر إلى الكنيسة على أنها مؤهلة للقيام بدور هام في الإحاطة الروحية والاجتماعية للفرد والمجموعة.

قوة الكنيسة الكاثوليكية

إن الملفت للانتباه في حالة المجتمع الكيبيكي خاصة والكندي عامة هو أنه رغم الظاهر العلماني للثقافة والمجتمع والدولة ورغم قوة وتمكن التيار اللائكي وهيمنته فإن الكنيسة الكاثوليكية لا تزال تحافظ على نسبة محترمة جدًا من المنتسبين إليها من مجمل عدد السكان، حيث تفيد إحصائيات كندا لسنة ١٩٩١م أنه يوجد من بين ٢٧,٢٩٦,٨٥٩ كاثوليكيا مقابل ٩,٧٨٠,٧١٥ بروتستانت، أما في مقاطعة كيباك، وفي إطار نفس إحصائيات سنة ١٩٩١م فقد مثل عدد الكاثوليك من جملة سكان المقاطعة ٦,٨٩٥,٩٥٣ ما جملته ٥,٨٦١,٢٠٥ مقابل ٣٩٨,٧٣٠ بروتستانتيًا، ويبدو اتساع دائرة المنتسبين إلى الكنيسة الكاثوليكية واضحًا وجليًا أيضًا في حدود مدينة مونتريال حيث إنه من بين ١,٧٧٥,٨٧١ ساكنًا بها ١,٢٢٨,٧٦٠ كاثوليكيا مقابل ١٧٦,٧٥٥ بروتستانتيًا فقط، رغم هذا الكم الهائل من المواطنين الذين يصرحون بانتسابهم إلى الكاثوليكية، فإن عدد الممارسين فعليًا لأبسط الالتزامات التعبدية مثل صلوات الأحد والميلاد قد شهد خلال العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا دفع القائمين على الكنيسة إلى تعجل الدخول مرة أخرى في مثل هذه الاستشارة الشعبية الواسعة حول الميولات الدينية لمنتسبيها.

ورغم أن الكنيسة ومنتسبيها لم يتجرؤوا على الدعوة لإعادة الاعتبار الديني في تسيير شؤون الدولة وإحاطة وتوجيه المجتمع، فإننا نجد أن النخبة التي هي في غالبيتها الغالبة لائكية تتعامل بحساسية مرهفة جدًا مع مبادرات الكنيسة ومطالبها وتوجهاتها الإصلاحية، وأبلغ مثال على هذا الصد اللائكي «العنيف» الديني هو المراجعات التي تعمل المركزية النقابية لقطاع التعليم على إدخالها على النظام التربوي والتعليمي بالمقاطعة، وتدور هذه المراجعات في عمومها حول تغيير فلسفة التعليم وهيكليته الإدارية الحالية القائمة على أساس الانتماء الديني حيث توجد لجنة للمدارس الكاثوليكية يرتاد مؤسساتها الكنديون الناطقون بالفرنسية والمهاجرون المقيمون في المقاطعة، ولجنة أخرى للمدارس البروتستانتية يرتاد مؤسساتها الكنديون الناطقون بالإنجليزية المقيمون في المقاطعة أيضًا، ويطالب هؤلاء اللائكيون من خلال المركزية النقابية بحل هاتين اللجنتين، ومن ثم عدم اعتبار الانتماء الديني واستبدال كل ذلك بمؤسسات تعليمية تقوم على أساس التنوع اللغوي «فرنسي – إنجليزي» لائكية مائة بالمائة لا مجال فيها للتعدد الديني تتمحور وظيفتها الرئيسية في التعليم أكثر من التربية التي هي مسؤولية الأسرة رغم هذا الصد «العنيف» لتيار اللائكية ضد أية محاولة لإعادة طرح مسألة الاعتبار الديني كقضية مجتمعية تهم المجموعة، كما تهم الفرد فإن المتتبع للساحة الثقافية في كيباك خاصة وفي  كندا عامة يجد صدى لأصوات أخرى معتبرة من أوساط النخبة العلمية، وخاصة العاملة ضمن أقسام الدراسات الدينية والعلوم الاجتماعية تنسجم إلى حد ما مع توجيهات ورغبات الكنيسة في إعادة النظر في مسألة موقع الاعتبار الديني من الحياة الفردية والجماعية، ولا يعنى هذا الانسجام تطابقًا في الخلفية والمقصد النهائي بين الجهتين، ذلك أن هؤلاء الباحثين وهم يتحركون في اتجاه طرح كضرورة حيوية يمكن أن توازن شيئًا ما الشخصية الفردية والجماعية داخل المجتمع الغربي المعاصر الذي أهلكته مغالاته في القيم المادية والانحلال الأخلاقي والتفكك القيمي، فإنهم لا يبدون رغبة كبيرة في العودة إلى التراث المسيحي في الغرب وإحياء ما يمكن إحياؤه من قيمه الروحية وأخلاقه الإيجابية، بل إن الغالب على أطروحات هؤلاء الباحثين في هذه المسألة هو الإعراض عن هذا التراث إعراضًا يكاد يكون كليًا، وذلك لما ارتبط بالتجربة التاريخية للكنيسة في كيباك خاصة من مآسٍ وويلات ومتاعب عانى منها الناس طويلًا، وعلى هذا، فقد نشطت المحاولات والدراسات في اتجاه دراسة حضارات وثقافات الشرق الأقصى والثقافات الأخلاقية والروحية ومن ضمنها الإسلام «الصوفي» أو «الروحاني». ولتعزيز حظوظ نجاحها في مهمتها الإصلاحية تحاول الكنيسة الكاثوليكية بمونتريال الاستفادة من توجهات الفاتيكان نحو تفعيل الكاثوليكية ومؤسساتها من خلال التعبئة والزيارات الجماهيرية التي لم ينفك البابا يقوم بها في هذه القارة وتلك ومن خلال الحضور الفاعل في المؤتمرات والمحافل الدولية «مؤتمرات الأمم المتحدة حول السكان والمرأة والتنمية» ومن خلال التحرك في قضايا اجتماعية حساسة كالفقر والإجهاض والمخدرات والأسرة والطفولة..

تصفية الملفات الصعبة

ومن خلال السعي لاستيعاب التطورات التقنية والمنهجية الحديثة مثل الإنترنت والإعلام والدعاية والتوسل بها ومن خلال تحسين العلاقة مع أغلب حكومات العالم في إطار حرص الكنيسة على تصفية موروثها من الملفات الصعبة أو المستعصية، بما في ذلك العلاقة مع اليهودية عامة ودولة إسرائيل خاصة، فبعد إعلان قيام العلاقة الدبلوماسية بين الفاتيكان ودولة إسرائيل في سنة ١٩٩٤م بعدما برأ البابا اليهود من دم المسيح، أعلنت مصادر الفاتيكان عن نية البابا زيارة المدينة المقدسة «القدس» لأول مرة خلال الفترة القريبة القادمة بعد استقباله بمكتبه لأرملة رابين رئيس وزراء إسرائيل المقتول.

الواضح إذن أن هذه الحركية «المتميزة» التي تشهدها الكنيسة الكاثوليكية في مونتريال خاصة وفي العالم المسيحي عامة إنما تأتي ضمن إستراتيجية واضحة ومتكاملة للفاتيكان الهدف منها تأهيل الكنيسة لاستيعاب التطورات الحالية والمرتقبة التي يمكن أن يشهدها عالم الإنسان، وخاصة في الغرب على جميع المستويات «المعلومات، الأخلاق، الذوق، نمط العيش..» وأمام ما يبديه التيار اللائكي في الغرب بجميع روافده «الحركة النسوية وحركات الشذوذ الجنسي».. من صد قوي لمبادرات الكنيسة ومشاريعها، فإن المرحلة القادمة من هذا السجال والتفاعل داخل بيئة الثقافة والمجتمع الغربيين جديرة بالرصد والمتابعة والتحليل من طرف المسلمين وخاصة منهم المقيمين في الغرب وذلك لاستشراف ورصد التحولات المرتقبة والحسن المتوقع، وتبيين المداخل والسبل الأنجع للحفاظ على مكاسب الإسلام وأرصدة المسلمين في الغرب بل والعمل على تنمينها، فهل ستنجح الكنيسة في مهمتها الإصلاحية؟ وهل ستدفعها مهمتها هذه في اتجاه تحسين علاقتها مع الإسلام والمسلمين؟ وهل سيكون لنجاحها أو فشلها تأثير مباشر وكبير على مستقبل الأقليات المسلمة في الغرب؟

الرابط المختصر :