العنوان شرق المتوسط.. وحرب الاتفاقات البحرية
الكاتب د. سعيد الحاج
تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
مشاهدات 12
نشر في العدد 2147
نشر في الصفحة 41
الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
شرق المتوسط.. وحرب الاتفاقات البحرية
بينما أنقرة تنادي بترسيم الحدود البحرية وفق ما يقتضيه التوزيع العادل تريد أثينا التقسيم على أساس التنصيف
اليونان لم تكتف بالتشبث بموقفها لكن سعت لتشكيل تكتل إقليمي يدعمها في مواجهة تركيا
أنقرة سعت لإبرام اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع مصر إلا أن أثينا بادرت بإبرام اتفاق لترسيم جزئي معها
مصر وتركيا تدركان أن هناك مصلحة جوهرية لهما في ترسيم الحدود البحرية
على مدى السنوات العشر الأخيرة، باتت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط إحدى أهم بؤر التوتر في العالم، ومناط اهتمام القوى الإقليمية والكبرى، بعد أن اكتشفت فيها بعض أحواض الغاز الطبيعي؛ دفع ذلك مختلف دول الحوض إلى تسريع وتكثيف جهودها في التنقيب عن الموارد الطبيعية، لكنه أيضاً زاد من مستوى المنافسة والتوتر بينها إلى درجة غير مسبوقة باتت تنذر باحتمالات المواجهة العسكرية.
يعدُّ الخلاف التركي – اليوناني من أقدم الخصومات التقليدية في المنطقة وأكثرها تعقيداً، فبينهما عداوة تاريخية تجتمع فيها الأبعاد الدينية والقومية والسياسية والإستراتيجية والحضارية معاً، كما أن جزر بحر إيجة من الخلافات الرئيسة بينهما منذ تأسيس الجمهورية التركية، فضلاً عن القضية القبرصية منذ ستينيات القرن الماضي.
لكن الخلاف الأكثر حدة ووضوحاً حالياً هو التنافس المرير بينهما على حدودهما البحرية، وما ينبني عليه من مناطق اقتصادية خالصة وجرف قاري في شرق المتوسط، وهو ما اتخذ شكلاً متسارعاً في السنوات القليلة الماضية.
تتناقض رؤية البلدين بشكل كامل؛ فبينما تنادي أنقرة بترسيم الحدود البحرية وفق ما يقتضيه المنطق والتوزيع العادل بين الدول، تريد أثينا التقسيم على أساس التنصيف أو «خط المنتصف»، ولكن ليس بين برها والبر التركي، وإنما بين الأخير والجزر اليونانية العديدة المنتشرة.
فإذا ما وضعنا في الحسبان أن جزيرة «مييس» بالتركية أو «كاستيلوريزو» باليونانية تقع على بعد 2 كم فقط من الساحل التركي، و580 كم من الساحل اليوناني، وتخيلنا كيف يمكن ترسيم الحدود البحرية بينها وبين تركيا، وأن هناك عدداً آخر من الجزر قريباً من هذا الوصف، أدركنا إلى أي حد تتعرض أنقرة للغبن والحيف وفق الرؤية اليونانية.
ولذلك، تحاجج تركيا بأن الجزر، لا سيما الصغيرة منها وغير المأهولة بعدد كبير من السكان، لا ينبغي أن يكون لها جرف قاري مستقل فضلاً عن أن يكون مساوياً لدولة إقليمية كبيرة مثل تركيا تملك الساحل الأطول على شرق المتوسط، لا سيما أن بعض هذه الجزر، وحسب ما سبق تفصيله، تقع أصلاً ضمن المياه التركية.
لم تكتف اليونان بالعناد والتشبث بموقفها، وإنما سعت لتشكيل تكتل إقليمي يدعمها في مواجهة تركيا، مستفيدة من حالة الاستقطاب التي تعمقت في المنطقة مؤخراً، وهكذا نشأت في عام 2018م وفي قمة ثلاثية مصرية - يونانية - قبرصية فكرة إنشاء منتدى لغاز شرق المتوسط للتنسيق بين مختلف الدول، أعلن المنتدى في يناير 2019م بمشاركة هذه الدول مضافاً لها الأردن والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني وإيطاليا، وبات واضحاً من تأسيس المنتدى وأعضائه ثم بياناته ومواقفه الصادرة لاحقاً أنه يتجاهل حقوق تركيا في شرق المتوسط ويتبنى الرواية اليونانية، بل يصل لحد الاستهداف.
مصر على الخط
رداً على ذلك، انتهجت تركيا سياسة ثنائية على التوازي؛ فقد سعت أولاً للبحث عن شركاء لها في المنطقة، فأبرمت في نوفمبر 2019م اتفاقية لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، التي تبعتها اتفاقية للتعاون الأمني والعسكري، بما أعادها للعبة شرق المتوسط بقوة وأفادها وأفاد ليبيا، بل ومصر.
والمسار الثاني كان إثبات نفسها وقوتها أمام هذه الأطراف، وإيصال رسالة بأنه لا يمكن تجاهلها ونكران حقوقها، وهذا ما فعلته من خلال زيادة عدد سفنها للمسح والتنقيب في شرق المتوسط وكذلك قواتها العسكرية الحامية لها.
إضافة لذلك، فقد سعت أنقرة لإبرام اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع مصر، الدولة الأخرى التي تملك مثلها ساحلاً طويلاً على شرق المتوسط التي –في المقابل– لا تتمتع بعلاقات طيبة معها منذ أحداث 3 يوليو 2013م.
ففي يوليو 2020م، أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عن حصول اجتماعات بين البلدين للحوار حول ترسيم حدودهما البحرية، كما أنها جمّدت مؤقتاً أنشطة المسح والتنقيب في شرق المتوسط إثر وساطة ألمانية لنزع فتيل التوتر الذي أدى لبعض الاحتكاكات مع اليونان، تمهيداً لحوار ثنائي بخصوص الحدود البحرية، إلا أن أثينا فاجأتها بإبرام اتفاق لترسيم جزئي للحدود البحرية مع القاهرة.
كما هو واضح ومعلن أيضاً من قبل اليونان، فهدف هذا الاتفاق الأساس هو نقض الاتفاق التركي – الليبي الذي سبقه، ورغم ذلك حملت القنوات الدبلوماسية رسائل طمأنة من مصر لتركيا، بأنها حرصت على ألا تكون طرفاً في النزاع التركي - اليوناني المذكور، بل إن جهاز المخابرات المصري أبلغ نظيره التركي بوجود سوء فهم في الموضوع، وفق ما قال الرئيس التركي.
وبالتالي ساهم ذلك في تراجع حدة التوتر بين البلدين، بعد أن ارتفعت على مدى الأسابيع السابقة إثر التقدم الميداني الذي حققته حكومة الوفاق الوطني الليبية بدعم تركي، وتهديد القاهرة بتدخل عسكري مباشر في ليبيا إذا ما تخطت قواتها خط سرت – الجفرة.
صِدام أم حوار؟
وهكذا، أصبحنا في شرق المتوسط أمام اتفاقين متناقضين ومتداخلين؛ اتفاق تركي – ليبي لا تعترف به أثينا والقاهرة، واتفاق مصري – يوناني لا تعترف به أنقرة وطرابلس الغرب، كما أن تركيا ترى أن الاتفاق الأخير ينتهك حقوقها وحقوق ليبيا، وهو ما توافقها عليه حكومة الوفاق الليبية.
انبنى على ذلك أن تركيا استأنفت نشاطها في المسح والتنقيب بعد أن كانت جمدته مؤقتاً كبادرة حسن نية تجاه اليونان، وهددت بأنها لن تسمح بأي أنشطة في مناطقها التي ينتهكها الاتفاق المصري – اليوناني وفق تقييمها، زادت أنقرة وكذلك اليونان من تواجدهما العسكري في المنطقة، وحصلت بعض الاحتكاكات بين سفنهما في شرق المتوسط، ما أعاد للأذهان مرة أخرى سيناريوهات المواجهة العسكرية.
نظرياً هناك عدة سيناريوهات محتملة للمستقبل، ولكن عملياً يمكن جمعها في خمسة رئيسة: الحوار المباشر، أو الوساطة، أو التحكيم الدولي، أو التصعيد العسكري، أو بقاء الأوضاع على حالها.
بالنظر إلى التطورات الأخيرة والتراشق بين مختلف الأطراف، لا يبدو أن هناك أرضية جاهزة حالياً لحوار مباشر بين تركيا واليونان، كما أن الاختلاف الكبير في وجهات النظر، إضافة لعدم توقيع تركيا على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار يصعّبان كثيراً من فكرة التحكيم الدولي حالياً، في المقابل؛ فإن التطورات الأخيرة رفعت نسبياً من احتمالات المواجهة العسكرية بين الجانبين، وكذلك من كلفته إن حصل، وهو تحديداً ما يدفع الطرفين لمحاولة تجنبه.
ولذا، يبدو أن المراوحة في المكان هو السيناريو الأرجح على المدى القصير، بحيث يكتفي الطرفان بتبادل الرسائل السياسية والعسكرية الباردة والساخنة، واللعب على حافة التصعيد دون تعمّد اللجوء له، بينما يمكن أن تتهيأ الظروف لوساطة بينهما على المدى المتوسط، من ألمانيا كما في المرة السابقة أو من أي طرف آخر مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
أما بالنسبة لمصر وتركيا، فرغم الاتفاقات الموقعة ورغم الخلاف الكبير في ليبيا، فإن الجانبين يدركان جيداً أن هناك مصلحة جوهرية وحقيقية لكليهما في ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يبدو السبب وراء الرسائل الإيجابية المطمئنة بالاتجاهين مؤخراً، ورغم ذلك، لا يبدو أن الجانبين مستعدان اليوم لحوار شامل ومباشر بينهما، إذ سيحتاج ذلك لمرحلة إعداد واستكشاف مواقف منهما في البداية.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل