العنوان المجتمع التربوي (1168)
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1995
مشاهدات 30
نشر في العدد 1168
نشر في الصفحة 54
الثلاثاء 26-سبتمبر-1995
وقفة تربوية
تأمل أيها الإنسان
في هذه اللحظات التي أعقبت صلاة الفجر من يوم الإثنين 14/ 8/ 1995م، استلقيت على ظهري في كوخ أبدع صانعه، في وسط جزيرة لا ترى فيها إلا الخضار، والأشجار تحفنا من كل جانب، وتطل على أكبر بحيرة في ماليزيا، ولا يوجد في الجزيرة أحد سوانا مع الطاقم المشرف على هذا المنزل الجميل، مما يعطي الجو مزيدًا من الإحساس بالجمال البكر، الذي لم تعبث به يد إنسان، كما لا يوجد ذلك الإنسان الذي يحيل هذا الجمال الذي أبدعه الخالق إلى مناظر تقشعر منها النفوس السوية لقبحها.
أستمع في هذه اللحظات إلى تغاريد الطيور من أنواع مختلفة، فئة تمد في صوتها، وفئة ترسل التغريد متقطعًا، وأخرى تخلط بين المد والتقطيع، في أصوات يرد بعضها على بعض، وتختلط بعضها مع الأخرى، في جو لا يذكرك إلا بالجنة، حتى تحدث نفسك قائلًا: إذا كان هذا الجمال في الدنيا، فكيف هو في الجنة؟ التي أخبرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
كما يُذكرني ذلك التغريد بواجب التسبيح الذي فطر الله عليه ذلك الطير البهيج، فلا ينساه في سفر ولا حضر، ولا ينام عنه، ولا يتردد في القيام به، وهو الذي خلق من غير عقل، فكيف بهذا الإنسان الذي خلق الله له العقل ليعرف من خلاله ما يضره وما ينفعه؟ فكيف يغفل عن تذكر الذي أبدع كل شيء؟ ويقول بعد الاستغراق في التأمل لخلق الله «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» يقول تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ﴾ (الأعلى: 10: 13).
أبو بلال
شمول ميدان العبادة لكل جوانب الحياة
بقلم: محمد أبو سيدو
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: «العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال وأعمال باطنة وظاهرة، فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق، والآداب، أو العادات والتقاليد».
ميدان العبادة فسيح، فالمباحات إذا صاحبتها نية صالحة صار العمل بها من محاسن القربات، فمن يغفل عن هذه الأمور فلا يحول تصرفاته وعاداته وعمله الذي يقوم به إلى عبادة يؤجر عليها، فإن آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة وقضاء الوطر من الأهل إلى المساهمة في بناء المجتمع، كل ذلك من العبادة إذا قارنته نية صالحة.
قال الإمام ابن القيم- رحمه الله- «يُثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر».
المؤمن الكيس الفطن هو الذي يحول العادات التي يقوم بها إلى عبادات يجعلها في ميزانه، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل» وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى».
ويقول صلى الله عليه وسلم في الإصلاح بين المتخاصمين «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟»، قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة» (أي التي تحلق الدين).
وعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كل مسلم صدقة» قال: أفرأيت إن لم يجد؟ قال: «يعمل بیده فينفع نفسه ويتصدق» قال: أفرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال: «يُعين ذا الحاجة الملهوف» قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: «يأمر بالخير أو بالعدل»، قال: أفرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإن له صدقة».
فالإنسان مهما ضعفت قوته فإنه لا بد أن يجد عبادة يؤديها في يُسر وسهولة، فكل معروف يفعله الإنسان عبادة يقوي بها إيمانه، وكل معروف صدقة.
وعن أبي برزة قال: قلت يا رسول الله: مرني بعمل أعمله، قال: «أمط الأذى عن الطريق فهو لك صدقة»، ومن توجيهات معلم البشرية صلى الله عليه وسلم «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلق حسن- تبسمك في وجه أخيك لك صدقة».
وهكذا فالأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته والسعي على نفسه وأهله يمكنه أن يحولها إلى باب من أبواب العبادة والقربات إلى الله.
مر على النبي صلى الله عليه وسلم: رجل فرأى أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال: إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان.
وكذلك المرأة في بيتها تستطيع أن تكسب الكثير من الحسنات، وأن تحول كثيرًا من أعمالها المنزلية إلى عبادة تؤجر عليها عند الله فمن أمسى كالًا من عمل يده أمسى مغفورًا له، فالمرأة عند قيامها بخدمة زوجها والقيام بشؤونه وطاعة أوامره والتزين له قاصدة بذلك طاعة الله وابتغاء مرضاته فهي مأجورة على كل هذه الأعمال.
كذلك عند قيامها بتربية أبنائها وإطعامهم وإلباسهم وتعليمهم أمور دينهم، وإحسان أدبهم، محتسبة ذلك الأجر عند الله وابتغاء رضاه، فهي مأجورة على كل هذه الأعمال، وهكذا فالسابقون لم يكتفوا بأداء العبادات، بل حولوا العادات إلى عبادات.
والأعمال التي يقول بها المسلم تكون نابعة من النية الصادقة وحب العمل ابتغاء وجه الله: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أحد الصالحين إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، وقال بعض السابقين: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله يأجر العبد إذا أحسن نيته، حتى اللقمة، ومن استعان بالمباح الجميل على الحق فهو من الأعمال الصالحة، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).
آلام وآمال
الأسرة المسلمة في ضوء الكتاب والسنَّة (1 من 3)
بقلم: د. جاسم المهلهل الياسين
إن الإسلام دين يحث على بناء الأسرة ويقرر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، وهو الخلايا التي يتألف منها ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي.. «المجتمع الإسلامي»، إن البيت الواحد قلعة من قلاع الإسلام، ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وواجب المؤمن أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، وأن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدًا، ولا بد من الأم المسلمة، فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة، لا بد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات، وهذا عرض موجز لنظام الأسرة المسلمة في ضوء الكتاب والسنة.
لم يعرف العالم نظامًا للأسرة أسعد من النظام الإسلامي، وإليه يرجع الفضل في بقاء الأمة الإسلامية، واستعصائها على الفناء، رغم ما قاسته من نوازل وخطوب وما زالت الأسرة المسلمة حتى اليوم تؤدي واجبها في المجتمع تثبت دعائمه، وتقوي بنيانه، شاهدة على صدق الرسالة المحمدية، وإصلاحها للحياة في كل زمان ومكان.
وفي هذا العصر يشتد الهجوم على الإسلام دينًا بعد نجاح أعدائه في حربه دنيا، إن نجاحهم في تمزيق كتلته، وتوهين قوته، وخفض رايته أغراهم بالهجوم عليه وطعنه عقيدة وشريعة.
الهجوم على الأسرة
وكان نظام الأسرة في الإسلام هدفًا لطعن خبيث وهجوم دائب، هذا يشنع على إباحة تعدد الزوجات ويستنكره، وآخر يستفظع إباحة الطلاق ويستهوله، وهذه تصرخ من تقرير قوامة الرجل وتفزع، وأخرى ترفض الحجاب الإسلامي، وتقول: «رجعية وجمود»، وليعلم الكارهون لهذا النظام الناقمون عليه أنهم يحاولون عبثًا ويطلبون محالًا، حين يتوهمون أن من الممكن أن تفقد الأسرة المسلمة كيانها، وأن تنبذ الأمة الإسلامية نظامها، وتنقض عهدها، فإن هذه الأمة قد جربت هذا النظام قرونًا عديدة، وعاشت به أجيالًا سعيدة، وما زالت معجبة به متحمسة له ترى غيره من الأنظمة باطلًا، وتشاهد من مآسي الأمم والشعوب الأخرى ما تحمد به نظامها، وتمسك به!! بل إن محاولة تطبيق نظام غيره في هذه الأمة لا تفلح، ولو صارت قانونًا نافذًا، وأمرًا واقعًا، والشواهد على ذلك في تلك الدول التي فرضت أنظمة مسخت بها النظام الإسلامي للأسرة، فما يزال سواد الشعب هناك ينفذ قواعد الإسلام للأسرة، ويحرص عليها، رغم نبذ تلك الدول لها.
فإن الأسرة التي ينشدها التشريع الإسلامي هي الأسرة الطيبة، التي تكون نواة المجتمع الطيب الذي يقوم على أسس قوية من الكتاب والسنة، ويؤسس على الإيمان والحب في الله والتواد والتراحم وإخلاص النوايا وغرس القيم الدينية وآداب التربية الشرعية التي نص عليها الكتاب، وبينتها السنة المطهرة. لقد حث الإسلام على بناء الأسرة المسلمة ودعا الناس إلى أن يعيشوا في ظلالها إذ هي الصورة المثلى للحياة المطمئنة التي تلبي رغائب الإنسان وتفي بحاجات وجوده، ولهذا وضع التشريع الإسلامي قواعده التنظيمية في بناء الأسرة ونوجز في ذكر تلك القواعد:
قواعد بناء الأسرة
القاعدة الأولى: النهي عن زواج المسلم بمشركة: قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ (البقرة: 221).
وذلك لأن الحياة الزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، ولا يمكن أن تقوم إذا انقطعت العقيدة والإيمان، وهما قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى.
القاعدة الثانية: إباحة زواج الكتابيات: قال الله تعالى:
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ (المائدة: 5).
ونقول: لا يتزوج المسلم بالكتابيات إلا إذا دعت المصلحة إلى الزواج بهن، لما في ذلك من أضرار اجتماعية قد تلحق الأمة الإسلامية، ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم والأسرة من الداخل، فالذي لا يمكن إنكاره واقعيًا أن الزوجة اليهودية أو النصرانية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلًا أبعد ما يكون عن الإسلام.. وبخاصة في هذا العصر الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية.
القاعدة الثالثة: حرية المرأة في اختيار الزوج: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر» (رواه البخاري) فالتشريع الإسلامي يمنع إكراه البالغة على النكاح بكرًا كانت أو ثيبًا، وكم للإكراه من بلايا وعواقب وخيمة، وخير شاهد على ذلك قصر العدل هنا!!..
المجتمع التربوي
دروس من سيرة الكليم عليه السلام (1 من 2)
بقلم: شوقي محمود الأسطل
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ (مريم: 51، 52)
وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يتمثل ويتأسّى بهذا النبي الكريم في مواطن الابتلاء، فقد روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لما كان يوم حنين آثر رسول صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة... فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه.. ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (متفق عليه).
لقد تمثل عليه الصلاة والسلام بأخيه موسى في صبره ومصابرته، وثباته على أمر ربه رغم كل المعوقات وصنوف الابتلاءات.. لقد كان كليم الله طودًا شامخًا في وجه الأعاصير التي لازمته منذ ولادته وحتى رحيله..
على مائدة هذا النبي الكريم ومن وحي سيرته العطرة سنتعلم دروسًا عبر هذه الوقفات.
1- إرهاصات تسبق مولد المنقذ
جاء عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة أن فرعون رأى في منامه كأن نارًا قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط، ولم تضر بني إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة، وسألهم فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان، والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز حتى جعل رجالًا وقوابل يدورون على الحبالي، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته.[1]
إنها أساليب الطغاة الإجرامية البشعة يلجؤون إليها كدليل على إفلاسهم وهمجيتهم وسفه عقولهم، ظانين أنها ترد قدرًا، أو تعيق سننًا، وأنى لهم ذلك إذ العاقبة للمتقين، وجند الله هم الغالبون.
2- عناية الله تحيط بالوليد
أراد الله أن يسخر من هذا الطاغية، ويجعله عبرة لصغار الطغاة، على اختلاف الأعصار والأمصار، فشمل الوليد بعظيم حفظه، وعنايته وأحاطه بكل أسباب الحفظ، ونجاه من كل سوء أريد به ليقضي من خلاله أمرًا كان مفعولًا، وقدرًا كان مسطورًا.. وقد تجلت عناية الله به من خلال الآتي:
1- إلهام أمه بإلقائه في البحر:
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7).
وأترك الميدان هنا لشهيد الإسلام سيد قطب، لنعيش معه في ظلال هذا المشهد، حيث يقول- رحمه الله- «لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية، ولد والخطر محدق به والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تجتز رأسه، وها هي ذي أمه حائرة به خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة عاجزة عن حمايته عاجزة عن إخفائه عاجزة عن حجز صوته الفطري، أن ينمَّ عليه، عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة... هنا تتدخل يد القدرة فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل وتوحي إليها بالتصرف.. يا لله يا للقدرة يا أم موسى أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك، إذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني، إنه هنا في اليم في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها، اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها، اليد التي تجعل النار بردًا وسلامًا، وتجعل البحر ملجأ ومنامًا، اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعًا أن يدنو من حماها الآمن العزيز الجناب».
إنا رادوه إليك فلا خوف على حياته ولا حزن على بُعده.. وجاعلوه من المرسلين، وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.[2]
ب- خروجه من البحر سالمًا معافى:
قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص: 8)
سبحان المدبر العظيم الحكيم، أُلقِيَ في البحر فرارًا من بطش فرعون، فإذا به بين يدي آل فرعون لتتم القصة فصولًا، وتنسج يد القدر خيوطها.
ج- تسخير امرأة فرعون:
﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (القصص: 9).
قال ابن كثير: إن فرعون لما رآه هم بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل، فشرعت امرأته آسيا تخاصم عنه، وتذب دونه، وتحببه إلى فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كذلك. وهداها الله بسببه، وأسكنها الجنة بسببه.
د- صنع الله حيال جزع أمه:
قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القصص: 12، 13)
لقد رفض الغلام كل مراضع أحضروها لحكمة أرادها خالقه كي تقر عين أمه التي أصبح فؤادها فارغًا من كل شيء إلا ذكره، ويعود الغائب إلى أحضانها لترضعه من غير خوف ولا وجل، وتتقاضى الأجر على ذلك، وممن؟ من فرعون، وسبحان من ذلت له الجباه.
3- العمل الفردي وتغيير الواقع
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ (القصص: 14، 15).
لقد أتيحت لموسى فرصة التعبير عما يجيش في صدره، تجاه الظلم المبين الذي يعيش في ظلاله أبناء قومه، فهذا رجل من قومه يقتتل مع عدو لهما فهل يقف متفرجًا؟
لا بد من تغيير المنكر والأخذ على يد الظالم.. وتأتي الضربة القاضية التي شاء الله أن تكون فيها نهاية العدو، ولكن موسى لم يرد قتله، وإنما جاء القضاء هكذا، لقد أراد الله تأديبه فقتله، وندم على ما كان منه، ﴿قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ (القصص: 15)
لقد أدرك موسى أن هذا العمل قد يجر عليه البلاء، ويعرضه لخطر مواجهة لم يحن وقتها، ولم يستعد لتبعاتها، إذ الأشياء مرهونة بأوقاتها، ووقت المواجهة لمّا يأتِ بعد، وهذا العمل الفردي الذي أقدم عليه لن يغير شيئًا من الواقع السيئ الذي يعيش فيه قومه، إذ التغيير محتاج إلى عمل جماعي منظم متكامل وهذا أمر غير متوفر الساعة، وعملية قتل واحد من الأعداء، لن تغير قانونًا جائرًا، ولن تبدل واقعًا قائمًا، إضافة إلى أنها قد تعرضه لبطش الجبارين، وظلم قوانينهم.
وما أعظمه من درس حري بالدعاة تأمله وتدبره، فالعلم الفردي المرتجل غير المدروس لم يكن طريقًا للإصلاح والتغيير يومًا ولن يكون، وفي تاريخ الدعوات البرهان على ما نقول: وها هو موسى يعيش في قلق واضطراب عقب هذا الحادث الذي لم يجرّ عليه ولا على قومه نفعًا، قال تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (القصص: 18).
ويكتشف فرعون أمره في نهاية الحادثة فيجد في البحث عنه لإنزال العقاب به.
٤- تسخير الناصح
قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 20، 21)
لقد عرف الملأ وهم من قوم فرعون وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى، وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد والانتصار لبني إسرائيل، وإذن فهي ظاهرة خطرة تستحق التآمر ولو كانت جريمة قتل عادية، ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء، فانتدبت يد القدرة واحدًا من الملأ الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون، الذي يكتم إيمانه، والذي جاء ذكره في سورة غافر: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ﴾ (غافر: 28).
انتدبته ليسعى إلى موسى من أقصى المدينة في جد واهتمام ومسارعة ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك.[3]
إن قصة هذا المؤمن تعطي للداعية درسًا في التفاؤل، وعدم الركون إلى اليأس، فهذا رجل من الجهة المعادية المعاندة ينير الله قلبه بنور الإيمان، فينتقل إلى الخندق الآخر، ويسخر كل طاقاته في خدمة دعوة الحق، والذب عن صاحبها معرضًا نفسه لبطش الجبابرة، وانتقام الطغاة، من بني قومه، وسبحان من بيده مفاتيح القلوب، وما حركة الكائنات إلا ستار لقدره ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: 56).
5- الانتقال إلى بيئة الجد وشظف العيش
ولتكتمل التربية والإعداد الإلهي لموسى عليه السلام ليكون مؤهلًا لتلقي الرسالة، يشاء الله له الانتقال من بيئة الترف والرفاهية، ومخالطة أصحاب الجاه والسلطان إلى بيئة التقشف والعمل الجاد، والكدح المتواصل، ومخالطة الرعاة وعامة الناس، كي يكتسب خبرة جديدة في الحياة، ويتم له التعرف على طبقات من الناس، ربما لم تسنح له الفرصة للتعرف عليهم أثناء الفترة السابقة من حياته في أرض مصر، إضافة إلى استفادته من ذاك الرجل الصالح علمًا وخلقًا وأدبًا، واقترانه بابنته.
6- شوق الغريب إلى الأهل والوطن
قالوا: إن مما يدل على معدن الإنسان حنينه إلى الأوطان وشوقه إلى الإخوان، لقد اشتاق موسى إلى أهله ووطنه، بعد عشر سنوات من الفراق واستعد للرحلة مع أهله وفي نيته أن يدخل الوطن متخفيًا من الطغاة وعلى رأسهم فرعون، ولكن المفاجأة ستغير كل شيء. فقد اختار الله موسى للرسالة وهو في طريقه إلى أرض مصر، وبذا فقد ولى عهد التخفي والإسرار لتبدأ مرحلة جديدة مختلفة في الشكل والمضمون.
النافذة التربوية
أنهار وجداول
يخاف بعض المزارعين ممن يقطنون بجوار الأنهار على زروعهم من موسم فيضانها فيشقون الجداول ليصرفوا المياه، وهم بذلك يضربون عصفورين بحجر واحد:
الأول: تقليل فرص فيضان مياه الأنهار.
الثاني: إيصال المياه إلى أماكن بعيدة عن مجرى النهر دون تعب.
إن طاقات البشر مثل هذه الأنهار إذا لم توجه التوجيه الصحيح فإنها تهدم وتدمر، ولذا فيجب على الدعاة والمربين اكتشاف هذه الطاقات أول الأمر، ومن ثم استغلالها في العمل والدعوة.
لقد اكتشف المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم مواهب صحابته وعرف ما يتميز به كل واحد منهم عن غيره، كيف لا وهو الذي يقول: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد ابن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (صحيح الجامع الصغير ٨٩٥).
ومثل هذه المعرفة الدقيقة بمن هم حولك، لا تكون إلا بالمعاشرة والملازمة، لأن النفس البشرية مثل الكهف لا يحكم عليه من ظاهره، إلا بعد سبر أغواره والسير في ظلمته سيرًا فيه حذر، يتحسس فيه المرء بلطف شخصية من يعامل حتى يكتشف طاقاته، ويتعرف على مواهبه، التي هي مفتاح لقلبه، وبها ينقاد المرء دون تعب.
وإذا أحس الواحد منا بمن يهتم بموهبته التي يجيد، فإنه يفرح لذلك، لأنه أصبح له دور في الحياة ومثل هذا الشعور يجعله أكثر تمسكًا بالمحيط الذي يجد فيه نفسه فاعلًا ومؤثرًا، وهكذا نستطيع تصريف هذه الطاقات لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض، بالإضافة إلى أننا منعنا تصريفها في مجال آخر قد يكون مدمرًا للفرد والمجتمع.
ولا بد من تنمية هذه المواهب وصقلها بالدورات التدريبية والاحتكاك بأصحاب الخبرات، ومثل ذلك كفيل بصنع جيل من المبدعين، يقودون المجتمع وكلهم ثقة في نفوسهم وقدراتهم.
والله سبحانه لم يخلق أحدًا عبثًا دون فائدة- وحاشا لله ذلك- فلكل منا قدرات تختلف عن الآخر، ومهما كانت هذه القدرات في بساطتها، إلا أننا قد لا نجدها عند بعض المبدعين، والتكامل بين أفراد الجماعة لا يتم إلا بهذا التباين والتنوع.
وخلاصة القول: إن السعيد منا هو الذي يوفق الله له مُرَبٍّ حاذق يكتشف مواهبه فينميها ولا يحطمها.
عبد اللطيف محمد الصريخ
- هوامش
[1] البداية والنهاية لابن كثير جـ 1 ص ۲۳۸.
[2] في ظلال القرآن -سيد قطب- جـ 5 ص ٢٦٧٨.
[3] في ظلال القرآن -سيد قطب- جـ 5 ص ٢٦٨٥.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل