العنوان صور من استخلاف بني إسرائيـــل
الكاتب د. أشرف دوابه
تاريخ النشر الأربعاء 01-فبراير-2023
مشاهدات 26
نشر في العدد 2176
نشر في الصفحة 42
الأربعاء 01-فبراير-2023
د. أشـرف دوابــه
تنتقل الآيات من استخلاف آدم عليه السلام إلى صور من الاستخلاف لفئة من بنيه وهم بنو إسرائيل، وكيف نزعت الخلافة منهم، وعزلت القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم لتعكس قيمة الاستخلاف كبؤرة لهذه السورة، بل وبؤرة للقرآن الكريم الذي أنزل لهداية البشر في الأرض؛ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة: 41)، وإن كانت هذه الآيات خاصة ببني إسرائيل، فإنها عامة في المعنى؛ فالعبرة ليست بخصوص الموضوع، ولكن عموم السبب، فيجب على كل مكلف في كل زمان أو مكان أن يعمل بها.
جاء الخطاب بنداء رباني جليل إلى بني إسرائيل أبناء يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، عليهم السلام، وإسرائيل هو يعقوب، وهي مأخوذة من كلمتين بالعبرانية؛ «إسرا» وتعني عبد أو صفوة، و«إيل» وتعني الله، وبذلك يكون معنى الكلمة «عبد الله» أو «صفوة الله».
وجاءت هذه الآيات لتذكرهم بنعمة الله عليهم، وهي في الوقت نفسه تكشف عن حقيقتهم؛ فهم قوم ينظرون للنعمة وتستهويهم المادة، وتجذبهم الدنيا ومتاعها، ويغفلون عن المنعم وهو الله تعالى، وشتان بين أن يكون الإنسان مع المنعم، وأن يكون مع النعمة، فالأول يعيش في معية الله ويستشعر فضله، والثاني يعيش في معية النعمة التي تستعبده، وهو واضح لوقتنا هذا في السلوك الاقتصادي لليهود وعبادتهم للمال.
كما طالبهم سبحانه وتعالى -بعد أن ذكرهم بنعمته عليهم- بالوفاء بعهده بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا برسله، ويخضعوا لأحكامه وشرائعه، فالفطرة السوية المبنية على الإيمان تفي بعهدها مع الله إيماناً به والتزاماً بأوامره واجتناباً لنواهيه وشكراناً على نعمه، وعلى قدر الوفاء بعهد الله تكون المنح من المنعم وفاء وفضلاً وتمكيناً في الأرض في الدنيا وسعادة في الآخرة، ثم جاء وعيد الله لهم بأمره سبحانه بأن يجعلوا خوفهم وخشيتهم ورهبتهم من خالقهم وحده، فلا قوة ولا قدرة في الكون إلا قوة الله، فهو المنعم والقادر على سلب النعم.
بين النعمة والمنعم
وهذه الآيات دعوة لذكر المنعم في كل حال ونسبة الأمر إليه، فما من نعمة بعبد إلا من الله الذي وهب للبشر حركة الحياة، وما سيق لعبد من واسع رزق ورغد إلا من الله، وعلى قدر الوفاء بعهد الله يكون قدر الإنعام، لذا فهذا الذكر يجب ألا يبارح البال، ولا يعرف النسيان، فهو حائط الصد ضد المحرمات، وهو والشكر لا ينفصمان، وقد أفاض الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى ذكره بدلاً من ذكر النعمة، فقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة: 152)، حتى تكون نظرتهم إلى المنعم، بعكس نظرة غيرهم من الأمم التي نظرتها إلى النعمة.
كما أنه من لم يحركه الإحساس بفضل الله والوفاء بوعده، فليرهب من الله، فكل شيء بأمره، ومن خاف فوت بعض المنافع، ونزول بعض المضار به، فليرهب كذلك من الله ولا يرهب سواه، فما عند الله خير وأبقى، وعهد الله أولى بالوفاء، وهذه دعوة للبشر للوفاء بالعهود من عقود ونحوها، فهذا داخل في ظلال عهد الله بعمل الطاعات وترك المحرمات.
ثم انتقل من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص، فطالبهم الله تعالى بالإيمان بالقرآن الكريم الذي جاء مصدقاً لهم من التوراة وخاتماً للكتب السماوية التي أصابها التحريف وهو منزه عن ذلك، وهم أولى الناس بالإيمان به وبالرسول الذي أنزل معه بصفتهم أهل كتاب، ونهاهم أن يكونوا على عكس ذلك بأن يكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، وشراء بآيات الله ثمناً قليلاً، ببيع دينهم بدنياهم.
إن الله تعالى حينما يتحدث عن صفقة الإيمان نجد استخداماً لكلمات اقتصادية؛ مثل كلمة «الشراء»، و«البيع» وكلمة «التجارة»، والتجارة هي وساطة بين المنتج والمستهلك، وبها يتم تيسير حركة دوران السلع وبيعها، وعملية الاتجار استخدمها الله ليبين أنها أقصر طريق للنفع، ونفع الآخرة الممدود لا يقاس مطلقاً بنفع الدنيا المحدود؛ فنعيم الدنيا على قدر قدرات البشر، ونعيم الآخرة على قدر قدرات رب البشر؛ فشراء الدنيا بالآخرة صفقة خاسرة لا محالة، لشراء زائل بنعيم خالد.
ومن هنا جاء قوله تعالى لليهود: (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)، وفي الصفقات تدفع الأثمان دائماً وتؤخذ السلع؛ فالشراء يكون بالثمن، فهذه الآية بينت أن الصفقة مقلوبة، بجعل الثمن سلعة والسلعة ثمناً؛ فالآيات موقع الثمن وقد دل على ذلك دخول الباء عليها، ومن ثم شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل، وهو ما يبرز غبن صفقتهم إذ استبدلوا خسيساً بنفيس؛ فآيات الله صارت ثمناً للحصول على مكاسب دنيوية مقابل تغيير الأحكام الشرعية وبيع الفتاوى الدينية، وأخذهم عرض الأدنى، فيا ليتها كانت ثمناً غالياً، بل ثمناً رخيصاً، فكل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه، وكيف لا يكون قليلاً وصاحبه يخسر عقله وروحه، فمن قمة الحمق وفساد السلوك أن يضحي عاقل بربح مديد ونعيم مقيم بثمن قليل ونعيم زائل، وزمن منتهٍ قليل.
النقود مقياس للقيم
وهذه الآيات يؤخذ منها كذلك أن النقود وإن كانت في طبيعتها سلعة لكنها في وظيفتها ليست كذلك؛ بل هي وسيط للتبادل ومقياس للقيم، وتحويلها لسلعة يتاجر فيها لا بها يخرجها عن وظيفتها؛ فهي لا تؤكل ولا تشرب ولا تلبس، ولكن تقضي بها حاجتك، فهي وسيلة لا غاية، فالمال قد يكون عبداً مخلصاً أو سيداً رديئاً، فهو عبدك حينما يكون وسيلة لقضاء حاجتك، وسيدك حينما يسيطر على قلبك وتصبح خادماً له.
كما أن هذه الآية تكشف عن جانب مهم ومعروف ومنظور من سلوك اليهود، فمحور حياتهم وحركتهم هو المال، ومن أجل ذلك نشروا الربا في العالم، وحولوا النقود لسلعة يتم تأجيرها بسعر الفائدة، وكانت فكرة البنوك لصيقة بتحقيق أهدافهم والخروج من حرج منع قرض اليهودي أخاه بالربا، ليكون البنك وسيطاً يقترض بسعر فائدة ويقرض بسعر فائدة لليهود وغيرهم، وتتحول الثروة في العالم إلى أيديهم بفعل آلية الربا الظالمة، التي تحقق للمرابي زيادة ثروته وغناه بدون عمل، وتزيد الفقير فقراً، والمقترض عبئاً سواء أكان فرداً أم مؤسسة أم دولة، وتفسد بذلك حركة النظام الاقتصادي.
وتختتم هذه الآيات بقوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)، وهي دعوة لتقوى الله في سلوكهم في واقعهم الذي يعيشون فيه، ووعيد فيما يعتمدونه من كتمان الحق وشراء الدنيا بالآخرة، ومن ثم يجب أن يستشعر المسلم في حياته كلها وعمله وسلوكه الاقتصادي هذا المعنى، ويفهم التقوى كما فهمها طلق بن حبيب: «أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
في الطريق إلى الانتعاشة الإسلامية.. «بنك إسلامي ينهض في دبي»
نشر في العدد 241
18
الثلاثاء 18-مارس-1975
إلى كل من يعنيه أمر اقتصادنا النفطي.. ما رأيكم بنصيحة هذا القارئ..؟
نشر في العدد 423
22
الثلاثاء 12-ديسمبر-1978