الثلاثاء 06-يونيو-1972
«إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره» «حسن البنا»
تحقيق: أبو هالة
* في هذه الأيام الحالكة السواد التي تجاوز «الضباب» فيها مراحله ليكشف عن قناعة السحب التي تظلل مشرقنا العربي.. باستحالة العصابات اليهودية إلى دولة إسرائيلية.. تشمخ بغرور انتصاراتها وتوسعاتها خلال ثلاثة وعشرين عامًا!! حتى لكأن أرض النبوات قد عقمت أن تنجب الأبطال من أصحاب العقيدة الإسلامية طوال هذه الحقبة من الزمن، وعجز المائة مليون ومن خلفهم ٦٠٠ ستمائة مليون أن يخرجوا ولو من تحت سراديب الأرض كتيبة واحدة تخلص العمل لله وتطهر الأرض في طريقها.. لا تلوى على شيء.. مستهدية «ببدر» «والأحزاب» و «حطين».
* وفي هذه الفترة التي علا فيها ضجيج الإعلام عن الحلول للمعضلة أو المشكلة كما يحلو لهم أن يسموها.. التقيت بالذين مارسوا الحل الوحيد في صمت، واستعانوا على تنفيذ رسالتهم بالكتمان، وآثروا ما عند الله على ما عند الناس.. وأخذت منهم بعض اللوحات الرائعة.. أعرضها على الذين يبدو أنهم أفاقوا بعد طول السنين ليقولوا.. لا مفر من القتال، ولا بد من أن نستعين بالله..
مع إمام مسجد
* التقيت به في مبنى وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.. قصير القامة، مطلق اللحية، تغمرها الشعرات البيض التي شابت في الإسلام.. يؤم المصلين الخمس صلوات في إحدى الضواحي النائية، يعيش مغمورًا، لا تصل إليه الأضواء ولا يرضى بأن يعرض نفسه لها.. مكتفيًا بالرجاء أن يحسن الله له الخاتمة!!
وانتحیت به جانبًا، ورجوته لوحة واحدة من اللوحات التي رسمها أبطال الحركة الإسلامية، والتي كان له دور فيها.. ووعدته أن لا اذكر اسمه، وأقنعته بأنها ليست ملكًا له وإن كانت جزءًا من حياته.. فإنها ملك المسلمين جميعًا..
معركة جبل المكبر
وجلست استمع للشيخ وهو يقول:
* في أغسطس سنة ١٩٤٨.. وفي فترة الهدنة التي فرضت على العرب لصالح اليهود استطاع العدو أن يتقدم لاحتلال مرتفعات «جبل المكبر» الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من القدس القديمة، وهو مرتفع منيع يستطيع من يحتله أن يهيمن على القدس كلها، ويقطع الطريق الرئيسي الذي يصلها «بعمان» فوق أن يتحكم في قوات الحركة الإسلامية التي ترابط في جنوب القدس..
* في الساعة الثامنة مساءً تحرکت جموع العدو اليهودي من أحياء القدس «اليهودية» ومن المستعمرات الواقعة في جنوبها وبدأوا يزحفون في سكون وهدوء.. بمدافع الهاون، وراجمات الألغام، ومدافع ٢٥ رطلًا والرشاشات الألمانية.. في قوات كثيفة العدد والعدة؛ لأهمية الموقع والخشية من أسوده.. الذين احتلوا قبل المعركة هذه بيومين بيتًا كان يقطع به اليهود الطريق إلى القدس.. فوصله الجيش اللجب واستطاع أن ينسف البيت على من فيه من رجالنا.. إلا أن إرادة الله شاءت أن يدمر البيت وينجو من فيه!! وذلك في العاشرة مساءً.. وأبلغت القيادة الإسلامية بأنباء التحرك اليهودي، فأعدت نفسها سريعًا لتلقنهم درسًا لن ينسوه، لكنها فوجئت بأن الطليعة الأمامية حول الجبل والتي كان عددها لا يزيد عن ستين مجاهدًا.. ثلاثون من أبناء فلسطين، وثلاثون من إخوانهم المسلمين المتطوعين.. يشتبكون مع هذا الجيش الزاحف تحت وابل من الحمم تتساقط على رءوسهم لتبتلعها أرض المعركة.. فلا تزيدهم إلا اندفاعًا في القتال، وسباقًا إلى إرضاء الله، وسطورًا يخطونها في سجل تاريخ الجهاد.. وما أن وصل القائد «محمود عبده» حتى كانت المعركة في أعنف مراحلها.. والعدو يستميت في احتلال الموقع ويقذف كتلًا هائلة لتحقق الغرض في أقصر وقت ممکن.. وكلما تكسرت موجة تحت أقدامنا تدفقت إثرها موجة أخرى.. فأصدر أوامره لنا معشر الستين أن ننسحب إلى الوراء، فظن العدو أن المقاومة قد انتهت، فتقدم بسرعة ليهتبل الفرصة واحتل مواقعنا.. في نفس الوقت كانت إحدى فصائلنا تدور إلى اليمين حتى اقتربت من الطريق الذي يستخدمه العدو في تحركاته، وأخذت تطلق النار على القوافل اليهودية التي تتوجه صوب المعركة.. بينما تقدمنا مرة أخرى تجاه مواقعنا المحتلة لنصلي العدو فيها نارًا على قمة الجبل...!!
فلم يكن لليهود حينئذ ما يحتمون به.. فقتل منهم عدد كبير.. وصعدنا الجبل وضيعنا على العدو الأمل، وکبدناه خسائر في الأرواح والعتاد لم يكن يتصورها..
حتى لجات بقاياه متسللة إلى المنطقة الحرام ودار الحكومة حيث يوجد مراقبو الهدنة..
لقد قدر عدد القتلى من الأعداء في هذه المعركة ٥٠٠ بخمسمائة يهودي حتى قال قائدهم أمام مراقبي الهدنة: لم نخسر في معركة خضناها منذ بداية الحرب مثلما خسرنا في هذه المعركة..!!!
-هل تدري يا أخي كم كانت عدة الستين مجاهدًا في هذه المعركة؟!
۲ مدفع هاون صغير٥ مليمتر، ۳ مدفع رشاش إنجليزي، والبنادق اللي أنفيلد الإنجليزية، والقنابل اليدوية ش. ف.
-هل تدري كم كان شهداؤنا في مواجهة قتلاهم الخمسمائة؟!
واحد من أبناء فلسطين أصيب بجروح ولم يستشهد!! وقائدنا «محمود عبده» - أطال الله عمره- الذي انسحب وجرحه ينزف دون أن يفطن لإصابته أحد سوى مرافقوه؟
-هل تدري ما هي مهنته في ذلك الوقت؟!
كان مدرسًا برأس التين الثانوية بالأسكندرية!!
-وصدق الله العظيم ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (الانفال:65)
صور من ملحمة كفاح الحركة الإسلامية
مع موظف بوزارة التربية
* وودعت الشيخ إلى وزارة التربية لأرجو الرجل القابع هناك خلف المكتب.. والذي لا يمكنك أن تتصوره أحد قادة المحاربين.. لرقة عاطفته ووداعته.. أرجوه لوحة خط رسومها بیدیه وصنعها مع إخوانه على أرض فلسطين.. ولم يبخل الرجل علينا مع مرضه أن يقدم لنا هذه اللوحة الرائعة.
معركة المصفحات بدير البلح عام ١٩٤٨
استطاع الفدائيون من شباب الدعوة أن يأسروا جاسوسًا يعمل لحساب اليهود عقب معركة مكشوفة بين الفدائيين واليهود على مشارف مستعمرة «كفار ديروم» التي كانت تعتبر من أهم مستعمرات الجنوب؛ لأنها تسيطر تمامًا على الطريق الواصل من خان يونس وغزة. قبض على الجاسوس وأجرينا معه الكثير من التحريات والتحقيقات التي انتهت بأن هذا الجاسوس يستطيع مخاطبة المستعمرة «الأم» التي تمد مستعمرات الجنوب بالعتاد والتموين والسلاح، وفعلًا أرسل رسالة لاسلكية بالعبرية تفيد بأن «رجال الحركة الإسلامية» يحاصرون مستعمرة «كفار دیروم» وأوشكت المستعمرة على السقوط في أيديهم ونرجو إرسال نجدة سريعة للمستعمرة!! فكان رد مدير العمليات الحربية في المستعمرة «الأم» أن تتحرك النجدة المكونة من ۱۲ مصفحة وعربة ومعهم ونش كبير لمساعدة النجدة في تحركها.. وهذه العربات عليها السلاح والذخيرة والتموين اللازم للمستعمرة.
وحدد المسئول الإسرائيلي طريق سير النجدة وساعة قيامها..
-فما كان منا إلا الخروج بفصيلة من الجنود المسلحين بالأسلحة السريعة الطلقات والمضادة للمصفحات، والانتظار في طريق قدوم النجدة في الوقت والمكان المحددين.. وما أن بدأت طلائع النجدة تظهر في الأفق البعيد، تنهب الأرض مسرعة حتى وجدت نفسها في الفخ الذي نصبناه لها -وقد كان هؤلاء اليهود وما اشتهروا به من خسة ونذالة ينهبون بيوت العرب الذين يمرون بهم، مستولين على الطيور والبط والأوز والدجاج من العزل- -فبدأت طلقاتنا توجه إلى العربة الأولى فتوقفت، وتوقف الركب بأسره من شدة المفاجأة.. فتوالت طلقاتنا في اتجاه هذه الفريسة الثمينة.. حتى انفرط عقدهم، وراحوا يتخبطون في الطريق لا يلوون على شيء.. فمنهم من ترك سيارته فارًا عبر الصحراء لترديه رصاصاتنا قبل أن يجد له طريقًا.. وامتصت الرمال دماءهم.. وبدا لنا بعد ذلك أن بقايا الصيد بلا حارس.. فتقدمت فصيلتنا تجاه جنودهم لتأتي عليهم عن آخرهم..
* وكان قد بلغ الجوع بنا مبلغه، فوجدنا رزق الله في الغنائم من علب اللبن، والشيكولاتة، والخبز فأكلنا.. ثم سقنا هذه المصفحات والعربات بعد أن أحضرنا لها السائقين إلى معسكرنا محملة بالذخيرة والسلاح.. ووقفنا عند وصية قائدنا الشهيد «حسن البنا» وهو يقول لنا «إنكم سوف تستولون على سلاح لأعدائكم، وتسددونه إلى نحورهم».. فكانت هذه الغنيمة مددًا من الله ساقه لنا على يد أعدائنا فاستعملناه في كثير من العمليات التالية وكأنه كان يعرف رائحتهم فينطلق باحثًا عنهم.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
مع مدرس.. يصيف كل عام مع الفدائيين
* وفي غمار هذا الجو الذي أثار الشجن، وحرك مكامن الألم.. رأيته في بيت أحد الأصدقاء.. أعرف عنه أنه يعد نفسه كل عام في الصيف ليقضي إجازته مع الفدائيين، ويدخر من معاشه وأولاده طول العام ما يستطيع أن يكفل له الحياة على نفقته الخاصة في أرض المعارك...!! فقلت له هات ما عندك...
فأخذ يحكي لي أن الرصاصة الأولى التي أطلقت في الميدان عام ١٩٦٥ كانت من الفتية المسلمين، وأن معارك بيسان واقتحام المستعمرات كان أبطالها المسلمين...!!
اللينينيون يموتون بدون قتال
* وإنه قد صادفت ذکری مولد الرسول صلى الله عليه وسلم احتفالات الشيوعيين بميلاد «لينين» فتنادوا باحتفالهم في فلسطين.. لكنهم ذهبوا ولم يعودوا إذ أبيدوا بدون قتال...!! بينما قرر فتية من شباب الحركة الإسلامية أن يرضوا الله ورسوله بالشهادة في سبيله في هذه الليلة.. فأدوا صلاة العتمة، وتوجهوا للمعركة التي تم لهم فيها النصر دون أن يفقدوا واحدًا منهم!!
شهيد لم يركع لله إلا ركعتين!
* وإنه كان في إحدى القواعد بالمنطقة السورية في السنوات القليلة الماضية بعد «النكسة»، وإذا برجال من الحركة الإسلامية يحضرون ليستأذنوا من قيادته أن تعطيهم مرافقين لهم في داوريتهم.. فاختارت قيادة القاعدة لهم إثنين ليرافقوا الإخوة المؤمنين..
وعند الحدود قاموا لأداء ركعتين لله كعادتهم طهارة وتوبة، ورجاء من الله وطلبًا لمعونته، وطمعًا في قبول موتاهم شهداء.. إلا أنهم وجدوا أحد المرافقين لهم لا يصلي مثلهم.. فقال قائدهم له: لماذا لا تصلي يا أخانا؟ ألست مسلمًا؟!
قال: نعم.. ولا أعتز بشيء أكثر من إسلامي..!!
لكني للأسف تعلمت تعليمًا مدنيًا في بلدي العربي حيث لا يدرس لنا شيء عن الدين الإسلامي!! ومن ثم لا أعرف كيفية الوضوء ولا الصلاة.!! فانتظروا معه حتى علموه كيفية الوضوء وتوضأ، وكيفية الصلاة وصلى.. ثم واصلوا سيرهم حيث تخطوا الحدود إلى الأرض المحتلة..
وأداروا معركة مع العدو کبدوه خسائر جسيمة، ثم عادوا إلى قواعدهم إلا مرافقهم الذي استشهد على أرض المعركة.. وبقي جثمانه الطاهر على ثراها في الصيف القائظ مدة يومين حتى تم إحضاره ليشيع في موطنه.. ولم يكن غريبًا علينا أن لا نشم من جدثه الطاهر إلا الرائحة الطيبة فقد صدق الله فصدقه!!
وصدق الله العظيم:﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (ال عمران:169)
* إنه ليحق لليهود أن يصرحوا بأنهم لا يخافون إلا من جيش إسلامي يتحرك بعقيدته ويتسلح بإيمانه.. ويحق لهم أن يكونوا خلف كل مؤامرة تحاك للقضاء عليهم.. وأن يتم إنهاك قواهم خلف أسوار المعتقلات والسجون...!!
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4،5)
أبو هالة
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
عبدالعالـي حسانـي: «مجتمع السلم» تتبنى مشروع الوحدة بين أبناء الحركة الإسلامية كافة بالجزائر
نشر في العدد 2182
32
الثلاثاء 01-أغسطس-2023