العنوان في فقه الدعوة (6).. طريق تنمية الحركة الدائبة
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر الثلاثاء 31-مايو-1983
مشاهدات 21
نشر في العدد 623
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 31-مايو-1983
لا يشعر بلذة العبادة إلا
من فقهها، وتتحول تلك العبادة إلى حركات ميتة لا روح فيها ولا لذة إذا فقد فقهها.
الكثير
منا يذكر الله بأذكار مختلفة، وأدعية مختلفة لكل عمل يقوم فيه، ولكن القليل الذين
يفقهون معنى ما يقولون وما يفعلون، فعندما نركب في السيارة نقول: ﴿سُبْحَانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَىٰ
رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ (الزخرف: 13-14)(95)، لو فقهنا معنى هذا الدعاء، ونحن
على الدابة بأنه لولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه، (وإنا إلى ربنا لمنقلبون)،
أي: صائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا
على سير الآخرة(96).
فعندما
نقول: «سبحان الذي سخر لنا هذا» نرى عظم هذه الدابة، التي نركبها، ولولا تذليل
الله لها لنا لنركبها ما قدرنا عليها، فنعظم الله ونحمده على ذلك، وعندما نقول:
«وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ونحن على الدابة وهي تسير نتذكر أننا أيضًا سائرون إلى
الله، ففي حركة الدابة نتذكر بحركتنا نحو الآخرة.
هذا
الاستشعار حري بأن يعطي لكل مسلم وقودًا عندما يتذكره في زخم هذه الحياة المادية،
وكذلك
حينما نتوضأ للصلاة، لو استشعرنا عندما نغسل أيدينا، فإن الذنوب التي اقترفتها
أيدينا تتساقط مع الماء الساقط، وعندما نتمضمض تخرج كل كلمة قد أغضبت الله -سبحانه
وتعالى- وتنزل مع الماء إلى مكانها الذي يلائمها، وعندما نغسل وجوهنا فإننا نغسلها
من كل نظرة محرمة اقترفتها أعيننا، وعندما نغسل آذاننا فإننا نغسلها من كل كلمة
فاحشة تعارض كلمات التوحيد، فيستقر فيها فقط ما تناسب مع التوحيد، ونغسل أقدامنا
فنطهرها من الخطوات، التي خطتها إلى أماكن المعصية واللهو والغفلة، وذلك مصداقًا
لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه
خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل
يديه خرجت من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء؛ حتي
يخرج نقيًّا من الذنوب» (۹۷).
ولو
استشعرنا ونحن خارجون من المسجد بتقديم القدم اليسرى قبل اليمنى، أن معنى ذلك هو
إننا نقدم اليسرى للدنيا، والتي هي أقل طيبًا من بيت الله، الذي نقدم له اليمنى
عند دخولنا، فلو تذكرنا عند كل خروج هذا الأمر، لكنا على تذكر دائم بدناءة الدنيا
وهوانها على الله، فيجيش فينا الشعور بالعمل للآخرة.
وهكذا
في كل عمل نقوم فيه أو دعاء نقوله، نستشعر ونتعرف على فقه ما نقول، وما نفعل حتى
يكون ذلك أحد طرق تنمية الحركة النملية في ذواتنا.
7-عدم
تصديق المعوق والمبطئ
والأجساد
المتحركة لا تتوقف إلا بمؤثر داخلي أو خارجي، فإذا افترضنا خلو تلك الأجساد من
المؤثرات الداخلية المسببة للتوقف بقي أن نعرف المؤثرات الخارجية، التي أبطات أو
أعاقت أو أوقفت تلك الأجسام المتحركة، وكما أن هذه النظرية تنطبق على الجمادات
فإنها تنطبق على البشر تمامًا، ومن واقع تاريخ الدعوة من عهد الرعيل الأول إلى
عهدنا هذا يتبين أن كثيرًا من المفتونين والمبتعدين عن صف الجماعة إنما أبعدهم أو
أبطأ بهم ذلك التأثير الخارجي على أجسامهم، التي كانت متحركة.
والقرآن
الكريم فضح هذا الصنف من الناس، وجعلهم في صف المنافقين؛ لأنهم يكونون داخل الصف،
وينخرون فيه بتثبيطهم وتعويقهم وتبطيئهم.
أ –
المبطئ:
يقول
تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ
قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا﴾
(النساء: 27)(۹۸).
يقول
القرطبي: «والتبطئة والإبطاء: التأخر، تقول: ما أبطأك عنا، فهو لازم، ويجوز: بطأت
فلانا عن كذا، أي: أخرته، فهو متعد، والمعنيات مرادة في الآية، فكانوا يقعدون عن
الخروج، ويقعدون غيرهم»(۹۹).
يقول
سيد - رحمه الله: «ولفظة «ليبطئن» مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر، وإن
اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها؛ حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدًّا، وإنها
لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرًا كاملًا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها».
وذلك
من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة.
وكذلك
يشير تركيب الجملة كلها ﴿وَإِنَّ مِنكُم لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ (النساء: ٧٢) بأن
هؤلاء المبطئين، وهم معدودون من المسلمين «منكم» يزاولون عملية التبطئة كاملة،
ويصرون عليها إصرارًا، ويجتهدون فيها اجتهادًا، وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات
في الجملة، فما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف
المسلم، وشدة ما يلقاه منها»(١٠٠)؛ لذلك يحذرنا القرآن من هذا الصنف أشد الحذر؛
ليصفي بذلك هممنا، ولننطلق لبناء هذا الصرح، الذي هدم منذ أمد طويل، فكل بطء في
عملية البناء معناه تأخير في قيام حكم الله الذي يريد.
ب-
المعوِّق:
يقول
الله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ
لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾
(الأحزاب: 18)(۱۰۱)، يقول القرطبي: «والعوق: المنع والصرف، يقال: عاقه
يعوقه عوقًا، وعوقه وأعاقه، بمعنى واحد»(۱۰۲).
وهؤلاء
قد يكونون داخل الصف المسلم، وقد يكونون خارجه، وهذه هي طبيعة الإعاقة، فإنها لا
تأتي من داخل الصف فقط، إنما تكون خارجة بصورة أشد من جميع أعداء هذه الدعوة سواء
كانوا من أهل الكتاب أو الملحدين أو من الذين غطى الران على قلوبهم من بني جلدتنا.
والتعويق
يأتي بصورة مختلفة، منها:
1- الشبهات: فقد
يأتي بإلقاء الشبهات على العاملين للإسلام؛ لينفر الناس منهم باختلاق بعض
الاتهامات الكاذبة على بعض قيادات العمل الإسلامي؛ لينشر البلبلة بين الصف الواحد.
ومثال
ذلك قول فرعون لقومه عن موسى: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ
لَمَجْنُونٌ﴾ (الشعراء: 27) (۱۰۳).
2-
الإغراءات: وقد
يأتي بصورة الإغراءات الدنيوية من مال أو منصب أو بعض التسهيلات لبعض العاملين في
حقل الدعوة؛ بغية فتنتهم، وهذا ما فعلوه مع الرسول -صلى الله عليه وسلم.
3-
التضييق: وذلك
بسن القوانين التي تعيق الانطلاق للعمل الإسلامي، كمراقبة الخطب والمحاضرات أو
حضور العسكر بزيهم العسكري أثناء إلقاء المحاضرات أو عدم إعطاء التراخيص للمجلات
الإسلامية، أو محاسبة المجلات الإسلامية على كل ما تكتب، وكذلك مراقبة التجمعات
حتى وإن كانت في المساجد وغيرها من الحركات المعوقة للانطلاق الطبيعي للدعوة، كل
ذلك يعمل بحجج كثيرة، مثل: عدم التدخل في شؤون الغير، وعدم تعكير الأمن الداخلي،
وحفاظًا على وحدة الصف وغيرها من الحجج، التي عادة ما تنطلي على قطاع عريض من
الناس.
4-
التهديد: وجاء
هذا في القرآن في مواضع كثيرة، منها تهديد أصحاب القرية للرسل المرسلين إليهم:
﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ﴾ (يس: 18) (١٠٤).
ويستخدم
أصحاب التعويق هذا الأسلوب أحيانًا إذا خشوا حدوث ردة فعل من الشعب، أو إذا لم
يروا مبررًا يمنعون فيه الدعاة من دعوتهم، أو إذا لم يكن لديهم حسابات دقيقة بقوة
المعارضة.
5-
التعذيب: وهذا
الأسلوب يمارس لاستخراج بعض الاعترافات، ويمتنع المعوق هنا من القتل؛ لأنه يعلم
أنه إذا قتل ذلك الداعية قتل معه الاعتراف الذي يريد، وهناك سبب آخر لممارسة هذا
الأسلوب، وهو تلذذ صاحب التعويق بإذلال المعارض له، وطمعه بأن يأخذ منه إقرارًا
لسياسته وطغيانه؛ حتى يقنع نفسه داخليًّا أنه انتصر على المعارضة، وقد مورس هذا
الأسلوب قديمًا لأتباع الرسل -عليهم السلام- ومازال يمارس في معظم الدول الإسلامية.
6-
القتل: وهذا
آخر ما يلجأ إليه الطغاة أصحاب التعويق عندما يشعرون بشدة الخطر على مراكزهم، أو
عندما ييأسون من استخراج كلمة واحدة تقر باطلهم أثناء التعذيب، وكذلك ليرعبوا
القاعدة من التحرك، فيحققوا بذلك أعتى أنواع الإعاقة.
ولابد
لكل زمان ومكان يوجد فيهما دعوة للحق أن يكون لها معوقون ومبطئون من الداخل، ومن
الخارج، ولابد لأصحاب الحركة الدائبة من الوعي بتحركات هاتين المجموعتين، والحذر
كل الحذر منهما.
8-
تذكر البرزخ واليوم الآخر:
إذا علمنا أن أحد المعوقات
عن التحرك الدائب هو التعلق بالدنيا، فإنه لابد أن يكون العلاج لذلك: الزهد في
الدنيا والزهد في الدنيا لا يتأتى إلا بالتذكر الدائم في حياة ما بعد الموت وأهوال
اليوم الآخر، ولعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن ذكر الموت كفيل بالزهد في
الدنيا وملذاتها فإنه كان يوجه أصحابه -رضوان الله عليهم- لتذكر الموت؛ لئلا تفتر
هممهم بتعلقهم بالدنيا الفانية، فيقول: «أكثروا ذكر هادم اللذات»(١٠٥). قال
الطيبي: «شبه اللذات الفانية والشهوات العاجلة ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات
هائلة، ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهادم لئلا يستمر على الركون إليها، ويشتغل عما
يجب عليه من الفرار إلى دار القرار»(١٠٦). وكان صحابته -رضوان الله عليهم- خوفًا
منهم من الفتور والركون إلى الدنيا، يطبقون ما كان يوصيهم به رسولهم- صلى الله
عليه وسلم، فها هو هانئ مولى عثمان -رضي الله عنه- يقول: «كان عثمان إذا وقف على
قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال:
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن
نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه»(۱۰۷). يقول الإمام المباركفوري:
«قيل إنما كان يبكي عثمان -رضي الله عنه- وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة، إما
لاحتمال أنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار
مطلقًا، مع احتمال أن يكون التبشير مقيدًا بقيد معلوم أو مبهم، ويمكن أن ينسى
البشارة حينئذ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفًا من ضغطة القبر كما يدل حديث سعد
-رضي الله عنه- على أنه لم يخلص منه كل سعيد إلا الأنبياء، ذكره القارئ «إن القبر
أول منزل من منازل الآخرة»، ومنها عرضه القيامة عند العرض، ومنها الوقوف عند
الميزان، ومنها المرور على الصراط، ومنها الجنة أو النار في بعض الروايات»(۱۰۸).
وهذا
هو سمت الصحابة -رضوان الله عليهم- فما كان الموت واليوم الآخر يفارق أذهانهم،
وذلك لينفكوا من أسر الدنيا التي تكبل المسلم في التحرك الدائب، وتجذبه إلى الطين؛
ليتحرك من أجله.
وهذا
ابن مسعود -رضي الله عنه- مر على هؤلاء الذين ينفخون في الكير فوقع(۱۰۹)، ويروي عنه: أنه مر على
الحدادين فبصر لحديدة قد احميت فبكى(۱۱۰)، فكل ما يقع عليه بصره
يربطه بالآخرة، وهكذا يجب أن يكون من أراد الانتساب لرواد مدرسة التحرك الدائب.
محطة استراحة
نخلص
من هذه الصفات التي إذا تأصلت في مسلم أنتجت حركة دائمة لرفع كلمة الله عاليا، أن
معنى التحرك الدائب ليس هو عدم إعطاء النفس بعضًا من الراحة غير المفرطة، فلابد
للمتحرك من محطات يستريح فيها، ويراجع حساباته، ويستجمع قواه؛ لئلا تخور فيفتر،
والحذر من الركون لهذه المحطات الصغيرة للراحة، وعدم العودة للثغر الذي كان يدفع
عنه.
الهوامش
(٩٥)
الزخرف: ١٣
(٩٦)
تفسير ابن كثير: 4/123
(۹۷) مسلم: ٢٤٤ - كتاب الطهارة
(۹۸) النساء: ۷۲
(۹۹) تفسير القرطبي، جـ ١٨٤٥/٣،
١٨٤٦، ط - د الثقافة
(۱۰۰) الظلال 2/5- 70.
(۱۰۱) الأحزاب: ۱۸
(١٠٢)
القرطبي: ١٥١/١٤، والكتاب العربي
(۱۰۳) الشعراء: ۲۷
(١٠٤)
يس: ١٨
(١٠٥)
الترمذي - التحفة ٢٤٠٩، وصححه الألباني من: ص (1221)
(١٠٦)
تحفة الأحوذي ٥٩٤/٦
(۱۰۷) الترمذي - التحفة (٢٤١٠)،
وحسن الألباني ص: ص (1680)
(۱۰۸) تحفة الأحوذي: ٥٩٥/٦
(۱۰۹) الزهد: ص ١٦٠
(۱۱۰) الزهد: ص ١٦٣
الرابط المختصر :