العنوان عالمية الأدب.. الأندلسي
الكاتب أ.د. عبد الرحمن علي الحجي
تاريخ النشر الجمعة 01-أغسطس-2014
مشاهدات 23
نشر في العدد 2074
نشر في الصفحة 58
الجمعة 01-أغسطس-2014
غني بأروع الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا.. غزير المادة رفيع الفنية عفيف الأرضية
يُظهر
جمال ما حوله... مرغوب المعاني.. يمس الجوانب الإنسانية ومشاعرها ويغنيها
ترجم
الكثير منه إلى اللغات الأخرى وخاصة الأوروبية
الأديب
الأندلسي:
·
استقامت فطرته وسَمَتْ نفسه وارتقت آفاقه متمتعا
بالأحاسيس والمشاعر النبيلة.
·
يتمتع بالكفاءة والوفاء متجاوباً مع الحياة وأحداثها.
·
الأدب الإسلامي الأندلسي أولى من غيره وأحق أن يتسم
بالعالمية ليكون مثالا يحتذى للآداب الأخرى.
أخذت
الآداب وفنونها شعرًا ونثرًا في الحضارة الإسلامية والأندلسية مساحة كبيرة، وتنوعت
كثيرًا مستوياتها وموضوعاتها ومراتبها، تأثرًا بعوامل التربية والبيئة والأحداث
والبناء، لم تكن صدى، كانت دليلًا موجها مقومًا حيًا بحيوتها، وكان المبدع المسلم
غير منكفي الحال، متجاوبا مع الحياة وأحداثها في كافة عصوره، يتمتع بالكفاءة
والتجاوب والوفاء بتقديم مرآة، تري وتروي الحياة الإسلامية من خلالها بأحوالها،
حتى تلك الحالات الشاذة المتفلتة مشيرة إلى رعايتها، دعوة وتوجيها وبيانًا، كي
تغدو متابعة، لا تجد مساحة عمومًا، بتفتح الحياة الإسلامية، نتيجة للثقة بنفسها
متجاوزة حدود الحذر والتوجس والترقب.
وقد
توقفت بعض الدراسات الحديثة عند القلة الشاذة العاقة الشاردة، لغرض في نفسها، ذهب
من وراءها ينقبون عما يحقق لهم مرامهم، ركزوا على القليل المنهزم المتقوقع أيامها
إن وجد، وقليل ما هو، تاركين جله الذي يحمل طابعه الحقيقي الرابض في عرينه مغلقا
محجوبًا مُبعدًا، كأنه لا وجود له، ليشرحوا ويمرحوا صائلين جائلين كما يشتهون جيئة
وذهابًا، حتى استقر في الأذهان: لا شيء غير هذا الهزيل الذي يقدمونه، مما كثرت
جعجعته لا يُرى له طحينًا، مثلما يشير إليه وحاله التقديم عابرًا.
تنقيب عن
الدرر
حالة
بائسة تَعَمَّمَتْ غَدَتْ مُسَلَّمَاتٍ جاهزة، حالها حال شُبهات كثيرة استبدت
بالساحات، جعل الأمر بحاجة ماسة إلى جهد جهيد، يتولى متابعة التنقيب والبحث
المتابع المكيث، لاستخراج مكنونات النتاج الأدبي العجيب، مبثوثًا في ثنايا أمهات
مؤلفات أئمتنا.
يَجِدُ
المهتم النتاج الأدبي متفوقًا أمام أي أدب عالمي آخر، تُبْحِرُ سفائنه بقوة غلابة
عُباب بحاره بهيئته المتمكنة على أسرة ملوكية، تكون مستقى لغيره.. علماؤنا
المبدعون في أحسن هيئة وسمت بأبهى ألوان كريمة، تتمشى وتربيتهم الملتزمة بكل ما
يعملون وما يقولون حتى في الغزل (1) البريء من العثرات والمنحدرات المهلكة، نجد
المناجم الغنية بأروع الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا، غزير المادة رفيع الفنية عفيف
الأرضية.
مواصفات
الأدب العالمي
هنا ماذا
يعني وإلام يشير الأدب العالمي؟
الأدب العالمي
يمكن تحديد بعض من معالمه ونوعيته ومواصفاته التي يمكن إجمالها في:
١ - أن يكون
معناه مُحَبَّباً، مقبول المضمون بمستواه الفني والوجداني والإنساني لعموم
الأقوام، جذابًا لأدباء العالم، الذين يتذوقون جمالاته.
٢ - أن يكون
مرغوب المعاني يمس الجوانب الإنسانية ومشاعرها ويغنيها، يُظهر جمالات ما حوله من
نواحي الجمال الطبيعي ووصفه من بيئة وحياة وخلقيات الجوانب الفطرية التي تجتذب
النفوس النقية، حداءً لمشاعرها المرهفة، إيقاظًا لدخائل النفس وسموها في عالم
النقاء والبراءة الدافئة الدافعة لإعلاء الكرامة، في فروسية مثيرة للنخوة وحب خير
الإنسان، تقع موقع القبول الذي يهز المشاعر الكريمة، مخاطبًا جوانبها الفاضلة
ليدعوها برفق وانسيابية وأريحية ندية هادية، لأجوائها الإيمانية بظلالها الإسلامية
السامية الواقعية.. هذه الموضوعات التي تهم الجوانب والأغراض والموضوعات الإنسانية
وتعمل على إعلائها، متناسقة مع خواص الفطرة، بما احتوته وصفًا وعدلًا وخلقًا، مما يجعله قمة الأدب العالمي وميزانه وفخره، طليعة جذابة مرتادة، في كافة أغراضه الرفيعة المترقية
الأثيرة، تمجيدًا للقيم الإنسانية الفضلى من الحب الرفيع للبشرية وعلاقاتها
النزيهة البريئة المتنامية، واستراحة للبيئة والطبيعة وأزهارها وأطيارها وأنهارها
واستحضارها الذكريات الندية التي تهز النفس استراحة فرحًا وتجييشًا لمشاعر تدنو
منها تكاد تشهدها ماثلة محركة متدافعة تستعيدها متأملة، تطلب منها المزيد، تدفع
للاقتراب من النسمات الخيرية الإنسانية يعمل مؤثرًا فاعلًا، ينميها ويدعو إليها
بذاتها دون وعظ:
والمسك
ما قد شَفَ عنه ذاته
لا ما غدا يَنْعَتُه بائعُهُ
عذوبة
شعرية
ينساب
إليها بما قد لا تملك النفس رفضه، تقبل عليه راغبة منشرحة مقبلة فرحة، بل وتبحث
عنه تطلبه وتشعر بالحاجة الماسة إليه، كهذه الأبيات التي غنتها قمر البغدادية أو
رد السالمي لقمر الوافدة إلى الأندلس من بغداد لما ذكرها عدة أشعار منها قولها
تتشوق إليها (٢)، وتذكر بغداد والهوى العذري وعفته فيها:
آها على
بغدادها وعراقها
وظبائها والسِّحْرُ في أَحداقها
ومجالها
عند الفرات بأوجه
تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات
في النعيم كأنما
خُلِقَ الهَوَى العُذْرِي من أخلاقها
نفسي
الفداء لها فأي محاسن
في الدهر تشرق من سنا إشراقها
وتتحدث
كذلك عن الذكريات والديار والتشوق إليه لقاء بعد فراق، غنتها إحداهن بعد اغتراب،
بعدها تنادى القوم مكررين يريدون الإعادة «جذوة المقتبس، الحميدي، ص ۱۱۲»:
لما
وَرَدْنا القادسية حيث مجتمع الرفاق
وشممت من
أرض الحجاز شميم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق
وضحكت من
فرح اللقاء كما بكيت من الفراق
حكاية
طريفة
يَرْوِي
المقري (١٠٤١هـ / ١٦٣١م) (٣) حكاية طريفة عن هذا
اللغوي الأديب الشاعر أبو علي القالي، كان يُملي كتبه، ككتابي «النوادر»،
و«الأمالي»، موصوف منذ صباه بالحذق والذكاء والنباهة (٤): أن طلبته الذين كانوا
ينتابون مجلس بيته ظاهر قرطبة، يومًا كان ممطرًا وموحلًا لم يحضر منهم سوى واحد،
لما رأى الشيخ حرص هذا التلميذ على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال - كان لديه بعض
الشيوخ أو أَحَدُهم - أنشده لنفسه مُرْتَجِلا:
دَبَبْتً
للمَجْدِ والساعُونَ قد بلغوا
حَدَّ النفوسِ وَالْقَوْا دُونَهُ الأُزْرا
وكابَدُوا
المَجْدَ حَتى مَنْ أَكْثَرُهُمْ
وعانَقَ المَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرا
لا تحسبِ
الْمَجْدَ تَمْرًا أَنتَ آكِلُهُ
لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتى تَلْعَقَ الصَّبرا
الوزير
الشاعر
أبو عمر
الوزير: أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب والد الفقيه أبو محمد ابن حزم كان وزيرًا في
الدولة العامرية، ومن أهل العلم والأدب والخير وكان له في البلاغة يد قوية كما كان
واسع العلم متبحرًا فيه، مما نقله عنه ابنه من حكمه التي بعض وصاياه له قوله (٥):
إذا شئت
أن تحيا غنيا فلا تكن
على حالة إلا رضيت بدونها
غدا من
الملاحظ مما يرد خلال استعراض أحوال المجتمع الأندلسي، أريحية أهله بادية في كرم
النفوس والنجدة والإيثار أورد المقري في نفحه نماذج بليغة، رافق ذلك غيرة على
الدين وجدية وحماية لحدوده، كما وَفَرَتْ أجواؤه التمتع حلالًا بما وهبهم الله
تعالى، يستجيبون له في حياتهم للمؤانسات والمجالس والمنازه، كَثُرَتْ عندهم
الخُضْرَة والبساتين وحدائقها والمتنزهات والأنهار والقناطر، النماذج جد وافرة،
منها هذا الذي جرى مع الوزير الحسيب النسيب الكريم: أبو محمد عبد الرحمن بن مالك
المعافري، أحد كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك
وأخلاق السادة، لم ير بعده مثله في رجال الأندلس ذاكرًا للفقه والحديث بارعًا في
الآداب شاعرًا مجيدًا وكاتبًا بليغًا كثير الخدم والأهل، ومن آثاره الحمام بجوفي
الجامع الأعظم من
غرناطة،
وزاد في سقف الجامع من صحنه وعوض أرجل قسيه أعمدة الرخام وجَلَبَ الرؤوس والموائد
من قرطبة، وفَرَشَ صَحْنَه بكذان الصخر.
توجيه
بليغ
ووجهه
أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها، فلما حلها سأل قاضيها فكتب
له جملة من أهلها مِمَّن ضَعُفَ حاله وقل تصرُّفه مِنْ ذوي البيوتات، استعملهم
أمناء ووسع أرزاقهم حتى كمل له ما أراد من عمله، ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله،
فصدر عنها وقد أنعش خَلْقاً رضي الله عنه ورحمه، من شعره في مجلس أطربه سماعه وبسط
احتشاد الأنس فيه واجتماعه فقال بيتيه البديعين (1):
لا تلمني
إذا طربتُ لشجو
يبعث الأَنْسَ فالكريمُ طَرُوبُ
ليس
شَقُّ الجُيُوبِ حَقًّا علينا
إِنَّمَا الحَقُّ أن تُشقَّ القلوب
٣-
يَبْقَى النتاج الأدبي بهذا وغيره صالحًا لكل زمان ومكان وإنسان، استقامت فطرتُه
وسَمَتْ نفسه وارتقت آفاقه، متمتعًا بالأحاسيس والمشاعر والنَّبَالة الإنسانية الكريمة
الرفرافة الشفافة، مما نجده في النتاج الأدبي الأندلسي شعره ونثره، جعله مرجوًا لا
تمله النفس بل تسأل منه المزيد، مما كان يجعل القادم للأندلس لا يريد الخروج منه،
بل قد يعشقه فرحًا ببقائه فيه دون ملل.
أَعِدُ
ذِكْرَ نُعْمانِ مراراً فإنه
هو المسكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
معاني
الفروسية
بهذا
يغدو الأدب العالمي مما تداخله معاني الفروسية بأخلاقياتها، ذلك:
١- حيث تكون
الفروسية أحد مكونات الأدب العالمي، باعتبارها بعض ثمار نتاجات هذا الآداب الناشئ
من منابت البناء الكريم الذي أشاده منهج الله تعالى، يُشيده على الدوام، كلما كان
الالتزام الحق الواضح به وبمقداره، أمر يسير طردًا.
٢- الأدب
الإسلامي والأندلسي أولى من غيره وأجدر وأحق أن يتسم بالعالمية، ليكون مثالًا
يُحتذى للآداب الأخرى التي تود الانعتاق من الضيق إلى السعة المنفتحة لاستقبال
الخير وارتسامه والاعتصام به تَحْتَذِيه خروجًا إلى الساحات المنيرة الفيحاء
البهيجة، مُحبَّةً للسير في مدارج الحضارة الإنسانية الفاضلة الرفيعة الكريمة؛
لذلك تُرجم الكثير منه إلى اللغات الأخرى والأوروبية، حيث تجدر الإشارة في ذلك إلى
کتاب: «طوق الحمامة وظل الغمامة في الألفة والألاف» (الحب والمحبين).
٣ - الأدب
الأندلسي بكرائمه الإنسانية المرجوة المحببة مطبوع بالعالمية، كلما كان سائرًا مع
التربية الإسلامية ومبانيها ومضامينها، بذلك يمكن التغني به بما يحتوي من حقائق
إنسانية ووقائع وجدانية مؤثرة تحمل المصداقية الحياتية المباشرة تدخل بلا استئذان،
فكأنهما على ميعاد كل ذلك اعتباره المقولة المهمة الكريمة قائمة فيه: «أجملُ
الشَّعْرِ أَصْدَقُه»:
تغن
بالشعر إما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
الهوامش
(۱) اتخذت
الدعوة إلى الغزل الرفيع عَمِلْتُ له وقلت
فيه بهذا التوجه في ميدانين:
- الارتقاء
بالغزل إلى العفة بنظافتها المعهودة.
- تعميم
الغزل ليشمل الحياة والأحياء الخليقة «الطبيعة»، يعود لمنبته مستديرًا بزمانه لما
كان عليه بذاتيته المعهوده لأهله.
(٢) نفح،
3/ 140 – 141.
(٣) نفح
الطيب، 2/ 73.
(٤) نفح،
3/ 70 وبعدها.
(٥) جذوة
المقتبس، الحميدي، 112 – 113 (رقم: 215).
(٦) نفح
الطيب: 1/ 675، 3/ 232 – 233، الشجو وشجاه الحديث: أطربه وشوقه وأثار ذكرياته.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل