العنوان عالم الفكر الذي قاد إلى الهزيمة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 09-نوفمبر-1982
مشاهدات 15
نشر في العدد 594
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 09-نوفمبر-1982
. جمال عبد الناصر قيد قضية المسلمين بأغلال
القومية
النتائج الماثلة على الساحة اليوم:
إن لكل فكر إفرازاته ونتائجه التي لا بد أن تسود ما دام هذا الفكر سائدًا وقد رأينا أن الأمة لم تخضع لفكرة أو فكرتين أو تيار أو اثنين بل ماجت ساحتها بكل إفرازات الفكر الغربي بمختلف معسكراته واتجاهاته وبهذا الخليط غير المنسجم والمتجاور في ساحة واحدة في آن معًا والذي يضاد الأمة في قصورها ووجهتها أيضًا.
كان لا بد من تفاعل هذه العناصر المعتملة في أوساطنا ومن مثول صور هذا التفاعل الغريب في اضطراب فكري وتحزب فئوي وما ينتج أثناء ذلك من استيلاء هذا الفريق أو ذاك على سدة الحكم وما يعقبه وهلم جرًّا.
ولا نريد أن نعيد هذه الحقائق المعلومة أو نذكر الناس بما اعتادوا عليه من جباه وفئات وشعارات وتناحر وما إليه من المعلوم من الواقع المعاش بالضرورة. ولكنا فقط نريد أن نركز الضوء على المعالم الأساسية المتصلة اتصالًا مباشرًا بعالم الهزائم المتوالية والتي فرخت في النهاية هذا الاستسلام المريع.
أمة بلا رسالة ولا شخصية
إن أخطر ما أنتجه هذا الفكر السائد من وقائع تتصل بالمصير القريب والمعاش للأمة أنه فرغها من رسالتها الأساسية، فقد كانت هذه الأمة تعرف أنها مكلفة برسالة لا بد من أدائها ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة:١٤٣) وقد كان ذلك سلاحها الأساسي في معركة الحياة وما بعد الحياة، ولكنها أبعدت عن هذه الرسالة بمقتضى حيثيات هذا الفكر الوافد فقدت كمًّا بلا تأثير وصارت تحيا بلا هدف ولا غاية في هذا الوجود في عالم تبحث كل أممه عن رسالة لها فيه ولو كانت باطلة!!
وانبنى على هذا وبصورة تلقائية انعدام الخصائص المميزة لهذه الأمة حتى اعترفت إحدى المتحمسات للقومية العربية بالقول مرة واحدة «وإنما
نحن أمة مضيعة لم تعد لها قيم ولا شخصية» ص71: التجزيئية في المجتمع العربي؛ نازك الملائكة؛ وقد صدقت هذه الأديبة فيما قالت فلو سألنا. اليوم إنسانًا من هو العربي الحار في الجواب لأن هذا العربي صار أي شيء، وهذه آل أي شيء. جعلته في ميزان الوجود لا شيء. وذلك أنه لا وزن في الحياة إلا للمتميز أما هذا الهجين قائمًا هو ملهاة للأمم القوية تتسلى بها وتزجي أوقات فراغها وكان الفكر السائد في الساحة موكول بأداء هذه المهمة وقد قام بها خير قيام.
فهذا «العربي» ما عاد هناك شيء يميزه ولا حقيقة يعرف بها غير الدائرة الجغرافية وبعض الانتساب التاريخي لدى من بقيت لديهم قيمة لهذا الانتساب.
هذا «العربي» - كائن سريع الذوبان لا سيما أن كان خارج حوزته وإقليمه فهناك تبرز حقيقته ويظهر وزنه ولعل الناس ينشدون المثال المجسد للمقال فأسوق لهم.
العرب المهاجرون
هذه مجموعة من الناس هاجرت في ظروف معينة وأحوال مختلفة وتواريخ متباينة واستقر بها المقام في أصقاع مختلفة في أوروبا والأمريكتين، وإنما يتضح المقصد بالمقارنة فلو قارنا دور هذه المجموعات المهاجرة– وهي بالملايين– في أوروبا وأمريكا وأثرها على الرأي العام والمجتمعات هناك ثم قارناه بدور وأثر المجموعة اليهودية لوجدنا فارقًا خياليًّا في الأداء والتأثير.
ومع علمنا بالملابسات الخاصة التي تحكم التأثير هناك من أصول عقدية وثقافية مشتركة بينهم وبين أولئك القوم إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة ما ترمي إليه وهو انعدام التأثير لمجموعات هائلة في عددها على الأقل بل إن البعض من أولئك المهاجرين نسي كل ما يمت لعالمه هذا بصلة وذاب كيانه هناك حتى في المشاعر والأحاسيس فما عاد تمييزه ممكنًا بغير السحنة واللون وقد يوجد من ينكر أصله ونسبته للعرب وعالم العروبة!
والعقول المهاجرة:
وأكثر من هذا إيلامًا قصة هذه العقول «العربية» المغتربة التي ربما كانت تساهم بطريق غير مباشر في إنتاج ما يهلك الأمة ويدمرها بعملها لصالح
أعدائها التقليديين.
ويهمنا في هذا المقام أن ننوه بالحقيقة الأساسية فيما نعتقد عن أثر عالم الأفكار الباسط لسلطانه في أوساط الأمة الآن تجاه هذه المجموعة الثمينة.
وخلاصة ما يمكن قوله في هذا أن الأمة العربية هذه فشلت بحكم واقعها السائد في اجتذاب هذه المجموعات بل لا أبالغ إن قلت إن قيم التعامل السائدة الآن تجبر هذا النفر على الابتعاد. ذلك أن المرحلة التي تعيش فيها هذه الأمة تجعل مكانة «العالم» دون مكانة «الراقصة»، أو «المهرج»، أو «لاعب الكرة» في أحسن الأحوال ولا داعي للاستشهاد فنحن مأمورون بالستر!
أسماء الاضداد:
هذه ظاهرة سائدة في الساحة العربية بل صارت من أكبر مميزاتها فكثيرًا ما تطلق الأسماء وتمارس مقلوباتها وهذا إن كان يعكس داء خلقيًّا متمثلًا في افتراق القول عن العمل أي أنه يجسد ظاهرة الادعاء والكتب «الممنهج» في الفكر «العربي» المعاصر.
فقد تجد رافع لواء الاشتراكية ينافس أباطرة العهود القيصرية في طريقة عيشه والرافع لشعار الديمقراطية فإنما يعني الدكتاتورية والمتسمى بالعروبة يكون أكثر المبتعدين عن حقيقتها والمجافين لها.
ولو توقعنا– مثلًا– أمام هذه «القومية العربية»، وحاولنا رؤية هذه «العروبة» في ظلالها فستصاب بالذهول حقًّا إذ إن من الملاحظات التي تسجل في هذا الشأن أن قمة السيادة للفكر الغربي وتياراته كانت من خلالها بل إن الدعوة للعامية وإحلالها محل الفصحى ازدهر ونما تحت هذه القومية حتى تساءلت نازك الملائكة– وهي من المبشرات بهذه القومية– ذات مرة «أترى حياتنا الأدبية تسير في اتجاه معاكس لحياتنا القومية» «المصدر السابق» وحسبي بهذا الاستفهام بيانًا!
إدمان النفاق
وهذه من أكبر السمات المميزة للفكر العربي المعاصر من خلال وسائطه السائدة لا سيما صحفه ومجلاته ونود أن نقف بالقارئ عند أمر معتاد لا ننتبه له كثيرًا وما كنا لننتبه له لولا الظرف الخاص الذي أحاط به.
ففي أيام الغزو الإسرائيلي الأخير للبنان ونجاح العدو في فرض شروطه بترحيل المقاومة كان كل فرد حريصًا على متابعة الصحافة اليومية للإحاطة بما يجري وقد توقعنا أن تسلك هذه الصحافة سلوكًا متناسبًا واللحظات العصيبة التي تمر بها الأمة فإن أصول اللياقة تقتضى أن تهذب مشاعرنا بما يقتضيه المقام فلا تطلق الضحكات والقفشات في لحظات التشييع لميت مثلًا، أو ما إليه، ولكن مسلك صحافتنا كان غريبًا حقًّا وفاتها الالتزام بأصول اللياقة حتى في هذه اللحظات العصيبة وقد كنت ترى قمة التناقض الذي تعيشه الأمة واللهو العابثة في ساعة الخطر والحزن المفتعل والمشاعر الكاذبة من خلال الأجهزة والصحافة منها بوجه أخص فكنت تلاحظ أن الصحيفة التي تذرف الدموع الغزيرة في صفحاتها الأولى متحدثة عن «المأساة»، وتطورات الوضع الخطير ما تلبث أن تنتقل بك في صفحات «الرياضة» و«المجتمع» إلى عوالم مختلفة تمام الاختلاف حتى تأتي بلقطة مثيرة لممثله من «إياهن» مع التعليق المناسب طبعًا، فنحس أن مجلس العزاء الذي بدأ في الصفحة الأولى تحول خلال صفحات إلى مكان للمجون الصاخب!!! ونفس الأمر ينطبق على المجلات العربية السيارة وسائر وسائل الاتصال ولتتحقق من هذا بنفسك ولعلك تسلم معنا بعد هذا أن الحديث عن القضية عن هؤلاء يفقد معناه ومحتواه من خلال المنهج المطبق. وإنما هو أداء آلي مرهون بظرفه دون مراعاة لمقتضى الحال
إن أقل ما يمكن توجيهه لأجهزة التوجيه في هذا الأوان الحرج أنها تسلب الإنسان الاهتمام بمصير الأمة أو تبدده– على أقل تقدير– بصورة يغدو فيها اهتمامًا شكليًّا بالقضية المصيرية– زعموا– ونكاد نقول وفقًا لهذه الوقائع أن كلمة «فلسطين» لم يعد لها ذلك الرصيد الوهاج من الأحاسيس والرفق العاطفي بحكم ما يجري على إنسان هذا «العالم العربي» من عمليات «جراحية» إعلامية لاستئصال اهتماماته وتزييفها.
مثال مجسد:
يحسن بنا أن نتملى قليلًا في بعض الأمثلة المجسدة لما سبق أو بالأخرى أن نتفرس في ملامح «الضحايا» الذين ظهروا على الساحة العربية وسنستعين بمثال عام لا تخطئه العين وآخر خاص يعكس اتجاهات محصورة– لعلها– ولكن خطره يقوم في قابليته للانتشار.
أما الأول فما حدث إبان الغزو الإسرائيلي– أيضًا للبنان، فقد وافق ذلك الغزو مباريات كأس العالم فيما نحسب– واتفق أن خسر الفريق الجزائري مباراته أمام إحدى الفرق الأوربية بتدبير خاص يحمل طابع التآمر فخرجت مظاهرة صاخبة قوامها مئات الألوف ووصلت بها بعض الأخبار إلى المليون من الأنفس.
وليس ها هنا موضع المفارقة المقصود ولكن المقارنة المؤذية حقًّا تنبئ أن المظاهرة التي خرجت لنصرة لبنان وفلسطين في نفس الظروف كان قوامها أقل من عشر هذا العدد بكثير!! فهل في إمكاننا القول بأن توجهات الأمة زيفت لهذا الحد المريع وزاغت عواطفها عن سبيلها حتى بلغت حميتها للعبة الكرة عشرة أضعاف حميتها لبني رحمها ومودتها أم أن حملة التفريغ من الرسالة أجدت حتى أهملت الأمة الإنسان ومجدت اللهو والهوان!
والمثال الثاني الخاص ينبع إيلامه من أنه محصور في فئة منسوبة للشباب في أحد الأحياء الكويتية ففي الأيام التي وافقت مجازر صبرا وشاتيلا والتي فتتت الصخر لهولها وفظاعتها لم تفت صحفنا وأجهزة إعلامنا أن تنبه لموت أميرة موناكو والتي كانت «نجمة سينمائية»، ذات يوم قهرت الصياغة «المناسبة» التي ركزت على الظروف والملابسات المؤلمة المحيطة بموت الأميرة هزت قلوب هذا النفر من الشباب الضحايا فأرسلوا نعيًا مدفوع الأجر لإحدى الصحف اليومية حتى ينشر على صفحاتها وتعقلت الصحيفة فاعتذرت عن النشر. وأفاقت إحدى المحررات لتعترف في لحظة صدق أن الصحيفة مشاركة في وصول هذا الشباب لهذا المآل
ولم تنس أن تبرر بالطبع!!
ومحل العبرة أن الصياغة التي تمت لأبنائنا– وعملياتها مستمرة– تجعل مشاعرهم محتكرة تمامًا لموت ممثلة من غير ملتهم ولا تهتز لواحدة من أفظع المجازر البشرية التي شملت عدة آلاف من المنتمين للأمة!!
مناخ الاستسلام:
لقد كان فيما سبق محاولة للإحاطة بالواقع الفكري عبر نماذج معاشة دون أن تكون هذه الإحاطة شاملة أو كاملة بكل تأكيد. ولكنه الشاهد الذي يقرب الصورة من الأذهان لتصل إلى أن هذا الذي ذكر فيما سبق هو المناخ الفكري والنفسي والثقافي الذي ولدت مأساة الاستسلام في أحضانه.
وهو واقع إذا استمر فسيمثل ما هو أفظع وأكثر هولًا لأن طبيعة الأشياء النماء والانتشار وتخشى من يوم نترحم فيه على هذا الواقع مع سوئه وقبحه والعياذ بالله.
أخطر ما يمثل في الساحة
إن من أخطر ما يمثل في الساحة اليوم بحكم الواقع الفكري السائد والذي أشرنا لطرف من نتائجه وآثاره في تفريغه للأمة من رسالتها ومضامينها الحقيقية وشحنها بالمضامين المزيفة التي لا استجابة لها ولا تأثير أنه ونتيجة للشتات الفكري الذي ينتظم الساحة والولاءات المتعددة المتباينة في أوساطنا كانت النتيجة المباشرة لهذا كله أن فقدت القضية المصيرية للأمة المسلمة «فلسطين» كثيرًا من الولاء والإيمان بل أخشى أن أقول الشعور بها أيضًا. وهذا ناتج تلقائي لما تم سرده فيما سلف.
ما عاد لهذه الأمة من أمال حقيقية مشتركة ولا أماني قومية أو غير قومية كما تردد الإذاعات والصحف فالمفاهيم السائدة تطرد هذه الأماني والآمال أو تمسخها شعارات استهلاكية تضمن الرزق والمحافظة على الوجود لفئات معلومة جيدًا.
والأخطر من هذا:
وهل هناك ما هو أخطر مما سبق ذكره؟ نعم.
هناك قضية عزل الصادقين والحيلولة بينهم وبين الجهاد!! وهذا من أخطر معالم مرحلة الاستسلام هذه.
ولم يمثل هذا بين يوم وليلة وإنما تم عبر مراحل تاريخية مختلفة فبعد معارك فلسطين ١٩٤٨م واشتراك الفصائل الإخوانية فيها تنبه أهل الشأن في الخارج ومشاركيهم في الداخل إلى موطن الخطر الحقيقي في الأمة وخافوا من أن تنتقل عدوى. هذه الفئات إلى بقية أجزاء الأمة فبادروا بحبسها بل ضربها وقتلها عبر مراحل وظروف مفهومة للجميع والمشهد الأخير الذي سمع عنه جمهور الناس إبان الغزو الأخير: الحيلولة بين الراغبين في الجهاد وبين الوصول إلى الثغور أي أن الأمر تجاوز التزام اللامبالاة عند الأوساط الرسمية إلى إلزام الآخرين بها.
وقريب من هذا العزل العملي الذي تم بمحاولة فصل مالا ينفصل عبر المحاولات «القومية العربية». الرعناء التي حبست قضية المسلمين الأولى «فلسطين» بتبنيها لها ثم فرطت فيها تفريطًا أسلمها الآن إلى الاستسلام والإذعان التام.
وبعد:
فقد وضح أن الأفكار التي سادت في الساحة المسلمة عبر الحيز العربي هي التي مهدت السبيل وقادت المجموع نحو الحال الذي نعيشه الآن وإن هذا الظرف كان نتاجًا تلقائيًّا لعوامل وحقائق ما كانت لتنتج سواء وأن هذا الاستسلام إنما كان تتويجًا لاستسلام سابق وخضوع دليل في شتى مناحي الحياة ولا حاجة بنا إلى مزيد من الإضافة غير هذا التنبيه الذي تهمس به في آذان الإسلاميين.
وهو أن الدور دورهم والظرف ظرفهم والفكر الذي قاد الأمة لهذا المصير لا بد أن يلفظ أنفاسه عما قريب وإنما يكون هذا القرب بقدر إيماننا وسعينا لتحقيق ما تقول واستعدادنا لفداء ذلك السعي مهما غلا الثمن
﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ صدق الله العظيم.. (المجادلة:21)
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلأدوار سرية ورجال سريون ومعاهدات سرية ماذا جرى في الحركة العربية سوف تمزق الدولة العثمانية شَذَرَ مَذَر؟ «أتاتورك» ذلك الفخ الكبير!
نشر في العدد 34
21
الثلاثاء 03-نوفمبر-1970